Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نفايات لبنان... كعكة كريهة يتنازعها الفساد والإهمال

منذ ما قبل الحرب الأهلية تحاصص السياسيون والنافذون الملف سعياً إلى المكاسب من دون معالجة جذرية

متطوعون لبنانيون يجمعون النفايات العضوية من موقع احتجاج في وسط بيروت، 23 أكتوبر 2019 (أ ف ب)

ملخص

​​من أزقة بيروت إلى شوارع طرابلس، أزمة النفايات في لبنان تكشف عن معضلة عميقة وقودها الفساد والإهمال، فكيف تحولت المشكلة البيئية إلى مصدر ربح للنخب السياسية؟

منذ اندلاعها منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة تحولت أزمة النفايات في لبنان إلى رمز مؤلم للفشل الإداري والسياسي في البلاد، فالأزمة التي تفجر آخر فصولها بعد انتهاء عقود مطامر النفايات من دون وجود خطط بديلة فعالة لإدارة الملف، سرعان ما تفاقمت الأزمة لتغرق شوارع المدن اللبنانية الكبرى بالأكوام الهائلة من النفايات، مما أثار استياء عاماً واحتجاجات واسعة النطاق.

منذ ما قبل الحرب اللبنانية الأهلية وخلالها وصولاً إلى اليوم، لم تكن هناك معالجة صحية وواقعية لملف النفايات، خصوصاً مع شبكات المصالح المعقدة التي تشاركت فيها النخب السياسية والاقتصادية واستفادت من تقاسم "الكعكة الكريهة" من خلال صفقات متعهدي النفايات وإدارة المطامر العشوائية، مع تجذر الفساد وغياب الإرادة السياسية لإيجاد حلول جذرية ومستدامة.

المفارقة في هذا الملف القديم الجديد أن لبنان احتل المرتبة الثالثة عالمياً في قائمة أكثر البلدان تلوثاً وفقاً لتقرير "World of Statistics"، وهو البلد العربي الوحيد ضمن الـ 10 الأوائل، أما السبب الرئيس لهذا التلوث فهو سوء إدارة النفايات الذي يشمل ارتفاع نسب تلوث الهواء بنحو 50 في المئة ووجود 941 مكباً عشوائياً، منها ثمانية على الشواطئ ومكبات عدة تحرق في الهواء الطلق.

قبل الحرب وبعدها

قبل الحرب الأهلية لم تكن في لبنان مطامر مخصصة، وكان الأفراد يتخلصون من نفاياتهم المنزلية بشكل عشوائي فيرمونها بشكل فردي في الحدائق والأماكن العامة من دون نظام محدد، وهذه النفايات التي كانت غالبيتها قابلة للتحلل ولم تتضمن نفايات صناعية لم تشكل خطراً بيئياً كبيراً، أما بلدية بيروت فكانت تجمع النفايات وترميها في أماكن محدودة من دون وجود خطة واضحة أو دراسات لإدارة النفايات.

 

 

خلال فترة الحرب الأهلية تدهور الوضع بشكل ملحوظ، حيث برزت مكبات نفايات عشوائية في غياب أية وزارة معنية، خصوصاً أن لبنان حينها لم تكن به وزارة للبيئة، واستلمت وزارة الداخلية خلال أعوام الحرب مسؤولية متابعة ملف النفايات بالتعاون مع البلديات التي كانت تدير نفاياتها بشكل مستقل.

بعد الحرب برزت الأزمة بشكل كبير ومتدهور، إذ تراكمت كميات كبيرة من النفايات نتيجة الفوضى ومخلفات الدمار وخصوصاً في المدن الكبرى مثل طرابلس وبيروت وصيدا، وهذا الوضع دفع الجهات المعنية للتفكير جدياً في تأسيس تجمعات محددة للنفايات للقضاء على مسألة التخلص الفردي منها.

في عام 1992 أنشئت أول وزارة للبيئة في لبنان وبدأت الجمعيات البيئية تنشط أكثر فأكثر، ومع تزايد الضغوط البيئية بدأت الحاجة إلى تنظيم إدارة النفايات بين المنزلية والصناعية تأخذ أهمية متزايدة، مما أسهم في إبراز هذا الملف أكثر ووضعه في سلم الأولويات.

إدارة النفايات والمطامر

لم يضع لبنان حتى اليوم أية خطة عملية لمعالجة ملف النفايات وسار بها، وكل ما وضع إما بقي حبراً على ورق أو نفذ بشكل غير صحيح في ظل فساد إداري وسياسي وحتى بيئي.

