إذا تفرّد بعض المفكرين والصحافيين البريطانيين بالكتابة الإيجابية عن العرب والإسلام، فإن البريطاني آرنولد جوزيف توينبي (1889-1975) يعتبر الأهم والأخطر، ولاعتبارات كثيرة علمياً وعملياً وموضوعياً؛ فهو أكبر مؤرخي القرن العشرين، يجيد لغات عدة منها العربية، دبلوماسي، أستاذ جامعي وفيلسوف له نظرياته الحديثة في مسألة المجتمعات الإنسانية أو الحضارات.
ولقد بذل توينبي أكثر من أربعين سنة في "دراسة التاريخ" الذي أكمله في أثني عشر مجلدًا، قسم فيها الحضارات البشرية إلى إحدى وعشرين حضارة، اندثر معظمها ولم يبق سوى بضع حضارات آخذة بالانحلال التدريجي وهي: الأرثوذكسية المسيحية البيزنطية، الأرثوذكسية الروسية، الإسلامية، الهندوكية، الصينية، الكورية-اليابانية. أما الحضارة الغربية الممتدة من غرب أوروبا إلى أميركا الشمالية والجنوبية وأستراليا، فما زالت وفق تصوره مجهولة المصير. على الرغم من أن مناطق حضارة الغرب مختلفة في ثقافاتها وقيمها وأخلاقها، بل ومتباينة في تواريخها أيضاً؛ ولا يجوز ربطها جميعاً بالمصير المجهول. أما الحضارة الإسلامية والحضارات الأخرى الباقية، فيجب ألا ينظر إليها من زاوية دينية شاملة، لأن سماتها متعددة، والدين ليس أكثر من أحد سماتها فحسب.
هذا وتأثر توينبي ببعض الأفكار سواء عند ابن خلدون في المفهوم العلمي للتاريخ، والذي كتب عنه قائلًا: "إن ابن خلدون كان نقطة الضوء الوحيدة في ذلك الأفق، وبلا ريب هو الشخص البارز في تاريخ الحضارة". وكذلك تأثر بفكرة الفيلسوف هنري برغسون: دور الأقلية المبدعة بالتقدم الحضاري، وأيضاً بالمؤرخ كاريل في: أهمية البطل في التاريخ، وبآخرين غيرهم.
إن اهتمام توينبي بالتاريخ العربي قديماً وحديثاً من جهة، ودراسته اللغة العربية والإسلام من جهة أخرى، قاداه إلى وضع كتاب عن "الوحدة العربية"، التي توقعها أن تتم في منتصف سبعينات القرن الماضي، بحيث آمن بعودة السيادة العربية وتحقيق الوحدة. فقد كتب عن استنتاجه المستقبلي في هذه المسألة قائلاً "على هذا الأساس يكون للعرب حتى عام 1974، كيما ينجزوا وحدتهم بالسرعة نفسها للألمان والإيطاليين". كما أيّد توينبي القضية الفلسطينية ودحضه الافتراءات الصهيونية. ومما كتبه في هذا الصدد: أنكم تطالبون بحق اليهود في العودة إلى فلسطين، على الرغم من أنه لم يكن في فلسطين عام 1935 سكان يهود. و"معاملة اليهود للعرب في فلسطين مشابهة لمعاملة النازية لليهود أثناء الحرب العالمية الثانية". وفي موقع آخر يقول "إن جرائم النازية ضد اليهود، أقل انحطاطاً من جرائم اليهود ضد الأبرياء العرب". ولكن لا يزال الباحثون والدارسون العرب منقسمين في تقييمهم إلى توينبي ما بين السلب والإيجاب. فعلى سبيل الذكر لا الحصر، إن كتابه عن الوحدة العربية، أعتبره بعضهم إشارة إلى الغرب عن خطورة هذه الوحدة تاريخياً، خصوصاً إن توينبي قد عمل في الاستخبارات البريطانية أيام السيطرة الاستعمارية.
على أي حال، سنتناول بإيجاز ما كتبه توينبي عن العرب والإسلام تاريخاً وحضارة. ففي نظرية التحدي والاستجابة التي وظفها توينبي، في بحث النشوء والتطور والتقدم، ثم الانحلال والانهيار اللذين يصيبان الحضارات قاطبًة. يقول في تفسيره ظهور الحضارات الأصلية الأولى في مصر والعراق: "كانت شبه الجزيرة العربية والشمال الأفريقي تتمتعان بجو معتدل ومراع شاسعة ومياه غزيرة، خلال نهاية الفترة الجليدية الأخيرة". وكانت المجاميع البشرية تعيش وقتذاك بدائياً على الصيد والقنص وجمع الثمار والبذور. وبعدما حدث التغير المناخي تدريجياً في الفترة المناخية الدافئة التي نعيشها نحن الآن، والذي أدى إلى انحباس الأمطار وانتشار التصحر وجفاف الأنهار، شكلَّ هذا النمط من الحياة الطبيعية تحدياً واجهته تلك المجتمعات، فاستجابت له بطرق مختلفة: إذ تحوّل بعضها إلى حياة البداوة ضمن قبائل رُحّل تسعى وراء الماء والكلأ وترعى المواشي التي تعيش عليها، حيث بقيت في أراضيها، وليومنا هذا تحافظ على هذا النمط الصحراوي من حياتها. وهذا النوع من الاستجابة سلبي لا طاقة إبداعية فيه ولا تطور. أما بعضها الآخر فقد رحّل نحو الجنوب في المناطق الاستوائية المُشابهة كثيراً للبيئة السابقة، وظل محافظاً على نمط معيشته البدائية حتى يومنا هذا. أما بعضها الأخير فرحل إلى دلتا النيل، حيث جابه البيئة الجديدة وتغلب على عوائقها وسخرها لأغراضه، بعد أن أكتشف الزراعة، ما أدى إلى إنشاء الحضارة المصرية القديمة. أما بعض الجماعات الذي انتقل من شبه الجزيرة العربية إلى أهوار جنوب العراق والفرات الأسفل تمخض عن انبثاق حضارة ما بين النهرين. وهذا النوع من الاستجابة إيجابي إذ فيه العزيمة على مجابهة التحدي والتغلب عليه.
هنا يكون توينبي متفقًا تمامًا مع المبدأ العام الذي يجتمع عليه جل المؤرخين والباحثين، ومنهم المؤرخ الأميركي ويل ديورانت (1885-1981) الذي يؤكد أن العرب هم مهد الحضارة الأولى في التاريخ. ومن جملة ما ذهب إليه في كتابه الموسوعي "قصة الحضارة" "إن الحضارة ظهرت في الأزمنة القديمة غير المدونة في بلاد العرب، ثم انتشرت إلى أرض الرافدين ومصر".
إن شبه الجزيرة العربية تمثل الموقع الرئيس للعرب ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، والتي كانت قبل عشرة آلاف سنة (أي قبل العصر الجليدي الأخير)، تتمتع بحياة طبيعية خضراء يتخللها نهران عظيمان من شمالها حتى جنوبها. وعندما دخلت الأرض في مرحلة الدفيئة الثالثة، بدأ ذوبان الجليد في قارة أوروبا وحوض الأبيض المتوسط. وغزا الجفاف جزيرة العرب، فبقيت قلة تعيش حياة البداوة، أما معظمهم فهاجروا إلى واديي الرافدين والنيل وشمال أفريقيا. وهكذا نشأت الحضارات القديمة من سومرية وبابلية وآشورية وفرعونية.
ويدحض توينبي "نظرية البيئة" التي تنص على أن للبيئة أثرها وتأثيرها في تكوين الحضارات، فالجو والماء والمكان الجغرافي تعتبر الأركان الأساس والدافع الحقيقي لطبيعة التغيرات الحضارية. يرد توينبي قائلاً "حقاً إن ظروف البيئة المتشابهة في واديي النيل والرافدين أتاحا مجتمعات وحضارات متشابهة، لكن كيف نفسر عدم وجود مجتمعات وحضارات متشابهة في وديان أخرى، مثل وادي ريوغراندي، ونهر كلورادو".
الإسلام ديناً وحضارةً
بدأ اهتمام توينبي بالحضارة العربية الإسلامية في وقت مبكر من حياته، حيث أولى لها عناية خاصة في قراءاته ودراساته، التي ركز فيها على العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط، وألف كتاب: "محنة الحضارة" و"العالم والغرب". علاوة على تعمقه في بعض المؤلفات العربية ومنها: "مقدمة أبن خلدون". وفي كتابه عن الإسلام، فقد وضعه في مرحلتين رئيستين، الأولى: دينية بحتة، والثانية: دينية سياسية.
يرى توينبي أن قوة الإسلام تجسدت في المرحلة الأولى، وأن المبدأ الذي حمله النبي محمد عليه السلام إلى أتباعه ينحصر في "إسلام النفس لله" وحده. وأن الرسالة الإسلامية جوهرها التوحيد، فضلاً عن الحقوق والواجبات والمساواة بين الجميع. وأشار توينبي بكل وضوح إلى "عبقرية محمد" في هذه الرسالة السماوية، حيث قال: كان لعبقرية النبي محمد أثر كبير في نقل رسالة ربه إلى قومه، وكان تاريخ شبه الجزيرة العربية مرتبطاً بذلك، وفي سنة 622 تبدل الوضع تماماً لصالح محمد ورسالته، فقد جاءته مجموعة من يثرب تطلب إليه أن ينتقل إليها ويتولى أمورها، ما اعتبر عاملاً لانتشار الإسلام في العالم.
بيد أن توينبي يرى أيضاً، أن نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، لو بقي داعياً دينياً فقط، لأصبح الإسلام أسمى روحياً مما هو عليه؛ وأن الهجرة كانت بداية الانحلال. وكان الأجدر أن يلتزم توينبي النهج الموضوعي، بوصفه مؤرخاً ودارساً للتاريخ، وليس سياسياً متديناً، فهو الذي أقرّ وأكد أهمية الإسلام من جهة، وعبقرية النبي محمد من جهة أخرى. كما أكد توينبي أن الحضارة الإسلامية هي إحدى الحضارات المتميزة التي لعبت دوراً مهماً في تاريخ البشرية، بعدما هضمت وتمثلت المنجزات الفكرية والمادية للحضارات السابقة عليها، وعملت على صقلها وبلورتها وإغنائها، فطورتها وزادت عليها، وقدمت إلى الحضارة الإنسانية مادة غنية عملت على دفع عملية التطور الفكري والمادي خطوات واسعة نحو التقدم الحضاري.
يعترف توينبي بأن الإسلام يتميز بالأفق الرحب، وسمو الأفكار، إذ يحث على استعمال العقل والفكر، ويدعو إلى الاهتمام بالأمور العامة، والنظر إلى الكون من دون الاقتصار على مادية المصالح الفردية. كما أن الإسلام أوجد عوامل الوحدة في العقيدة والدين، وفي القانون ونظم الحياة، أسهمت في وجوده كدولة عالمية تُعَبّر عن الوحدة السياسية للحضارة. ولقد برزت جلياً عوامل التوحيد في الدين والخلافة والقوانين وعاصمة واحدة تحظى باحترام الناس.
وأقر توينبي، بأن الإسلام هو أكثر العقائد الدينية اتفاقاً مع المنطق، وأشدها دقًة في الإيمان بمبدأ الوحدانية. ورفض ما تطرق إليه بعض المؤرخين الغربيين بأن "القوة المادية" كانت العامل الحاسم في انتشار الإسلام. إذ حسب رأي توينبي، أن الشروط التي طالب المسلمون الآخرين بها للإيمان بالدين الجديد لم تزد على تأدية عدد من الفرائض، ولم تكن بالأمر الشاق. علاوة على أن البلاد المفتوحة لم تكن تخيّر بين الإسلام أو القتل، بل بين الإسلام ودفع الجزية. وأن الحضارة التي انتشرت في شمال أفريقيا هي في الواقع من عمل الإسلام ودعاته العرب.
ويؤكد توينبي أن الحضارة العربية الإسلامية في إسبانيا، حافظت على الفلسفة اليونانية من خلال "علماء إسبانيا المسلمين". إلا أن أعداءهم المنتصرين عليهم استغلوها لمنفعتهم. كما أن حركة الترجمة في بغداد نقلت المؤلفات اليونانية عن السريانية، عدا عن نقل التراث العربي إلى بقية الأمم؛ ما يبرهن على وجود حركة فكرية كبيرة.
وبتشخيص تحفيزي، ينبه توينبي العرب إلى المقومات التي يمتلكونها في تحقيق تقدمهم ورقيهم الحضاري: إذا كان أبناء الحضارة العربية الإسلامية اليوم، لا يستغلون المقومات التي يمتلكونها لتحقيق الأهداف الواجبة للنهوض بأمتهم، والسير بها نحو الرقي والتقدم الحضاريين، فهذا لا يعني أن المقومات غير موجودة، لأن عدم استثمار المقومات لا يلغي وجودها، بل تحتاج إلى من ينقلها من حيز الوجود بالقوة إلى حيز الوجود بالفعل.
إن توينبي وهو يدرس ويتمحص العالم العربي وما فيه من خيرات وإمكانات هائلة، لم تستثمر بعد بالشكل المطلوب، كتب: لقد أضحى العالم العربي والإسلامي، اليوم أكبر منتج للنفط، وأكبر احتياطي، كما يتمتع بموقع جغرافي مهم يتوسط قارات العالم القديم، ويشرف على بحار ومحيطات، ويمتلك أهم الطُرق البرية والمضائق البحرية، وخصوصاً قناة السويس. لكن إدارة واستثمار المجتمعات العربية والإسلامية هذه الإمكانات ضعيفة، لا تتناسب مع حجم قدراتها، ولا يعني أنها غير قادرة في المستقبل، إلا أن المسألة مرهونة بالدرجة الأولى بيقظة أبناء الأمة ونهوضهم من جديد.
ربما "مشروع نيوم" الاستثماري العالمي العملاق الذي تؤسسه المملكة العربية السعودية ويمتد إلى الأردن ومصر، ومستقبلاً، نحو بلدان عربية أخرى، قد يكون الجواب عما كتبه توينبي.