ملخص
حتى العاملين في المجال الصحي يكافحون ويتحملون مصاعب لا يمكن تصورها، وفي بعض المناطق الشمالية، يلجأ البعض إلى أكل البذور المخصصة للطيور من أجل البقاء على قيد الحياة
أصدر الجيش الإسرائيلي يوم الإثنين الفائت توجيهاتٍ لنحو 100 ألف شخص في شرق مدينة رفح، بوجوب إخلاء المنطقة، والانتقال إلى نقاط ساحلية مكتظة أساساً بالناس وتفتقر لأماكن كافية لإيوائهم، كما للمواد الإنسانية الأساسية لإعالتهم. وفي وقتٍ لاحق، كثفت القوات الإسرائيلية غاراتها على المدينة الواقعة جنوب قطاع غزة، واستولت على معبر رفح في الجانب الفلسطيني، في ما يبدو بداية توغل عسكري كارثي في رفح.
وكنتُ خلال زيارتي غزة الشهر الماضي قد رأيتُ مشهداً أشبه بالجحيم على الأرض. فهناك أكثر من مليوني شخص محاصرون ضمن مساحةٍ صغيرة، ويتعرضون لقصف متواصل منذ أكثر من 200 يوم، بينما يتضورون جوعاً بمعدل لم يشهد العالم مثيلاً له، وسط تدمير المقومات الأساسية للحياة، كالمنازل والمستشفيات والمدارس والجامعات والمساجد، التي سُويت غالبيتها بالأرض.
حصيلة هذا الصراع حتى الآن هي فقدان نحو 35 ألف شخصٍ حياتهم، وإصابة قرابة 76 ألفاً بجروح. وما رأيته في الجهة المقابلة لمعبر رفح، كان مثيراً للذهول، وتمثل في أكوام مكدسة من الإمدادات الطبية الأساسية المطلوبة بشدة، التي تم منعها من الدخول إلى القطاع، بما فيها عكازات، وكراسٍ متحركة، ومعدات تخدير، وأجهزة أشعة سينية وغيرها من المعدات التي كانت هناك حاجة ماسة إليها لتخفيف معاناة المتضررين من الصراع.
لا توجد كلمات يمكنها أن تعبر بشكل كافٍ عن حجم معاناة الناس والأزمة الإنسانية التي تتكشف في غزة.
العاملون في مجال الإغاثة داخل القطاع أظهروا من جانبهم، على رغم تهجيرهم من منازلهم هم أيضاً، تفانياً كبيراً في تقديم المساعدة والرعاية الطبية للذين هم في أمس الحاجة إليها، حتى هم يكافحون ويتحملون مصاعب لا يمكن تصورها، وفي بعض المناطق الشمالية، يلجأ البعض إلى أكل البذور المخصصة للطيور من أجل البقاء على قيد الحياة.
وقد شاهد هؤلاء الموظفون بيأس على مدى الأشهر السبعة الأخيرة، قيام الجيش الإسرائيلي بتفكيك البنية التحتية للرعاية الصحية بشكلٍ منهجي، بعدما كانوا قد عملوا لأعوامٍ على بنائها وتطويرها. ومن بين 36 مستشفى، لا يزال 12 مستشفى فقط يعمل بشكل جزئي. وفي رفح، هناك ثلاثة مستشفيات فقط تجد صعوباتٍ في تلبية حاجات أكثر من مليون شخص، مع عددٍ محدود للغاية من الأسرّة. حتى أن أحد الأطباء أخبرني بأنه لا يوجد سوى 18 حاضنة متاحة لـ 58 طفلاً حديث الولادة. أما التدفق المستمر للمرضى والمصابين، فيفوق طاقتهم بسبب تفاقم معدلات سوء التغذية الحاد، الناجم عن عرقلة إسرائيل وصول مساعداتٍ كافية إلى المنطقة.
أوامر الإخلاء التي أصدرتها السلطات الإسرائيلية في رفح، بثت الخوف والارتباك في صفوف المدنيين الذين يعانون أساساً من ظروفٍ مزرية داخل المدينة. وكان أكثر من ثلثي سكان قطاع غزة البالغ عددهم مليونان و300 ألف نسمة - بمَن فيهم أكثر من 600 ألف طفل - قد لجأوا إلى مدينة رفح.
