Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الألم... محرك التحدي والإبداع والتعاطف الإنساني

تجربة إنسانية لا يمكن الفرار منها وعلى رغم ما تسببه من عدم ارتياح فإنها قد تكون دافعاً للنجاح والتحسن الشخصي

أحياناً يكون الألم ناجماً عن تفاعل معقد بين العوامل البدنية والنفسية (غيتي)

ملخص

التفاوت في التعامل مع الألم بين الجنسين أدى إلى ظهور مصطلح اجتماعي بريطاني هو "إنفلونزا الرجل" الذي يعبر عن ضعف المرء في مواجهة الصعاب والمبالغة في التذمر من المنغصات البسيطة التي يفترض أن تحملها أمر يسير في الغالب

من المعروف أنه في فترة الربيع تكثر أمراض الصدر والعلل التنفسية ونزلات البرد. وفي عصر "السوشيال ميديا" يرافق ذلك صعود في موجة الفيديوهات التي تستعرض انهيار الرجال عند إصابتهم بالإنفلونزا وتقارن بسخرية ضعف قدرتهم على التحمل مع النساء اللاتي يستطعن تحمل آلام الولادة التي تشبه بألم سحق عظام الإنسان بينما هو في كامل وعيه، ومن ثم النهوض والعناية بالوافد الجديد إلى هذه الدنيا.

قد يكون مثل هذا المحتوى مصدراً للترفيه والدعابة، لكن ما صحة أن النساء قادرات على تحمل الألم أكثر من الرجال على رغم أن هؤلاء يتمتعون ببنية جسدية أقوى؟ وهل هن أقوى في وجه الآلام النفسية؟ وما  دور الألم في حياتنا بصورة عامة؟

ما هو الألم؟

من الناحية التعريفية الألم تجربة حسية مزعجة وغير مريحة تنشأ عن استجابة الجهاز العصبي لمؤثر خارجي يؤدي إلى إشارات تحذيرية. يعد الألم آلية واقعية للحماية من الأذى، إذ يثير استجابات في الجسم تدعم البقاء والحماية. ويتدرج الألم في صوره ما بين الألم الحاد الذي ينشأ فجأة ويكون ناجماً في الغالب عن إصابة أو مرض موقت، ويختفي عندما يتم علاج سببه، والألم المزمن الذي يستمر لفترة طويلة، وقد تتنوع أسبابه وتتعدد، ويمكن أن يكون له تأثير كبير في جودة الحياة مثل ألم المفاصل المزمن. وهناك أيضاً الألم العصبي الناتج من تضرر الأعصاب أو تعرضها للضغط، وقد يكون هذا مزمناً ومتواصلاً أو متقطعاً. كما أن درجات الألم تراوح ما بين الخفيف الذي يكون مزعجاً، لكنه قابل للتحمل والألم الشديد الذي يمكن أن يعوق حركة الشخص ويؤثر في حياته اليومية ووظائفه الحيوية.

من حيث المصدر يمكن تقسيم الألم إلى ثلاثة أنواع، إذ قد يكون نفسياً أو بدنياً أو ثنائياً، إذ يتفاعل الجانبان معاً. وينشأ الألم البدني عادة نتيجة لإصابة ما أو مرض في الجسم، مثل الكدمات والكسور والتهابات المفاصل والأمراض المزمنة والصداع أو التشنجات العضلية، وغيرها. ويمكن أن يؤدي الألم البدني إلى تقليل القدرة على القيام بالأنشطة اليومية بصورة طبيعية.

 

أما الألم النفسي فقد ينتج من تجارب عاطفية عصيبة مثل خسارة شخص عزيز أو الانفصال عنه أو الإحباط والقلق والاكتئاب والضغوط النفسية الأخرى. وقد يتسبب الألم النفسي في الشعور بالتعب والإرهاق وفقدان الاهتمام بالأنشطة اليومية، وقد يؤثر في العلاقات الاجتماعية والعملية.

وفي بعض الأحيان يكون الألم ناجماً عن تفاعل معقد بين العوامل البدنية والنفسية. فعلى سبيل المثال قد يؤدي التوتر النفسي إلى تشنجات عضلية والتهابات مزمنة تزيد من شدة الألم البدني. ومن ناحية أخرى قد يؤدي الألم البدني المزمن، بخاصة إذا كان معيقاً للحياة الطبيعية، إلى الاكتئاب والقلق.

ما حقيقة "إنفلونزا الرجل"؟

هناك تفاوتات بين الرجال والنساء في تحمل الألم الجسدي والنفسي، لكنها قد تختلف بحسب الظروف الاجتماعية والثقافية. وتشير بعض الأبحاث إلى أن النساء ربما يكن ميالات لتحمل الألم الجسدي أكثر بسبب عوامل بيولوجية مثل الهرمونات والبنية الجسدية، إضافة إلى تجاربهن الحياتية والثقافية، لكن المؤكد هو أن الرجال ميالون إلى الشكوى والتذمر من الألم البدني أكثر من بكثير من النساء.

