Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كاتبات يابانيات "متغربات" يتحدين تقاليد السرد العريق

خروج عن المفاهيم التي أرساها رواد الرواية من كواباتا إلى ميشيما وآبي وتانيزاكي وكنزابورو أوي

روائيات يابانيات يحتفلن بأعمالهن وبينهن يوكو أوغاوا (رويترز)

ملخص

شهد الأدب الياباني تحولات عميقة على مر العقود، بدءاً من الأجيال السابقة التي حملت مفاهيم كلاسيكية في السرد، وتمثلت بأسماء معروفة لدى القارئ العربي، مثل ياسوناري كواباتا ويوكيو ميشيما وتانيزاكي وكينزبورو أوي وغيرهم، وصولاً إلى الجيل المعاصر الذي يعكس تحديات اجتماعية ونفسية وفكرية، تناوئ ما قدمته الأجيال السابقة.

ركزت الروايات اليابانية الكلاسيكية على التقاليد الاجتماعية والهويات الثقافية الثابتة، وتميزت بحساسية سردية، تختبر القدرة الإبداعية في الاقتراب من تصوير الواقع الياباني. وعلى رغم الفروق الواضحة بين الكتاب اليابانيين في الأجيال السابقة والمعاصرة، فإن هناك خطاً توجد فيه بعض التقاطعات بين الأدب القديم والحديث، يتجلى في البحث المستمر عن الهوية الفردية والجماعية، واستكشاف قضايا الوجود والعزلة والمصير التي ترافق الإنسان في مواجهة عالم متغير.

الأجيال السابقة، مثل ميشيما وكينزابورو أوي وآبي، تعاملت مع تلك المواضيع، من خلال تصوير الشخصيات اليابانية المحاصرة بين الماضي والحاضر المتغير. أعمال ميشيما، على سبيل المثال، اتسمت بجمالية فلسفية وعناية بالموت والعزلة، كطرق نحو تحقيق الخلاص. بينما كانت روايات آبي أكثر تأملاً في القضايا الوجودية والاغتراب والهويات الضائعة في عالم يتسارع فيه التأثير التكنولوجي، في مقابل حضور روحانية متجذرة في الذات اليابانية بتأثير من الفلسفة البوذية.

وجوه جديدة

مع وجود جيل جديد من الكاتبات اليابانيات اللاتي ينتمين للأجيال المعاصرة، ظهرت محاولات متكررة تسعى إلى كسر هذه القيود، وتقديم أدب ذاتي يعبر عن التوترات الداخلية والعزلة والتغيرات المجتمعية. هذه التحولات في الأدب الياباني لاقت اهتماماً متزايداً من القراء العرب، تجلت في الترجمات العربية للأدب الياباني في السنوات الأخيرة، ومع تزايد الفضول حول الكاتبات اليابانيات وأعمالهن، وبزوغ أسماء لامعة مثل: بنانا يوشيموتو، ميكو كواكامي، يوكو أوغاوا، اللاتي مضين في مسارات إبداعية مختلفة، عبر ملامسة الحياة المعاصرة في اليابان، وتقديمها من منظور داخلي أشد تعقيداً، ورؤيوية لما يعانيه الفرد داخل ذاته.

بينما كان الأدب الياباني القديم يعكس الجماليات الاجتماعية والفلسفية، ويشير إلى دور الفرد في المجتمع الكبير، أصبحت الروايات الحديثة تتعمق في العزلة الفردية والصراع الداخلي، أكثر من أي وقت مضى. تعاملت الكاتبات مع كل هذا، بجرأة شديدة وحساسية متدفقة في سياق معاصر يحمل بصمات فكرية ذات تأثير غربي في عالم يتغير بسرعة، حضرت أفكار حول الجندر والذاكرة والوجود والصراع النفسي، بالتوازي مع التحديات اليومية، فجسدت أعمالهن مشاعر العزلة والقلق الوجودي بأسلوب سردي يعتمد على الرمزية والغموض، مما ساعد في فهم أعمق للثقافة اليابانية وتحدياتها الداخلية.

"شرطة الذاكرة"

تعتبر يوكو أوغاوا من الكاتبات اللاتي يتسم أسلوبهن الأدبي بالغموض والعمق النفسي، وروايتها "شرطة الذاكرة"، الصادرة عن دار الآداب، نصاً يعبر بعمق عن رؤيتها الإبداعية. تتميز الرواية بتناولها الذاكرة كموضوع مركزي، لكن بصورة ديستوبية، إذ تتشابك أحداثها مع صراعات الشخصيات الداخلية، شيدت أوغاوا عالماً كاملاً، داخل جزيرة منعزلة، تختفي منها الأشياء والمخلوقات، وتتلاشى فيها العواطف. تعيش بطلة الرواية وحدها، تعمل في كتابة الروايات، ونشرت ثلاثة كتب، تقول: "ماتت أمي، ثم لحقها أبي، فوجدتني أعيش بمفردي في المنزل، ومنذ سنتين ماتت إثر نوبة قلبية المربية التي اعتنت بي منذ كنت رضيعة".