ضمن الإدارة غير السليمة لملف النفايات برزت المطامر في لبنان، التي كانت موجودة منذ عقود، وتحديداً منذ التسيعينات، وأبرزها المطامر البحرية وعبرها كانت النفايات تُرمى في البحر، مما تسبب في تلوث كبير على الشاطئ وفي البحر. وأبرز هذه المطامر "مطمر الكرنتينا" الذي أنشئ بعد الحرب في منطقة برج حمود في العاصمة بيروت، ولا يزال قائما حتى الآن.

أما المطمر الثاني فهو مطمر النورماندي الذي أنشئ بعد انتهاء الحرب الأهلية، وتحديداً عام 1992 ضمن عملية إعادة إعمار أسواق بيروت، وكان الهدف من إنشائه رفع النفايات والردم والدمار وبقايا الأبنية المنهارة من أسواق العاصمة التي كانت مدمرة بشكل تام.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لكن رفع الردم والدمار ووضعه في البحر ضمن أعمال مطمر النورماندي تحول لاحقاً إلى ما يعرف اليوم بمنطقة سوليدير والبيال وسط العاصمة، التي أنشئت على أنقاض المطمر.

وبعد أعوام قليلة أنشئ "مطمر الناعمة" عام 1996 وخصص لاستقبال العوادم فقط، أي ما يستثنى من عمليات الفرز والتدوير التي لا تتجاوز نسبتها 10 في المئة من إجمال النفايات، بيد أن الواقع كان مغايراً، إذ طمر 90 في المئة من النفايات مما أدى إلى امتلاء المطمر سريعاً واستنفار السكان المحليين، وظل يعمل حتى عام 2015 حين أقفل، كما أن ضغوطاً من الجمعيات البيئية والبلديات المحيطة بالمطمر والمتعلقة بالروائح الكريهة والمشكلات البيئية كانت من الأسباب الرئيسة لإغلاقه.

إلى جانب هذه المطامر الكبرى توجد في لبنان مكبات أخرى مثل مكب صيدا ومكب الكوستا برافا والنبطية التي لا تزال قائمة، وإلى جانب ذلك يتنشر ما يقارب 1200 مكب عشوائي في كل المحافظات والأقضية، بحسب الجمعيات البيئية.

تداعيات 2015

بعد الحرب الأهلية ووصولاً إلى عام 2015 كثرت الخطط التي وضعت لمعالجة أزمة النفايات في لبنان لكنها لم تنفذ، وأتى عام 2015 ليفجر الأزمة أكثر، إذ امتلأت الشوارع اللبنانية بالقمامة بعد إغلاق مكبات "الكرنتينا" و"الناعمة" و"برج حمود"، وهذه الأزمة أثارت تظاهرات تحت شعار "طلعت ريحتكن".

بالتزامن مع ذلك انتهى عقد شركة "سوكلين" الخاصة لرفع النفايات وإدارتها ومعالجتها ولم يُجدد مما تسبب في تكدس النفايات في الطرقات، ورداً على ذلك اتخذ مجلس الوزراء قراراً بإغلاق "مكب الناعمة" نهائياً مما فاقم مشكلة النفايات في البلاد.

يذكر أن شركات خاصة مثل "سوكلين" ولاحقاً "رامكو" تولت ملف النفايات بإشراف من مجلس الإنماء والإعمار الذي يدير مشاريع البلاد، ويفترض أن يجري جميع المناقصات ويضع الشروط للشركات، وكذلك ينبغي لوزارات مثل المالية أن تراقب الجوانب المالية والضرائب، ولوزارة البيئة أن تطور إستراتيجية بيئية، بينما تعمل وزارة الداخلية عبر البلديات ووزارة الشؤون الإدارية ووزارة الصناعة عبر المقالع والكسارات على التعامل مع هذا الملف، وعلى رغم الدور الحيوي لهذه الجهات بقي هذا الملف من دون أي حل أو معالجة جدية.

بداية الأزمة

في حديث إلى "اندبندنت عربية" أوضح الوزير السابق شربل نحاس، أن "مسألة إدارة النفايات تقع ضمن مسؤوليات البلديات بموجب الأنظمة القانونية، وليس لمجلس الإنماء والإعمار أو الحكومة دور في ذلك"، مشيراً إلى أنه "خلال الستينيات لم تجر انتخابات بلدية فعلية في لبنان مما أدى إلى حل كثير من البلديات وتعطلها، مما صعب على هذه البلديات الصغيرة، باستثناء تلك التي تقع في المدن الكبرى، إدارة قطاع النفايات بكفاءة".

وقال نحاس، "مع تغيير أنماط الاستهلاك وزيادة كمية النفايات بشكل كبير عالمياً اتخذت الحكومة في أوائل التسعينيات قراراً بأن توكل السلطة المركزية مسؤولية جمع ومعالجة النفايات إلى شركات التعهدات من خلال مجلس الإنماء والإعمار، إذ أرسيت العقود على شركة "سوكلين" التي أسسها المهندس الميكانيكي ميسرة سكر لتتولى مسؤولية جمع النفايات في معظم مناطق لبنان، بينما تم التعاقد مع شركات أخرى في مناطق مختلفة إضافة إلى مواصلة بعض البلديات الصغيرة الاهتمام بإدارة نفاياتها".

 

 

وشرح نحاس الصعوبات التي واجهت لبنان في إدارة النفايات خلال الحرب، إذ تم التخلص منها في البحر نظراً للفوضى السائدة، وقال "استُخدمت مناطق بين خطوط التماس كمواقع لرمي النفايات، ومع تحقيق هدنة تولت ’سوكلين‘ إدارة العقود للفرز والمعالجة، ولكن من دون تنفيذ فعلي مما أدى إلى كلف مرتفعة وتقديم منافع مالية لزعماء المناطق، أما في منتصف عام 2010 ومع تفاقم الأزمة المالية، فقد تصاعدت النزاعات بين زعماء الطوائف وأدى إغلاق ’مطمر الناعمة‘ إلى تراكم النفايات في الشوارع".

واستذكر نحاس الانتقال الوزاري في وزارة البيئة عام 2015، وقال "تولى محمد المشنوق مهمات الوزارة خلفاً لأكرم شهيب الذي كان يتمتع بخبرة أكبر، وبدأ الأول عهده بدعوة الناشطين البيئيين والخبراء، إذ أكد دعمه لمقترحاتهم بالكلام من دون ترجمة هذا الدعم إلى أفعال، مما أبقى الوضع من دون تغيير"، مضيفاً "نشب خلاف حاد بين المؤيدين لمساعدة الحكومة في إدارة النفايات ومن يعتبرون أن الأزمة ليست بيئية بقدر ما هي مالية وسياسية، وأن مسؤولية جمع النفايات لا يجب أن تقع على الأفراد، لكن للأسف تلاشى اهتمام الرأي العام بهذه القضايا مع مرور الوقت وعادت ممارسة ردم النفايات في البحر لتستمر حتى اليوم".

الاهتمام الأميركي

اتخذ ملف النفايات حيزاً مهماً لدى وزارة الخزانة الأميركية التي تدخلت في هذا الشأن وفرضت عام 2021 عقوبات على نائب ورجلي الأعمال اللبنانين جهاد العرب وداني خوري لمساهمتهم في انهيار الحكم الرشيد وسيادة القانون في لبنان.

تؤكد الوزارة الأميركية أن "شركة العرب" تلقت عام 2016 عقداً بقيمة 288 مليون دولار من مجلس الإنماء والإعمار لإقامة مكب للنفايات، لكن بعد أعوام تبين أن النفايات بقيت في الشوارع والأزمة لم تحل، كما تكشف أن الشركة أضافت المياه إلى حاويات القمامة لتضخيم وزنها القابل للفوترة.

كذلك تقول وزارة الخزانة إن خوري حصل عام 2016 على عقد بقيمة 142 مليون دولار من مجلس الإنماء والإعمار لتشغيل مطمر "برج حمود"، لكنه متهم بإلقاء النفايات السامة والنفايات في البحر المتوسط وتسميم الثروة السمكية وتلويث شواطئ لبنان، بينما فشل في معالجة أزمة النفايات.

تلك الكعكة الكريهة

حول تقاسم السياسيين المصالح في ملف النفايات تقول النائبة بولا يعقوبيان إن "جميع السياسيين من دون استثناء تقاسموا المصلحة الكامنة وراء موضوع النفايات، وصولاً إلى استفادة عدد من العائلات الصغيرة سياسياً".

وتابعت، "لدينا شركات عدة منها ما يكنس ومنها ما يجمع ليعود بها المطمر، وأقسام المصلحة في هذا الملف كبيرة جداً فقد دخلت مجموعات مثل "النكيشة" وهي محمية من الطبقة السياسية التي تجهد لتبقي موضوع النفايات من دون حلول ومعالجة ليستفيد كل ما سبق ذكرهم".