لا بد للتاريخ من أن يحكم في النهاية على جميع المتواطئين في المعاناة والفظائع التي ارتُكبت بحق الفلسطينيين في غزة، ويحاسبهم
وتتسبب النفايات البشرية غير المعالجة، في تفشي الأمراض وتكاثرها في بحيراتٍ متاخمة لخيام النازحين، حيث يكافح هؤلاء الأطفال وأسرهم من أجل البقاء على قيد الحياة. وتمتد هذه الملاجئ الموقتة على طول الساحل، ولا توفر سوى القليل من الحماية، ما يترك النازحين محاصرين من جهة بالبحر، ومن الجهة الأخرى بجيش معادٍ يواجه اتهاماتٍ بارتكاب إبادة جماعية أمام أعلى محكمة في العالم. أما المرفق الطبي الرئيس في رفح، وهو مستشفى "أبو يوسف نجار"، فلا يعمل إلا بشكلٍ جزئي في الوقت الراهن، ويقع في المنطقة التي صدر أمر إسرائيلي بإخلائها، ما يجعل نقل المرضى المصابين بأمراض خطرة بأمان، أمراً شبه مستحيل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا توجد عملياً خطة إخلاء قابلة للتطبيق في رفح يمكنها حماية المدنيين من الهجوم الوشيك. فمن شمال قطاع غزة إلى جنوبه، ما من مكان آمن، ولا حتى تلك التي تم تحديدها على أنها "مناطق آمنة". حتى "فريق الطوارئ الطبي" Emergency Medical Team المشترك ما بين منظمتنا "المساعدات الطبية للفلسطينيين" Medical Aid for Palestinians (MAP)، و"لجنة الإنقاذ الدولية" International Rescue Committee (IRC) قد استُهدف بغارةٍ جوية عسكرية إسرائيلية في يناير (كانون الثاني)، على رغم أن أفراده كانوا موجودين في مبنى معزولٍ داخل "منطقة آمنة" محددة في ذلك الوقت. من هنا فإن غزة تظل أحد الأمكنة الأكثر خطورةً على وجه الأرض بالنسبة إلى العاملين في مجال الرعاية الصحية والإغاثة وللأطفال والمدنيين، على حد سواء.
وما زاد الأمر سوءاً أن الهجوم الأخير الذي شنته إسرائيل، أدى إلى تعطيل معبري رفح وكرم أبو سالم، ما تسبب بخنق وصول المساعدات المحدودة أساساً، والمسموح بدخولها إلى غزة. ويأتي هذا التطور في أعقاب تقييم أجراه رئيس "برنامج الأغذية العالمي" World Food Programme، نبه إلى أن شمال غزة يعاني من "مجاعةٍ شاملة"، وهي "تنتقل تدريجاً الآن نحو جنوب القطاع".
وحتى لو أُعيد فتح هذه المعابر قريباً، فلا توجد خطة محددة توضح بالتفصيل كيفية توزيع المساعدات بشكل آمن وسط العمليات العسكرية الإسرائيلية المستمرة في المنطقة، وبالتأكيد فإن هذه المساعدات ليست بالمستويات المطلوبة لتلبية الحاجات اللازمة.
وإذا ما استمر الهجوم الإسرائيلي على رفح، فلا شك في أن عدد الضحايا المدنيين سيرتفع بوتيرةٍ أسرع، وسيشهد ما تبقى من البنية الأساسية في غزة المزيد من الدمار.
عندما كنتُ في أحد المستشفيات الرئيسة في غزة، اقتربت مني إحدى الأمهات متوسلة أن أنقل إلى العالم الواقع الذي يعيشه الناس في القطاع. افترضت أن الخارج لا يعرف بما يدور هناك، لأنه لو كنا نعلم فمن الأكيد أنه كان سيتم اتخاذ إجراءات حاسمة لوقف تلك الفظائع. كيف تقولون لأم يطغى عليها اليأس إن العالم يبدو غير مبالٍ بمعاناة أطفالها، وإن بعض الدول، بما فيها بلادنا، تواصل تقديم الأسلحة نفسها التي تزيد من وطأة هذه المعاناة؟
لا بد للتاريخ من أن يحكم في النهاية على جميع المتواطئين في المعاناة والفظائع التي ارتُكبت بحق الفلسطينيين في غزة، ويحاسبهم. ومن غير المقبول إطلاقاً أن تواصل حكومة المملكة المتحدة بيع أسلحةٍ لإسرائيل وسط هذه الأزمة. ومن الضروري اتخاذ إجراء عاجل من أجل التوصل إلى وقفٍ فوري ودائم لإطلاق النار. ويتعين على زعماء العالم التدخل لمنع تصعيد الغزو في رفح، ولجم التصعيد الكارثي للأزمة الصحية والإنسانية ووصولها إلى مستويات غير مسبوقة.
ميلاني وارد هي الرئيسة التنفيذية لمنظمة "المساعدات الطبية للفلسطينيين"، وكانت قد زارت غزة ما بين الثامن والعاشر من أبريل (نيسان) عام 2024.
© The Independent