 أوغاوا تتناول مسألة الذاكرة كأداة لفهم الهوية، وهي فكرة تكررت في عدد من أعمالها. وفي روايتها هذه نجد نساء ورجال يتخلون عن ذكرياتهم، لأن هناك شرطة للذاكرة تلاحقهم، كما يواجه الأبطال تحديات في إعادة بناء هويتهم الشخصية من خلال ذكريات متلاشية. أسلوب الكاتبة في التعامل مع الذاكرة ليس مباشراً، بل يعتمد على سرد غامض يتنقل بخفة بين الماضي والحاضر، وبين الواقعية التامة والرمزية المفرطة، غامراً القارئ في حالة من الارتباك، وهذا يبدو مقصوداً من جهة الكاتبة، تقول: "يوماً بعد يوم، تصير طرائقهم أشد تسلطاً وقسوة، يخطر ببالي أن بدايات ظهور ملاحقي الذكريات تعود لخمس عشرة سنة خلت، تحديداً عقب اقتياد أمي من طرف شرطة الذاكرة. ما انفك عدد الأفراد ممن على شاكلة أمي، لم يفقدوا ذكرياتهم، يزداد اطراداً، وانتهى المطاف بشرطة الذاكرة إلى اعتقالهم جميعاً".

"عشاق الليل"

في كتابة ترصد الإحساس بالوحدة أيضاً والتأمل في الذات والعلاقة مع الآخر، تحتفي الكاتبة ميكو كواكامي في روايتها "كل العشاق في الليل"، دار الآداب، بالعواطف الإنسانية العميقة، في لغة تعبيرية بالغة العمق، ترصد الصراع الداخلي الذي يعيشه الأفراد داخل المجتمع الحديث، وفي غياب الحب وحضور الوحدة والعزلة، وعلى رغم أسلوب كواكامي الغارق في التفاصيل اليومية الدقيقة، وبطء التصاعد الحدثي، فإن التأملات الفلسفية وحديث البطلة الساردة عن نفسها، وعن كينونتها كجسد أنثوي خائف من التقارب، والفشل في التفاعل مع الآخرين، يمنح السرد حيوية انتظار تحولات ما قادمة إلى الواقع. الرواية تحكي عن امرأة تدعى فويكو في الـ37 من عمرها تعيش في طوكيو شبه منعزلة، تعمل في تدقيق الكتب وتواجه تحديات وجودية ونفسية يعانيها كثيرون في المجتمع الحديث، تشكو البطلة تشتتاً داخلياً حول هويتها وعلاقتها مع الآخرين، وكل ما تفعله يومياً هو الغرق في العمل، واحتساء الشراب والبقاء محاصرة بأفكارها الخاصة، ثم مغادرة البيت مساء كي تتأمل العالم من حولها ليلاً.

تحكي عن نفسها، أنها منذ كانت صغيرة، وهي غير قادرة على إجبار نفسها على الانخراط في محادثة، مثل أي شخص طبيعي، ناهيك بالتواصل مع الناس أو الخروج معهم. تقول: "في البداية دعاني زملاء العمل إلى الخروج معهم لتناول العشاء أو الشرب، لكنني كنت أرفض دائماً، متهربة بسلسلة من الأعذار الواهية. في مرحلة ما توقفوا عن دعوتي، وسريعاً ما تركوني وحدي تماماً، لكن لامبالاتهم مع الوقت كشفت ملامح من المرارة، تتضح في صمتهم ونظراتهم، إلى درجة أصبح معها الذهاب إلى العمل أمراً صعب الاحتمال".

 تطرح ميكو كواكامي من خلال روايتها هذه، بطريقة فنية، السؤال الفلسفي المعقد حول معنى الحياة بالنسبة إلى الفرد الأعزل، تحديداً ضمن المجتمعات الحديثة القائمة على الفردية، التي تنتظر منه أن يكون مجرد ترس في آلة، البطلة فويكو تحكي عن الضغوط التي يفرضها المجتمع الياباني على النساء، هي تشعر أحياناً أنها غير مرئية، وتتجلى حياتها الداخلية في العتمة والوحدة، لكن على رغم هذا، فإن هذه الحياة تتيح لها فرصة للتأمل والنمو الشخصي والفكري. أما صديقتها هيجيري، فتواجه النبذ والوحدة بطريقة أخرى، حين تضطر إلى أن تحتفظ بالجنين من دون زواج، لأن والد الطفل غير متحمس للإنجاب، وعلى رغم ذلك هي تريد أن تصبح أماً، مع وجود رفض اجتماعي للأم العازبة، تقول: "تقريباً لا أتحدث مع أمي، في عالمها، المرأة غير المتزوجة التي ستنجب طفلاً تفعل ما هو أسوأ من القتل".