قدمت دراسة نشرت سنة 2012 في مجلة "بين" Pain أدلة على وجود فروق جنسية في الاستجابة للألم وتحمله، ووجدت الدراسة أن النساء يبدين عادة تحسساً أكبر للألم ويعانين الآلام المزمنة بنسبة أكبر من الرجال. 

وفي عام 2009 قام باحثون في جامعة ستانفورد بتحليل النشاط الدماغي أثناء تجارب الألم للرجال والنساء، ووجدوا أن هناك فروق بين الجنسين في استجابة الدماغ للألم، إذ كانت عتبة الألم عند الرجال أقل. 

أما في ما يتعلق بالاستجابة للضغوط النفسية بين بحث أجرته جامعة "كارنيغي ميلون" سنة 2016 تناول الألم النفسي والاكتئاب أن النساء يعانين اضطرابات المزاج والاكتئاب بنسبة أعلى من الرجال.

 

وفي عام 2018 قامت دراسة في مستشفى "جنرال ماساشوستس" باستعراض عوامل التحكم في الألم، ووجدت أن الرجال والنساء يستجيبون بطرق مختلفة للعلاجات المتنوعة الموجهة للألم. هذا التفاوت في التعامل مع الألم أدى إلى ظهور مصطلح اجتماعي بريطاني هو "إنفلونزا الرجل" Manflu الذي يعبر عن ضعف المرء في مواجهة الصعاب والمبالغة في التذمر من المنغصات البسيطة التي يفترض أن تحملها أمر يسير في الغالب. ويظهر هذا المصطلح كيف يمكن أن ينظر إلى تجارب الألم بطريقة مختلفة بين الجنسين. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

آثار سلبية ونتائج إيجابية

عندما نذكر كلمة ألم من الطبيعي أن تكون التأثيرات السلبية هي أول ما يخطر في بالنا. فالألم يعرقل القدرة على ممارسة الأنشطة اليومية مثل العمل والحركة والاستمتاع حتى بالترفيه. كذلك قد يؤثر الألم في جودة النوم، ويؤدي بالتالي إلى التعب ونقص التركيز خلال النهار. وأثر الألم في المزاج وما يفرزه من انزعاج وانفعالات متقلبة لا يخفى على أحد، كما أن بصماته على العلاقات الاجتماعية بسبب الميل إلى العزلة وصعوبة التفاعل مع الآخرين لا يقل أهمية. كما أنه قد يؤدي إلى تأثر الأداء الوظيفي والتحصيل الدراسي، بالتالي قد يقلل الإنتاجية والتركيز، لكن وعلى رغم كون الألم تجربة صعبة وغير مريحة، فإن له جوانب إيجابية يمكن أن تؤثر بصورة عميقة على الثقافة الفنون وحياة الأفراد. ويظهر التمثيل الفني للألم في الأدب والفنون والسينما قدرة الإنسان على التأقلم مع التحديات والصعوبات. ففي الثقافة العالمية نرى كيف أصبح التمثيل الفني للألم وسيلة للتعبير عن المشاعر الإنسانية العميقة وتجارب الحياة الصعبة.

مثلاً، فيلم "الخلاص من شاوشانك" الصادر عام 1995 يظهر الألم من خلال تجربة السجينين آندي وريد في السجن، وكيف يتجلى في الصمود والتحمل والأمل في الحياة حتى في أصعب الظروف. يحكي فيلم "الحياة جميلة" (1999) قصة أب يواجه الألم والمعاناة في مركز اعتقال نازي، ويسعى جاهداً لحماية ابنه وإيجاد الأمل والفرح في أحلك الظروف، وبالمثل يجسد فيلم "قائمة شندلر" (1993) كيف كانت عذابات اليهود في الهولوكوست دافعاً لأوسكار شندلر لتجاوز ألمه الفردي والعمل على إنقاذ حياة عديد من اليهود. 

علاوة على ذلك يمكن للألم أن يكون دافعاً للنجاح والتحسن الشخصي. فمن خلال مواجهة التحديات والصعاب يمكن للأشخاص أن يكتشفوا قدراتهم ويطوروا مهاراتهم، مما يسهم في تحقيق النجاح وبلوغ أهدافهم. على سبيل المثال قدم الفنان فينسنت فان غوخ بعض أعظم أعماله الفنية خلال فترات معاناته الشديدة، حيث ابتكر لوحات استثنائية عكست عمق المشاعر والتجارب الإنسانية الصعبة التي مر بها.

وفي السينما نرى العلاقة بين الألم والنجاح ممثلة على أحسن وجه في فيلم "السعي وراء السعادة" (2007) الذي يستعرض قصة شاب يواجه الفقر والمعاناة، لكنه يستخدم الألم كدافع لتحقيق النجاح وتحسين وضعه الشخصي والمهني. كذلك يظهر في فيلم "جمعية الشعراء الموتى" (1989) كيف أن تجاوز الألم يتيح للمرء اكتشاف الذات وتحقيق التميز.