 

 

 ودعت يعقوبيان إلى "المعالجة التي تتطلب فرض الفرز من المصدر وبعدها المعالجة والتسبيخ وإعادة الاستخدام والتدوير، فيما يبقى  10 في المئة من النفايات"، معتبرة أنه "إذا اعتمدنا هذا المسلك في المعالجة السليمة فعندها لا حاجة إلى سرقة كل هذه الأموال".

وعن العوائد المالية للنفايات كشفت يعقوبيان عن أن "الفروق المالية فوق الخيال، إذ لدينا حصة في مجلس الإنماء والإعمار وأخرى في وزارة التنمية الاجتماعية وأخرى في وزارة البيئة، وكذلك حصة في البلديات والداخلية، وهناك سبع أو ثمان وزارات تتقاسم موضوع النفايات مع مؤسسات وبلديات، ونحن لا نعلم سنوياً كم يكبد هذا الملف الخزينة، وهم لا يريدوننا أن نعلم ذلك".

ثروة متروكة

عن الإمكانات المالية التي يوفرها نظام مراكز تجميع النفايات قال رئيس "جمعية الأرض" في لبنان والناشط البيئي بول أبي راشد إنه "يمكن أن تحقق أرباحاً منذ العام الأول من خلال بيع المواد المعاد تصنيعها والاستفادة من المواد العضوية، ويمكن للمراكز تغطية كلف التشغيل وحتى تحقيق وفورات كبيرة مقارنة مع الكلف التي كانت تدفع سابقاً لشركات إدارة النفايات".

أما بالنسبة إلى كميات النفايات التي تخرج من المنازل اللبنانية سنوياً وكيفية الاستفادة منها، مما ينعكس عائدات مالية للدولة، فأشار أبي راشد الى أن "الفرد ينتج ما بين 0.7 وكيلوغرام واحد من النفايات يومياً، ولكن بعد الأزمة الاقتصادية لوحظ تراجع في كمية النفايات المنتجة، إذ تُقدر الكمية اليومية حالياً بنحو 4000 طن"، موضحاً أنه "إذا تمت معالجة كل هذه الكمية من النفايات بطرق صديقة للبيئة فيمكن للدولة أن توفر ما يقارب 250 مليون دولار، وهذا المبلغ ينقسم بين العائدات المتأتية من التدوير والتسبيخ وبين التوفير في كلف التدهور البيئي".

 

 

وعن التداعيات البيئية الناجمة عن أزمة النفايات أشار أبي راشد إلى أن "الأزمة لا تقتصر على امتلاء المطامر وحسب، بل تمتد لتشمل تلويث البحر المتوسط بالـ ’ميكرو بلاستيك‘ الذي يعد من أكبر مصادر التلوث والتهديدات للتنوع البيولوجي في المنطقة"، معتبراً أن "الإخفاق في فرز النفايات قبل طمرها يعكس عدم وجود إرادة حقيقية لإحكام السيطرة على شركات جمع النفايات". محذراً من أن "النهج الحالي قد يؤدي إلى قنبلة موقوتة تهدد بتفاقم الأزمة في المستقبل القريب".

هل من حلول؟

وفي ظل غياب دور فعال من البرلمان اللبناني لمواجهة الأزمات البيئية في البلاد، شددت يعقوبيان على "أهمية الالتزام بالخطط العلمية المتخصصة في معالجة النفايات منذ البداية"، مؤكدة أن "تركيبة النفايات والظروف المحلية يجب أن تحدد إستراتيجية الإدارة المناسبة"، وأوضحت أن "غالبية النفايات في لبنان عضوية مما يجعل الفرز خطوة أساساً للاستفادة القصوى من هذه الموارد".

من جهته سلط أبي راشد الضوء على "أهمية استحداث مراكز تجميع النفايات في جميع المناطق اللبنانية، وهي مبادرة طرحها وزير البيئة ناصر ياسين لتحسين عملية فرز النفايات وتسهيل إعادة تدويرها، فهذه المراكز ستلعب دوراً كبيراً في ضبط الفرز على مستوى القرى والمدن، إذ يشجع المواطنون على فرز نفاياتهم بأنفسهم بما في ذلك النفايات المطبخية والحمامات والمواد القابلة للتدوير قبل إيصالها إلى هذه المراكز، وبتنفيذ هذا النهج يُحد من مشكلة النفايات الملقاة في الشوارع وتسهيل توجيهها إلى المعالجة أو التدوير المناسب، بما يضمن إدارة مستدامة وفعالة للنفايات في لبنان".

المزيد من تحقيقات ومطولات