إنها رواية عن الوحدة، وما تفعله بنا، وتلك الطرق المختلفة التي نسلكها من أجل التخلص من الوحدة، أو في الأقل تقليص الشعور بها.

"مطبخ" بانانا

"المطبخ" للكاتبة بنانا يوشيموتو، رواية ثالثة أخرى عن بطلة وحيدة تواجه العالم بمفردها. تعاني ميكاج من إحساس الفقد بعد رحيل جدتها، وبقائها وحدها في البيت، تخشى العتمة وأشباح الظلام، فتبحث عن الدفء في المطبخ، ليس في مطبخها فقط، بل في مطابخ الآخرين أيضاً، بعد أن تنتقل للإقامة مع يوشي الذي يعيش مع والدته التي تعمل في حانة ليلية، وللمفارقة المفرطة يعترف لها يوشي بأن والدته هي والده، بعد أن قام بعملية التحول من رجل إلى امرأة إثر رحيل والدة يوشي، وإحساسه بحاجة ابنه إلى أم، يقرر تحويل جنسه، ليعوض ابنه غياب والدته.

ميكاج، تواجه هذه الحقائق بدهشة، في وقت تعيش فيه معاناتها الذاتية، إلا أنها تتأمل في العالم من حولها، في محاولة للتخلص من أعبائها الداخلية في المطبخ، المكان الوحيد الذي تجد فيه ملاذها الخاص، وعزاءها من الفقد. لنقرأ: "أحسب أنني أحب المطابخ، أكثر من أي مكان في العالم، المطبخ وأنا، يبدو لي أن في هذه الخاطرة من السلوان، ما يفوق اعترافي لنفسي بأني وحيدة. قبل أن يستضيفني آل تاناب، كنت أنام في المطبخ كل يوم، كان هدير الثلاجة يحميني من الإحساس بالوحشة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تحمل كتابة يوشيموتو طبقات عاطفية غائرة، تستلهمها من تفاصيل يومية تبدو بسيطة ظاهرياً، تراوح بين الفقد والوحدة وفكرة العائلة وغيابها المؤثر، وهذا يتضح في حكاية ميكاج، وفي قصة يوشي أيضاً الذي فقد والدته مرتين.

عوالم متشابهة

تبدو الروايات الثلاث، على رغم اختلافها ظاهرياً في المواضيع والأسلوب السردي، تشترك في ركيزة أساسية تتعلق باختيار الشخصية المحورية والعوالم التي تنتمي إليها، البطلات في الروايات الثلاث، وحيدات، فقدن الأسرة، منعزلات عن المجتمع، إلى جانب ممارستهن لعمل إبداعي، يتمثل في الكتابة عند ميكو كواكامي ويوكو أوغاوا. تكشف هذه الأعمال أيضاً عن طبيعة علاقة الفرد مع السلطة، من أوجه مختلفة، وأهمية الذاكرة ومحوريتها في "شرطة الذاكرة"، واختيار الكاتبة لمعالجة فقدانها بأسلوب فانتازي ديستوبي، أرادت من خلاله الحديث عن فقدان الذات في مواجهة سلطة قهرية، تعبث بالداخل الإنساني، وتود أن تستحوذ عليه.

في المقابل استعانت ميكو كواكامي في "كل العشاق في الليل"، بالإضاءة بصورة مكثفة على العالم الداخلي لبطلتها، للكشف عن أسباب عزلتها، وعدم توافقها مع المجتمع، وتأرجحها بين الخوف من الواقع الاجتماعي المظلم، ورغبتها في التواصل الإنساني الذي تجده في نهاية المطاف مجرد ورطة كاذبة، وخديعة كبرى. أما "مطبخ" بانانا يوشيموتو، على رغم محاولة بطلتها ميكاج الحصول على الشفاء من العزلة والوحدة، والانغماس في اللحظات اليومية البسيطة في بيت الأسرة التي تسكن معها، فإن الحادثة التي تنتهي بها الرواية مع مقتل والدة يوشي المتحولة، يشي بكم العنف الاجتماعي المحتقن خلف الأحداث الظاهرة.

لقد انشغلت الروايات الثلاث في هم سردي مشترك يتمحور حول قضايا إنسانية معاصرة، أبرزها: العزلة الفردية، وعلاقة الفرد مع السلطة، والوجود الإنساني وما يعنيه الاحتفاظ بالذكريات، ومعنى الحياة في لحظات الفقد والخسارة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة