يقيم الفنان محمد المصري معرضاً بعنوان "صلوات عن القوة والعجز" في مدينة أوسلو بالنرويج. المعرض يمثل المرحلة الثانية من مشروعه الممتد "اقتصاد القوة يدفع الثمن" الذي عرضه العام الماضي في بيروت. تعرض هذا المشروع الذي يسلط فيه الفنان الضوء على التفاصيل المتعلقة بإنتاج السلاح وتجارتها حول العالم بمرحلتيه للكثير من العراقيل التي غيرت مساره وأسهمت في رسم محتواه، وتأكيد مضمونه على نحو غير متوقع. تحول المشروع هنا، ونتيجة لكل هذه التفاصيل التي طرأت أثناء الإعداد له من مجرد عمل بصري إلى ما يشبه التوثيق أو البحث الاستقصائي. تشكلت ملامح العمل عبر رحلة شاقة وطويلة خاضها الفنان منذ عام 2017 متنقلاً بين القاهرة والصين وبيروت، حتى استقر أخيراً في العاصمة النرويجية. لن تتوقف رحلة هذا المشروع الفني الممتد في أوسلو كما يقول الفنان، فهو لا يزال يجمع تفاصيل الحكاية ويضيف إليها ما يؤكد رؤيته التي يؤمن بها ويتبناها ذلك العمل.
يتطرق المشروع كما يقول الفنان إلى السوق الرسمية وغير الرسمية لإنتاج السلاح والاتجار به، وهو نمط اقتصادي تُضخ فيه المليارات من الدولارات سنوياً، ولا ينتفع به إلا شبكة صغيرة مغلقة من أصحاب المصالح الاقتصادية. يرى الفنان أنه من الأجدى أن تنفق هذه الموارد على عناصر أخرى كالتعليم والصحة وغيرهما، ولهذا فهو يسعى إلى تسليط الضوء على هذا الأمر بجدية كما يقول. اختار المصري نموذجين للإنتاج الكبير للسلاح، المرتبط بدوره بالعديد من شبكات التصنيع والتصدير والاتفاقيات، ويمثل مصدراً للقوة في الصراع والسيطرة والسيادة. يتمثل هذان النموذجان في الدبابتين T90 الروسية، وM1A1 الأميركية، واللتين يتم إنتاجهما أيضاً بالوكالة في بلدان أخرى. هاتان الدبابتان تحديداً يتم استخدامهما على نطاق واسع عبر الجيوش النظامية، والمنظمات والكيانات الخارجة عن السيطرة على حد سواء. وتمثل دورة الإنتاج والشراء والتهريب هنا كما يقول الفنان ملخصاً لعولمة الاتجار في السلاح، حيث لا يُعرف إلى أين ينتهي مصير المنتج في النهاية.
صورة هزلية
يتتبع مشروع "اقتصاد القوة يدفع الثمن" إنتاج هذه الأسلحة وجميع الدوائر التابعة لها من طريق إعادة إنتاج السلاح نفسه، أو على نحو مطابق تماماً للأصل، ولكن في صورة هزلية، على هيئة بالونات ملونة باللون الذهبي. يتتبع المشروع كيفية الوصول إلى التصميمات الأصلية لهذه الأسلحة من طريق البحث العميق على شبكة الإنترنت، أو ما يعرف بـ Deep web وهي وسيلة تستخدم محركات بحث مختلفة غير المتعارف عليها، ثم إعادة تصنيع هذا التصميم في الصين داخل مصانع لا تأبه لحقوق الملكية الفكرية. كما يتطرق المشروع أيضاً إلى عمليات الشحن أو التهريب عبر الطرق نفسها التي تستخدمها الدول أو المهربون في نقل هذه الأسلحة عبر العالم.
كان من المقرر عرض هذا العمل كاملاً في بيروت، ولكن حين بدأت عمليات الإنتاج في الصين تعرض المشروع والفنان إلى عدد من الأحداث غير المتوقعة، والمتعلقة بإجراءات الشحن والتفاوض على عملية التصنيع مع الجهة المصنعة. كثير من التفاصيل أدت في النهاية إلى عدم وصول الأعمال في موعدها المحدد. ما دفع الفنان إلى عرض العمل في بيروت كفكرة تجهيزية، عبر نص مطبوع على هيئة جريدة تم عرضها وتوزيعها على الحضور، بدلاً من عرض الدبابات نفسها. سلط النص الذي تم تضمينه في تلك الجريدة الضوء على كل تلك التفاصيل الكثيرة المتعلقة بعملية التصنيع وإجراءات الشحن المعقدة. كما تطرق أيضاً إلى الحديث عن تلك المجتمعات الهجينة (العربية الصينية) التي تشكلت في المدينة الصينية "أيوو" والمعروفة بأنها نقطة التقاء التجار العرب، حيث تم تصنيع الدبابات الذهبية. ثمة تفاصيل أخرى عن أساليب التهريب ونقل التكنولوجيا، أو سرقتها من مكان إلى آخر، وأساليب الشحن القانونية وغير القانونية، وطرق التهريب، ومساحات التماس بين المشروع والمُجرّم في الشحن الدولي.
لاحقاً دُعي الفنان إلى عرض عمله كاملاً في العاصمة النرويجية أوسلو. ومن جديد تُعاود المعوقات في الظهور، لكنها اتخذت هذه المرة شكلاً مختلفاً، إذ رفضت القنصلية النرويجية في القاهرة إعطاء الفنان تأشيرة الدخول إلى النرويج. الأسباب التي تم تضمينها في ثلاث ورقات تتلخص في تخوف القنصلية من استغلال الفنان هذه التأشيرة للبقاء هناك على نحو غير قانوني. مبررات كثيرة تم تضمينها ضمن أسباب الرفض تتعلق بالوضع الاقتصادي في مصر والأجواء غير المستقرة في الشرق الأوسط بعامة. ومن جديد وجد الفنان أن هذه المبررات الواردة في وثيقة الرفض، تتقاطع على نحو ما مع المشروع الذي يعمل عليه. فالصراع المستعر في الشرق الأوسط والذي يحول دون سفره، ويحد من حرية تنقله، وقوده هذا السلاح الذي يحاول الفنان تسليط الضوء على التفاصيل المعقدة المتعلقة بإنتاجه وتداوله. النرويج نفسها تمثل جانباً من أسباب استمرار هذا الصراع، فهي تُصنف في المرتبة السابعة دولياً بين الدول المصنعة للسلاح. وهناك تقارير شبه مؤكده بتسرب الأسلحة النرويجية إلى أطراف الصراع في اليمن وسوريا، ما يعني أن الاقتصاد النرويجي هو جزء من المشكلة، ما يعطي القدرة للأطراف المتنازعة في الشرق الأوسط لتصعيد النزاع ودفع السكان إلى الهرب أو الهجرة.
أرسل الفنان وثيقة الرفض التي حصل عليها من القنصلية النرويجية في القاهرة إلى الجهة المنظمة للعرض، كما كتب بياناً يستنكر فيه ما حدث له، ويشرح فيه رؤيته في الربط بين رفض طلبه للسفر وما يتضمنه مشروعه من أفكار. سرعان ما تم تداول هذا البيان على نطاق واسع في الأوساط الثقافية والفنية النرويجية فور نشره على صفحة الفنان الشخصية، كما تفاعلت الصحافة في النرويج ونشرت تقريراً عن الأمر في إحدى الصحف الواسعة الانتشار هناك. مثّل هذا الأمر ضغطاً على إدارة الهجرة النرويجية التي أذعنت في النهاية للأمر، ووافقت على إعطاء التأشيرة للفنان، والذي وصل إلى قاعة العرض في يوم الافتتاح نفسه. أسهمت هذه التفاصيل وغيرها في دفع الجهود الرامية إلى دعم حرية الحركة للعاملين في المجال الثقافي، كما طالب الفنان في بيانه.
دبابتان من ذهب
أقيم العرض أخيراً في أوسلو داخل بهو إحدى الكنائس التي تمتلكها المؤسسة المنظمة للعرض. احتوى العرض على التجهيز الرئيس لمجسم الدبابتين الذهبيتين، وشريط فيديو يتضمن تفاصيل المرحلة الأولى للعمل، إضافة إلى إصدار باللغة الإنجليزية للجريدة التي تم عرضها في بيروت، على أن يضم المشروع في مرحلته اللاحقة إصداراً جديداً عما تم في أوسلو. عرضت الدبابتان في حالة طيران في فراغ قاعة العرض، في إشارة إلى هشاشة وخفة ما تمثله من رمزية على كل المستويات. تمثل الدبابة في هذا المشروع كما يقول الفنان نموذجاً للإنتاج الضخم غير المبرر. كما تُمثَل القيمة باللون الذهبي، وهي الخامة المرتبطة بالميثولوجيا البشرية بالقداسة والثروة.
يقول الفنان محمد المصري إن متوسط تكلفة إنتاج دبابة واحدة يعادل حوالى 43 مليون دولار. هذا الإنتاج يعمل عليه بطبيعة الحال عدد كبير من العمال. ينتج من هذا التصنيع فائض يحتاج إلى كلفة أخرى من التخزين والصيانة، لذا كان من الضروري أن يتم بيع هذه الدبابات إلى آخرين، وفي بعض الأحيان إيجاد ضرورة لاستخدامها. وهكذا يستمر إنتاج آلات القتل وخلق بيئات مواتية لوجودها واستمرار إنتاجها. تنفق على هذه الآليات كما يقول الفنان سنوياً مليارات الدولارات، ويتم تسويق هذه السلعة عبر شبكة كبيرة من المصانع والاتفاقات وبرامج المساعدات وسماسرة السلاح وجنرالات الجيوش والحكومات، لتتحول الموارد الهائلة للشعوب إلى أرقام ضخمة في الحسابات البنكية للنخبة. هي دائرة مستمرة لفرض الهيمنة الصناعية والاقتصادية والتبعية الجيوسياسية، من طريق نشر السلاح وبيعه، لا لشيء إلا من أجل السيطرة على الموارد، كي تعمل عائدات هذه الموارد على إنتاج السلاح من جديد.
من المقرر أن ينتقل مشروع "اقتصاد القوة يدفع الثمن" إلى محطات أخرى لاحقاً، مطالباً بالتوقف عن تصنيع السلاح والبحث عن اقتصاد أكثر إنسانية وعالم أكثر عدلاً.
محمد المصري مصور فوتوغرافي يعمل ويعيش في القاهرة، وهو عضو مؤسس في مؤسسة فناني الأولمبياد – فنلندا 2008، وممثل مؤسسة ألوان إفريقيا في مصر وشمال أفريقيا 2009. شارك المصري في عدد من المعارض المحلية والدولية منذ عام 2000 وفاز بالعديد من الجوائز، أهمها الميدالية الذهبية للفنون في أولمبياد بكين 2008، والشعلة الأولمبية لدورة الألعاب الأولمبية الشتوية في تورونتو 2006، والميدالية التذكارية لمدينة مايوركا بالبوسنة عام 2010.