الألم والروحانيات

تعكس علاقة الألم بالروحانيات جانباً عميقاً ومعقداً من التجربة الإنسانية. ويعد الألم في السياق الروحي جزءاً لا يتجزأ من رحلة الانتماء الإنساني والتطور الروحي. تتناول تقاليد روحية ودينية عديدة الألم بصورة مركزية كجزء من التجربة البشرية، وتراه كفرصة للنمو والتحول.

وتقدم الروحانيات والتصوف والفلسفات الشرقية منظوراً فريداً عن الألم، إذ ينظر إليه عادة على أنه مدخل إلى فهم أعمق للذات والحياة. ويعد الألم في هذه السياقات أداة للتنقية الروحية والتحرير من القيود الداخلية، مما يؤدي إلى الوعي العميق والتحول الشخصي.

من ناحية أخرى، يعتقد في ديانات كثيرة أنه من طريق التأمل والصلاة والتفكر والتأمل، يمكن للأشخاص تجاوز الألم واستخدامه كوسيلة للتواصل مع الجانب الروحي من الذات. ويعد الألم في هذا السياق تجربة داخلية تتيح الفرصة للتواصل مع الخالق أو الروح العليا أو الطاقة العالمية، وتعزز العلاقة بين الفرد والعالم الروحي.

كذلك تشجع بعض الديانات على اختبار الألم كجزء من طقوسها مؤمنة بأن هذه التجارب تقوي الروح وتزيد من التقوى. على سبيل المثال يتيح الصيام، سواء بالامتناع عن الطعام أو الشراب أو كليهما معاً، فرصة للصائمين لتجربة الجوع والعطش للتقرب من الخالق وتطهير النفس. كما يتطلب قيام الليل والتهجد والصلاة في الساعات الأخيرة من الليل، التخلي عن راحة النوم وتحمل تعب البدن لأجل القيام بالعبادة والتأمل، إضافة إلى ذلك كانت زيارة الأماكن المقدسة في الماضي تتطلب مشقة السفر والعناء، ومع ذلك يعد الزائرون هذه التجارب فرصة للتوبة والتقرب من الخالق.

كذلك يتناول عديد من الديانات والفلسفة الروحية مفهوم الألم كأداة للتعاطف والتضامن مع الآخرين، إذ يعد الألم نقطة اتصال بين الإنسان والعالم، لأنه يجعل الشخص يتجاوز حدود الذات ويشعر بالتعاطف مع الآخرين ويكون جزءاً من شبكة الانتماء الإنساني.

محرك التعاطف الإنساني

إضافة إلى ما سلف يمكن للألم أن يعزز التضامن والتعاطف بين الناس، إذ يجمع الأفراد ويوحدهم ويجعلهم يسعون جميعاً لمساعدة بعضهم بعضاً في التغلب على التحديات والصعوبات. على المستوى الفردي، عندما يواجه شخص مرضاً خطراً أو يعاني إصابة جسدية يتجاوب المقربون منه وحتى جيرانه أحياناً بتقديم الدعم والمساعدة، ويكون الألم الذي يمر به المريض وأسرته مصدراً للتعاطف والتضامن من قبل الآخرين في المحيط. 

وعندما تضرب كوارث طبيعية مثل الزلازل أو الفيضانات يتجمع الناس معاً لمساعدة الضحايا والمتضررين والتعبير عن التضامن معهم ودعمهم لهم بكل السبل الممكنة. وفي الأوقات الصعبة مثل الأزمات الاقتصادية أو الاضطرابات الاجتماعية، يكون الألم الذي يشعر به الأفراد جزءاً من قصصهم الشخصية ويقربهم أكثر من بعضهم بعضاً. وفي حالات الظلم والاضطهاد يتحد الناس معاً لمحاربة القهر والدفاع عن العدالة، إذ يدفعهم الألم الناتج عن غياب العدل إلى التحدث بصوت واحد والوقوف كقوة واحدة لتحقيق تغيير إيجابي، كما في الظهور في مسيرات عالمية لمساندة قضية إنسانية في منطقة ما. وكذلك تعد مجالس العزاء إحدى صور التعاطف الاجتماعي الرئيسة مع الألم، ففي هذه المناسبة يجتمع الأصدقاء والعائلة والجيران لتقديم الدعم والمواساة لأسرة المتوفى والمقربين منه. كما توفر هذه المجالس بيئة تسمح للمحزونين بالتعبير عن مشاعرهم بحرية ومشاركة ذكرياتهم مع المتوفى وقصصهم، مما يسمح للأسرة والمقربين بالشعور بالدعم والمؤازرة والتعاطف خلال هذه الفترة الصعبة.

وربما خير من يلخص دور الألم في تفعيل التعاطف الإنساني هو الشاعر عمر أبو ريشة الذي قال في قصيدة "عروس المجد"، "لمت الآلام منا شملنا ونمت ما بيننا من نسبِ".

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات