Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل يرتكب الدعم السريع "جينوسايد" أيضا؟

قيل إنه يقف وراءها منظر بارد الذهن في المقام الأول وبربري في المقام الثاني

لا تزال الخرطوم تبحث عن سلام يعيد الهدوء المفقود إليها (أرشيفية - رويترز)

ملخص

تجريد جماعة من الناس من استحقاقها كبشر متعدد المشارب، ومحاكمتها ككتلة صماء، هو العتبة الأولى في الـ "جينوسايد" الذي قد يستأصل مع ذلك جزءاً منها لا كلها.

قال أستاذ الدراسات الأفريقية في "جامعة مكغيل" الكندية خالد مصطفى مدني إن الحرب القائمة في السودان ليست حرباً أهلية، فهي إن أحسنا الوصف حرب ضد المدنيين، واتفق في تشخيصه لحرب السودان مع تشخيص أستاذ الـ "هولوكوست" في الجامعة العبرية في القدس آموس قولدبيرغ الذي قال في تحليله لحرب إسرائيل في غزة بأننا ندخل مرحلة جديدة في الحرب وهي الحرب ضد المدنيين.

واستعرض قولدبيرغ جرائم الـ "جينوسايد" في كل من ألمانيا وأرمينيا ورواندا وميانمار ليخلص إلى أن عدوان إسرائيل على غزة جريمة "جينوسايد" كاملة، فقال إنه بإطلاق وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت يد جيشه في غزة ندخل مرحلة جديدة في الحرب وهي الحرب "من دون مدنيين"، فالأهداف العسكرية في مثل هذه الحرب ثانوية بالنسبة إلى قتل المدنيين، أي أن المدني مستباح وهدف للقتل، فاستباحة دم المدنيين في مثل هذه الحرب هو منطق الـ "جينوسايد"، والـ "جينوسايد"، في قول قولدبيرغ، هو القتل المتقصد لجماعة أو جزء منها وليس بالضرورة كل أفرادها، وليس كل "جينوسايد" يقع في العالم من قبيل الـ "هولوكوست" بمفرداته المعروفة مثل أفران الغاز ومعسكرات الاعتقال، ولم يمنع غياب هذه المفردات الـ "هولوكوستية" محكمة العدل الدولية من إدانة الصرب بالـ "جينوسايد" لأنهم بيتوا القصد لتحطيم وجود مسلمي البوسنة في سربرنيتشا من طريق القتل وطردهم وتخريب عامرهم.

ولم يتوقف فكرنا السياسي عند نوع جريمة الحرب التي ترتكبها قوات الدعم السريع ضد المدنيين في الخرطوم ومدني وتتوعد بها ولايتي النيل والشمالية على الشريط النيلي، فلا خلاف في الدوائر المحلية والدولية أن جريمة الحرب التي وقعت على شعب المساليت غرب دارفور هي "جينوسايد"، وهو طبعة أخرى من ذلك الذي وقع لهم عام 2004، ولكن يتوقف الفكر دون تسمية ما يقع على المدنيين في الخرطوم ومدني ويتهدد الولايتين.

ولم يطرأ حتى السؤال لصفوة تيار تنسيقية القوى الوطنية والمدنية (تقدم) التي عدت ما يقع للمدنيين من باب عركنا الحرب بثفالها ولا جديد، بل قال أحدهم إن "الدعم السريع" كسبت دور المدنيين عنوة ومن أراد إخراجهم فليقوى عليهم، وحمّل آخرون منهم القوات المسلحة جريرة احتلال "الدعم السريع" بيوت المدنيين بقولهم إن الأخيرين لاذوا بتلك الدور هرباً من قصف الجيش بالحمم من السماء، فمتى أوقف الجيش حممه خرج الدعم من البيوت وأعادها لأهلها، وعليه فهذا الترويع عن الدور ليس جريمة حرب حتى، طالما أكره الجيش الدعم على ارتكابها.  

ومع اتفاق خالد مع قولدبيرغ في تشخيص حال الحرب في يومنا، وهي أنها حرب ضد المدنيين، إلا أنه لم يتوقف عند تسمية الجريمة التي تقع بالنتيجة للمدنيين موضوعنا هنا، وسبب خالد في هذا الامتناع من تعيين هذه الجريمة أنه يرى أنها حرب الجنرالين البرهان وحميدتي، فكلاهما سواء في العدوان على المدنيين مع أن الحرب حمالة جرائم، فلم تمتنع المحكمة الجنائية الدولية من تحميل الصرب تهمة الـ "جينوسايد" بحق مسلمي البوسنة، مع أن كليهما ارتكب جرائم حرب أخرى أقل ضراوة.

كما ارتكب شعب الـ "هوتو" جريمة الـ "جينوسايد" بحق شعب الـ "توتسي"، ثم ارتكب كلاهما جرائم في الحرب التي دارت بينهما منذ عام 1990 حتى اتفاق سلامهما عام 1993، ثم تفجرت الحرب بينهما عام 1994 ووقع وزر الـ "جينوسايد" الـ "توتسي" على الـ "هوتو".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولم يخل الجيش السوداني من ارتكاب جريرة بحق المدنيين أو اتهم بها، ولكنه لم يوزر بالعدوان العريض غير المفروز عليهم كما وزر "الدعم السريع"، فقد اتفقت وزارة الخارجية الأميركية على أن كلا الطرفين ارتكب جرائم حرب، غير أن التقارير تشير إلى أن "الدعم السريع" وميليشياتها المتحالفة هم من استهدف المدنيين في هجوم يرقى إلى جرائم ضد الإنسانية والتطهير العرقي، وكانت جماعة من نواب الكونغرس تقدمت أول هذا العام بمشروع قرار لإدانة "الدعم السريع" لإذعاره دارفور وارتكاب الـ "جينوسايد"، وقيل إن مرتكب الـ "جينوسايد" منظّر بارد الذهن في المقام الأول وبربري في المقام الثاني، ولم يقع لنا في خطاب الحرب بعد بحث الفكرة من وراء بربرية "الدعم السريع" في شكوى المتأثرين بعدوانه عليهم في الخرطوم وولاية الجزيرة وغيرهما، فلم نزد في خطاب الحرب من وصفها حرباً بين جنرالين نشوى بالسلطة، أو أنها حال ارتزاق غالبة على "الدعم السريع"، أو أنها فتنة كيزان أو فلول يريدون استعادة دولة الإنقاذ، أو مجرد حال عبثية لا اعتبار لمثيريها على المدنيين ولا شفقة، ويرى فيها حميدتي من جهته رداً على اعتداء الجيش عليه، ويروج لمطلبه في أنه يريد استنقاذ السودان من جيش الكيزان وإقامة الدولة الديمقراطية المدنية، بينما يراها الجيش تمرداً من "الدعم السريع" الذي طالت عمامته، وهذه مستويات معلومة في خطاب الحرب، ولكن غضضنا عن خطابات في  الـ "تيك توك" والوسائط تعبر عن أفكار للناهضين جنداً في الحرب يغشون وغاها، أو مناصرين لها يروجون لمزاعم أطرافها منها، وهي المادة التي ربما أسعفتنا من جهة "الدعم السريع"، بخاصة على تقنين الجريمة التي يقول المدنيون إنه ارتكبها بحقهم.

ولربما اشتبهت بأن ما يرتكبه "الدعم السريع" بحق المدنيين في الخرطوم والجزيرة، وما ينتظر ولايتي النيل والشمالية "جينوسايد"، متى ما استمعت لتسجيلات من هم أسفل سلمه العسكري ومن حولهم، فلم يسببوا لانتهاكاتهم في هذه التسجيلات بل عينوا الجماعة موضوع استهدافهم وغبنهم التاريخي، وهي المجموعة التي عرفت عبر تاريخها بأسماء مختلفة مثل "الشماليون" لوقوعهم في شمال البلاد، أو "الجلابة" التي هي صفة التجارة فيهم منذ أجيالهم الباكرة، أو"الشايقية" و"الجعليين" و"الدناقلة"، بأسماء قبائلهم على النيل الأوسط، أو بأسماء عواصمهم مثل "شندي" و"عطبرة" و"مروي" وتدخل الخرطوم ومدني في ذلك.

وسترى من خطاب "الدعم السريع" على مستواه التحت أن تهجيرهم لأهل الخرطوم ومدني، وهو التهجير الذي يلوحون به لمدن لم يطالوها بعد وهي شندي وعطبرة، بمثابة الحل النهائي لمشكلتهم التاريخية مع "الجلابة"، وهو تهجير سيرمي بهم خارج حدود السودان ويخلص لهم به، ومعروف أن عبارة "الحل النهائي" من مصطلح الـ "هولوكوست" التي أراد به النازيون قطع دابر الوجود اليهودي بينهم وللأبد، فإلى عينات من خطاب "الدعم السريع" عن مشروعهم من وراء انتهاكاتهم للمدنيين في الشمال، فقد قال محمد عيسى عليو، من صفوة غرب السودان مركز نشاط الدعم السريع التاريخي، لحشد اجتمع حوله أن يدعو الله ليهدي ناس الخرطوم، قولوا آمين.. آمين... والعن منهم الشيطان... آمين.

وقال أحدهم إنهم ليسوا ميليشيات كما يصفهم الجيش والفلول الإسلاميون، وإن ما يأخذونه من مال في الخرطوم والجزيرة هو ما سبق للشماليين أخذه من بترول الغرب، وعين أربع قبائل يخيم عليها الخطر وهي الدناقلة والشايقية والجعليين (نسي الرابعة)، فهذه القبائل جاءت إلى الغرب على حميرهم يجلبون البضائع وأهل الغرب لا يعرفونهم، فالأرض (السودان) أرضهم هم رضي الجلابة أم لم يرضوا، وإن لم يرضوا هلكوا، وخاطب أهل القبائل الأربع أنه متى قدمنا إليكم سلموا فلن نميز بين الشايقي والجعلي والدنقلاوي، فقد كنا نحن من حماكم منذ عهد الإنجليز وقتلنا أكبر رموز الاستعمار في مقرن النيلين (غردون باشا على يد الثورة المهدية في 1885) وقاتله هو ود أب جوفلو وهو من المسيرية (شعب من البقارة) منطقة بابنوسة، فالأرض أرضنا ووثائق تمليكنا موجودة ببريطانيا، ولكنكم زورتم الورق وتملكتموها، والوثائق الأصلية موجودة عندنا في رهيد البردي (بلدة)، لا نعرف في هذه الأرض سوى شعب الفور (بوسط دارفور) والدينكا (جنوب السودان) (وآخر غير واضح).

ونقل أحد مجندي الدعم السريع عن قائد متحركهم لمدينة عطبرة قوله إنه متى بلغها سينتزع الطفل من حجر أمه ويخبطه على الأرض ويدوس عليه بالتاتشر بلا رحمة، فنحن من المسيرية والرزيقات وكل العطاوة (من شعب البقارة) نقاتل ولن تحكموا البلد ثانياً إلا أن نهلك نحن في القتال، ولكن طالما كنا على وجه البسيطة فلا حكم لكم مرة ثانية، ونحن نتعقبكم في كل اتجاه من عطبرة وبورتسودان، ولا تنتظروا نصراً من عبدالفتاح البرهان أو من الناظر ترك والشايب ضرار (من وجوه شعب الهدندوة بشرق السودان عند بورتسودان)، ونحن قادمون لأدبتكم وسننظف السودان نظافة تخلي أيديكم من الحكم مرة واحدة، نحن دولة السودان ونحن الشعب السوداني، لقد طلبتم النزال فكونوا قدره، سنقضي عليكم ولن نترك سودانياً على ظهر السودان، وسنأتي بشعب جديد كان من عربان النيجر أو عربان تشاد ونوطنهم في السودان هنا، وبيوتكم التي أنتم بها معجبون إلا كان ترونها على شاشة التلفزيون بعد.

"باكر نعود" عبارة من أغنية سودانية شهيرة يكثر تردادها هذه الأيام في الحنين إلى الدور المحتلة بواسطة "الدعم السريع"، إلا أن تعودوا بالسلاح أو تغنوا لها غناء، تظلوا نازحين هاربين تغنون للخرطوم غناء، تغنوا للنيل لكن لن ترشفوا منه قطرة ثانية.

وتنعقد محاكمة هذه الجماعة السودانية التي خرجت منها الصفوة التي سادت حكم السودان منذ استقلاله عام 1956، لا على كسب صفوتها بل عليها إجمالاً مع أنها هي الجماعة نفسها التي أخضعت صفوتها للمحاكمة ثلاث مرات بعد خلعها لهم في ثورات 1964 و1985 و2019، بل كان "الدعم السريع" من أحبط بانقلاب الـ 25 من  أكتوبر (تشرين الأول) 2022، يداً بيد مع الجيش، محاكمة رموز نظام الإنقاذ بقانون تفكيك دولتها بعد الثورة عام 2019.

وبمحاكمة "جماعة الجلابة" عن بكرة أبيها بجريرة صفوة منها لم تعد في قول قولدبيرغ كياناً إنسانياً ثقافياً مختلفة سياساته ونزاعاته وأحلافه، وقال إن تجريد جماعة من الناس من استحقاقها كبشر متعدد المشارب ومحاكمتها ككتلة صماء هو العتبة الأولى في الـ "جينوسايد" الذي قد يستأصل مع ذلك جزءاً منها لا كلها، وقال إن هذا ما يحدث في غزة بواقع التصريحات المتواترة بمحوها من ظهر البسيطة بواسطة مسؤولين كبار فيها، والنبرة الاستئصالية في الخطاب الإسرائيلي العام.      

بدا أننا متفقون نوعاً ما أن من "الجلابة"، لو شئت، من انتهكت "الدعم السريع" حقوقهم كمدنيين وشردتهم في الآفاق أو تتوعد بانتهاكها، ويزكي اعتبار ما يقع عليهم "جينوسايد" بينة مستوى تحتي من خطاب "الدعم السريع" يريد الحل النهائي منهم، وما يحول دون مثل هذا الاعتبار أن فكرنا السياسي أسلم نفسه مختاراً لنظرية "حرب الجنرالين"، أو أن الحرب في عقيدة "تقدم" تطأ بثقالها من تطأ ولا حل إلا بوقفها، فعلمها في وقفها.

المزيد من آراء