ملخص
الفيلسوف العربي ابن خلدون كان قد أجاب عن جزء من هذه الأسئلة في مقدمته الشهيرة، وهي إجابة نظرية ما زالت تدرس حتى اليوم في جامعات العالم وتفيد بأن كل حضارة تمر زمنياً ببداية وقمة ثم هبوط في حالة هندسية تشبه القوس.
فما مصير حضارات هذا الكوكب اليوم؟
يتساءل الجميع عن سبب عدم معرفتنا بكيفية بناء الأهرام مثلاً؟ أو كيف اندثرت حضارة بناتها؟ أو طرح كل واحد منا خلال مراهقته وشبابه أسئلة من قبيل لماذا لم تصل المعلومات حول الحضارات القديمة بالتواتر والإرث والذاكرة الجمعية؟ ولماذا علينا كي نعرف تاريخ البشر أن نحفر هنا وهناك عن هياكل عظمية تدلنا على تاريخنا؟ أو علينا أن نرفع طبقة من فوق طبقة من فوق أخرى كي نعرف أن حضارة ما مرت من هنا؟ أو أن السؤال العام هو لماذا وكيف تندثر الحضارات فلا يبقى منها سوى أثر ماثل أو نص مكتوب في قديم الزمان يخبر عنها؟ وهل كانت هناك حضارات لم نعرف عنها أبداً لأنها لم تترك أثراً ولا نصاً مكتوباً؟
الفيلسوف العربي ابن خلدون كان قد أجاب عن جزء من هذه الأسئلة في مقدمته الشهيرة، وهي إجابة نظرية ما زالت تدرس حتى اليوم في جامعات العالم وتفيد بأن كل حضارة تمر زمنياً ببداية وقمة ثم هبوط في حالة هندسية تشبه القوس، فتبدأ بالتشكل بقوة العصبية، أي الروابط العائلية أو الثقافية والمصالح الاقتصادية الدنيا في المجتمعات الزراعية، أو بواسطة القوة في مجتمعات البدو الرحل والغزاة، ثم تصل هذه الحضارة الناشئة إلى أعلى قوتها في مرحلة من المراحل، قبل أن تبدأ بالانهيار والتردي حتى الاضمحلال بسبب ارتخاء القوة العصبية واتساع رقعة الدولة وانفلاتها عن المركز. وبالفعل أشارت أبحاث حديثة كثيرة عن أحوال عشرات الإمبراطوريات والدول والممالك ما قبل المعاصرة إلى أن الحضارات تملك عمراً افتراضياً، أي إنه مهما بلغت حضارة ما من القوة والسطوة فإنها ستبدأ بالهبوط تدريجاً حتى الموت في وقت معين من عمرها.
إلا أن الباحث والمؤرخ المعروف لوك كيمب الباحث في معهد "نوتردام" للدراسات المتقدمة وفي مركز دراسة الأخطار الوجودية في جامعة "كامبريدج"، قرر مع مجموعة من الباحثين أن يضعوا هذه النتيجة تحت مجهر البحث، وكتب مع مارتن شيفر وإغبرت فان نيس وتيموثي كولر وتيموثي لينتون وتشي شو، بحثاً بعنوان "تحليل بقاء وموت مجتمعات ما قبل الحداثة".
الشعوب والأمم ما قبل الحداثة
بدأ الباحثون بالمزارعين الأوائل في أوروبا منذ العصر الحجري الحديث، ومجتمعات "بويبلو"Puebloan في جنوب غربي الولايات المتحدة.
ومنذ نحو 4 آلاف إلى 8 آلاف عام انتشر مزارعو العصر الحجري الحديث في جميع أنحاء تركيا الحديثة نحو أوروبا، وقد كانوا في أعلى قوتهم، ثم مروا بأزمات دورية نشأت فيها صراعات وحروب مدمرة أدت إلى انخفاض في عدد السكان، وفي مراحل لاحقة ضاقت المواقع الزراعية نتيجة تغير في المناخ. أما مجتمعات "بويبلو" المؤلفة من مزارعي الذرة الذين أقاموا أكبر المباني في الولايات المتحدة وكندا قبل ناطحات السحاب، فقد خضعت أيضاً لدورات عدة من النمو والانكماش، وانتهت بالحروب الحديثة التي أدى بعضها إلى إبادة جزء من هذه المجتمعات في نحو 700 و890 و1145 و1285 بعد الميلاد. وخلال كل من هذه الأحداث انخفض عدد السكان وتضاءل إنتاج الذرة، وهي العمود الفقري للغذاء في هذه المجتمعات، مما أدى إلى تقلص حجم المدن ومن ثم إلى اندثار بعضها نهائياً. ويقول الباحثون إنه في المتوسط استغرقت دورات التنامي والتعافي عند مزارعي أوروبا وسكان أميركا القدماء قرنين من الزمن، وقد تبلغ فترة النمو هذه المدة الزمنية، وقد تبلغ فترة الانكماش مثل هذه الفترة، في حال لم تقع جائحة طبيعية كبرى أدت إلى الاندثار النهائي مثل تغيير كبير في المناخ أو جفاف مديد أو حروب إبادة أو انتشار فيروس قاتل، وغير ذلك من الظواهر الطبيعية غير المتوقعة.
وهناك نهايات تأخذ أشكالاً أخرى، كأن يرث إمبراطورية ما شخص من سلالة أخرى، فتنهار سلالة لتحل محلها السلالة الجديدة على رغم بقاء الإمبراطورية على حالها مادياً. أو قد تسقط إمبراطورية بسبب مجرد احتلالها من قبل أخرى، فيضطر التاريخ إلى ربط حضارة ما بالسلالة التي تحكمها لا بالنتاج الحضاري لهذه الإمبراطورية، بل قد تسقط إمبراطورية عن بكرة أبيها بسبب انقلابات بسيطة داخل أروقة القصر ومن دون أن يحدث أي شيء على الأرض، أو يمكن أن يكون انهياراً مجتمعياً ينطوي على خسارة دائمة للسلطة أو للتدوين عن هذه السلطة وملوكها، أو بسبب تدمير هياكلها الضخمة أو لمجرد انخفاض عدد السكان، كما حدث في اليونان "الميسينية".
وقد يعزى انهيار إمبراطوريات معينة إلى أسباب غير أكيدة، إما لأن نهايتها بدأت قبل قرون من موتها، فعلى سبيل المثال، ما زال السؤال مطروحاً بين المؤرخين عن سبب نهاية الإمبراطورية الرومانية الشرقية (البيزنطية) في عام 1453، فهل كان بسبب سقوط عاصمتها القسطنطينية في ذلك العام؟ أم أن سقوط العاصمة جاء نتيجة تقهقر هذه الإمبراطورية بسبب نهب العاصمة القسطنطينية وتقسيم أراضيها من قبل الصليبيين عام 1204؟ أو أن القوة الإسلامية امتدت غرباً نحو القسطنطينية بسبب خسارة مساحة واسعة من أراضيها نتيجة الحروب الصليبية؟
فعند تعداد أسباب انهيار حضارة من الحضارات قد تختلط الأسباب بعضها ببعض وربما قد تقع متفرقة أو جميعها معاً، بدءاً من الأسباب الطبيعية التي لا قدرة للبشر على ردها منها تأثيرات المناخ والزلازل والبراكين، ثم الأسباب العضوية الكامنة داخل الإمبراطورية نفسها إما بسبب خلافات على الوراثة أو بسبب فشل في الحفاظ على وحدتها أو بسبب عوامل بشرية خارجية مثل الحروب.
شيخوخة وفناء دول اليوم
لكن هل يمكن لأسباب شيخوخة دول ما قبل الحداثة أن تنطبق على الدول والإمبراطوريات المعاصرة؟ ربما، فالتغير المناخي الذي يتسبب به الإنسان في عصرنا الراهن غير مسبوق وأسرع من حيث الحجم من الاحترار الذي تسبب في أسوأ حدث انقراض جماعي في تاريخ الكوكب بحسب علماء المناخ، وقد بات يؤدي إلى أضرار كبيرة في المنتجات الزراعية وفي مواضيع كالهجرة والفقر والحروب والنزاعات على مصادر الماء والغذاء والطاقة. وكذلك قد يكمن تدهور الدول الحديثة في عدم المساواة الاقتصادية بين الأغنياء والفقراء إذ تتسع الهوة بين الطبقتين، ففي حين يملك واحد في المئة من سكان العالم مجمل الثروة المالية، فإن مئات الملايين من البشر يعيشون تحت خط الفقر وعددهم في ازدياد سنوياً، وهو ما يؤدي إلى حروب أهلية داخل الدول أو إلى حروب بين الدول المتجاورة، وإلى ارتفاع عدد المهاجرين من الجنوب إلى الشمال، ومن المناطق الحارة والتي تزداد احتراراً بسبب فقدان الأراضي الزراعية ونقص المياه والبطالة وانتشار الأمية والأمراض.
وعلى عكس العلاقات بين الحضارات والدول والممالك القديمة فإن العالم اليوم أصبح شديد الترابط بسبب العولمة، وهذا يعني أن عدم استقرار قوة عظمى مثل الولايات المتحدة أو الصين أو الاتحاد الأوروبي أو روسيا يمكن أن يؤدي إلى تأثير الدومينو عبر الحدود نحو العالم أجمع.
المجتمع البشري
وقد أظهرت كل من جائحة انتشار فيروس كورونا والأزمة المالية العالمية 2007-2008 كيف يمكن للترابط بين الأمم أن يضخم الصدمات في أوقات الأزمات، هذا عدا عن الترابط الطبيعي بين الأنظمة البيئية والمناخية والتي سيؤدي تدهورها في مكان معين إلى انتقاله نحو أمكنة أخرى، أو سيؤدي انقراض حشرة مهمة كالنحل إلى تأثير عريض على كل المجتمع البشري. ويمكن أخذ التأثير المدمر لارتفاع درجات حرارة الأرض على الشعب المرجانية كمثال ساطع على تأثير الدومينو.
اليوم يجب إضافة أسباب أخرى للتدمير الكلي الذي قد يلحق بالمجتمع البشري الحديث، فعلى رغم اختلاف معظم دول اليوم عن إمبراطوريات القرون الماضية بتقنياتها المتطورة، وعلى رغم أن الإنتاج الصناعي والقدرات التكنولوجية الهائلة والمؤسسات الحكومية المنتظمة يمكنها أن تصنع عالماً أكثر استقراراً ومرونة، فإن تقنيتنا كالسلاح النووي والانتشار السريع لمسببات الأمراض والاستخدام المفرط لمبيدات الحشرات وتربية أعداد هائلة من الماشية وحرق الوقود الأحفوري، يمكنها أن تؤدي إلى هلاك البشرية، هذا قبل أن نضيف إليها الذكاء الاصطناعي الذي لم يتضح تأثيره المستقبلي بصورة نهائية بعد.
في النتيجة يمكن القول إنه على رغم اختلاف الأسباب البشرية التي أدت إلى أفول أمم وحضارات قديمة، فإن أسباباً جديدة أنتجها البشر يمكنها أن تؤدي إلى الأمر نفسه في الدول والأمم الحديثة، هذا لو لم نحتسب الجوائح والمفاجآت التي قد تتسبب بها الطبيعة والتي لا يد للبشر في دفعها عنهم.