ملخص
وعد بوتين بأنه سيفعل كل ما بوسعه للارتقاء إلى مستوى ثقة الشعب الروسي، كما قطع على نفسه وعداً بأنه سيستخدم جميع صلاحيات رئيس الدولة المنصوص عليها في الدستور في هذا السياق.
وتحليل خطاب بوتين يظهر أنه مهتم بفكرة وحدة أراضي روسيا التاريخية، وتأكيد الحبل السري الذي يربط مواطني روسيا بالتاريخ والجغرافيا، وهو أمر يفهم في سياق ما يقوله الروس عامة وبوتين خصوصاً، إن روسيا تتعرض لمؤامرة حقيقية.
لكن ماذا عن أولويات الولاية الجديدة التي يستهلها بوتين هذه الأيام؟
نعم، لقد فعلها القيصر فلاديمير بوتين من جديد، وذلك بفوزه بولاية خامسة، وبنسبة 87.9 في المئة من أصوات الناخبين الروس، وهي أعلى نتيجة على الإطلاق في روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي، الأمر الذي اعتبره كثير من الدوائر المعنية رسالة شعبوية ونخبوية من الروس في الداخل، إلى القريب والبعيد، إلى الأصدقاء والأعداء، وكل من يحاول رسم صورة عن النسيج المجتمعي الروسي.
الفوز البوتيني الكبير كان، ولا شك، محور كثير من الأحاديث الغربية والشرقية، بين من يرى أنه سيجذر حضور بوتين وسيقوي من حضور روسيا على الصعيد العالمي، ومن يذهب إلى أن بوتين يقود روسيا إلى حافة الانهيار والهاوية، كما كتب الباحث مكسيم ساموروكوف عبر مجلة "فورين بوليسي" الأميركية، أخيراً.
يمكن لنا في هذه القراءة المتأنية أن نتساءل وبموضوعية تامة، بعيداً من التحيز أو التمذهب لهذا أو لذاك "هل فوز بوتين بالولاية الأحدث يعمق من حضور روسيا القطبي حول العالم، أم إنه بالفعل يمضي بروسيا نحو مزيد من الديكتاتورية وحكم الأوليغارشية كما تزعم الأبواق الغربية؟
الجواب حكماً، لا يمكن أن ينطلق من عند العواطف والمشاعر، بل لا بد له من أن يستند إلى الحقائق على الأرض، حقائق جغرافية وديموغرافية، حقائق عسكرية لا سيما حول سير المعارك مع أوكرانيا عبر عامين من جهة، وما يمكن أن ينتظر روسيا والعالم من مواجهات أخطر في قادم الأيام.
وبين هذه وتلك، لا يمكن للمرء أن يغفل أحد أهم الأحاديث عن أوضاع روسيا الاقتصادية، وبخاصة في ظل علامة تعجب ترتسم على الوجوه الغربية بخصوص عدم انهيار روسيا اقتصادياً، على الرغم من كل ما تم فرضه عليها من عقوبات اقتصادية منذ عام 2014، أي منذ عودة شبه جزيرة القرم إلى الحاضنة الروسية، وما تلا العملية العسكرية في أوكرانيا من إجراءات تأديبية اقتصادية لروسيا.
ماذا عما تقدم وغيره من نقاط؟
روسيا – بوتين... ملامح ولاية جديدة
نهار السابع من مايو (أيار) الجاري، يوم تنصيب بوتين، ألقى سيد الكرملين خطاباً يمكن أن يستشف منه المرء توجهات القيصر في ولايته الجديدة، عطفاً على قناعاته ورؤاه لروسيا في السنوات المقبلة.
وبدا واضحاً أن أهم محور كان بوتين ولا يزال يراهن عليه هو ذاك المتعلق بالنسيج المجتمعي الروسي، فقد اعتبر أن المواطنين الروس من خلال تصويتهم واقتراعهم له بهذه النسبة غير المسبوقة، قد أكدوا صحة المسار الذي تسير فيه البلاد على حد تعبيره، ومعتبراً أنه أمر "ذو أهمية كبيرة". لماذا؟ لأن روسيا الموحدة في الداخل، هي القادرة، بالفعل على مواجهة اختبارات جدية حقيقية.
ووعد بوتين بأنه سيفعل كل ما بوسعه للارتقاء إلى مستوى ثقة الشعب الروسي، كما قطع على نفسه وعداً بأنه سيستخدم جميع صلاحيات رئيس الدولة المنصوص عليها في الدستور في هذا السياق.
وتحليل خطاب بوتين يظهر أنه مهتم، إلى درجة مهموم، بفكرة وحدة أراضي روسيا التاريخية، وتأكيد الحبل السري الذي يربط مواطني روسيا بالتاريخ والجغرافيا، وهو أمر يفهم في سياق ما يقول الروس عامة وبوتين بخاصة، بأن روسيا تتعرض لمؤامرة حقيقية، يراد من خلالها تفتيت رقعتها الجغرافية بالضبط كما حدث مع ما جرى مع الاتحاد السوفياتي سابقاً.
لكن ماذا عن أولويات الولاية الجديدة التي يستهلها بوتين هذه الأيام؟
أجمل الرجل الأمر في عبارات عدة منها قوله: "يجب على روسيا ووسط التحديات التي تواجهها وتجابهها، أن تكون مكتفية وقادرة على المنافسة، وأن تفتح آفاقاً جديدة، كما حدث بالفعل مرات عديدة سابقة في تاريخها".
يبدو رهان بوتين الحقيقي على فكرة بقاء روسيا منسجمة الأعراق، ومحافظة على تقاليد جميع الشعوب التي تعيش على أرضها، ومعتبراً أن اللغة رابط حضاري يجمع الجميع تحت سماء روسيا معاً.
في مقدم أولويات بوتين، وكما تبدى في خطابه، الحصول على عدد سكان مزدهر والحفاظ على قيم روسيا وتقاليدها التي تعود إلى قرون مضت، ودعم هذا المسار سيستمر من خلال توحيد الجمعيات العامة والدينية والأحزاب السياسية على جميع مستويات الحكومة. ولم يتوقف القيصر عن القيم المفاهيمية والأخلاقية الأدبية فحسب، بل انتقل في حديثه إلى مستوى آخر مغاير، يتمثل في كل ما هو ملموس ومحسوس.
روسيا بحسب بوتين تتطلع إلى الأمام عبر تنفيذ مشاريع وبرامج جديدة مصممة لجعل تنميتها أكثر ديناميكية، وأكثر قوة، وعنده أن استقرار الوطن يخلق مزيداً من الظروف الملائمة للتجديد والتطوير، مع الأخذ بالاعتبار أن الاستقرار لا يعني الجمود.
ولم يكن بوتين ليغفل التحذير والتنبيه من الآثار الكارثية للمؤامرات الخارجية التي هدفت، ولا تزال، للنيل من وحدة الوطن وسلامة أراضيه، ما تمثل في قوله: "على المرء أن يتذكر ثمن الاضطرابات والصدمات الداخلية، لذلك يجب أن يكون النظام السياسي في روسيا مستداماً وقادراً تماماً على مواجهة أي تهديدات وتحديات، ويجب أن يضمن التنمية التدريجية والمستقرة ووحدة البلاد واستقلالها.
والشاهد أنه إذا كان خطاب السابع من مايو موجهاً للشعب الروسي في الداخل، فإن بوتين، لم يغفل الخارج لا سيما الغرب المتصدي والمتحدي في كلمة أخرى تالية".
خطاب النصر... تحذير من صدام عالمي
لكي نتعرف على الوجه الخارجي لروسيا المقبلة خلال الولاية الجديدة للقيصر، ينبغي أن ننطلق من آخر عبارات وجهها للآخرين في خطاب تنصيبه، وصولاً إلى خطاب النصر الخاص بذكر قهر النازية في الحرب العالمية الثانية، ذلك الذي ألقاه في استعراض عسكري مهيب في ساحة النصر.
في خطاب السابع من مايو، تكلم بوتين عن روسيا المستعدة لتعزيز العلاقات الجيدة مع "جميع الدول التي تعتبر روسيا شريكاً موثوقاً وصادقاً، وهذه هي الأغلبية العالمية حقاً، بحسب وصفه.
موسكو بحسب بوتين، مستعدة للدخول في حوار عادل في شأن الأمن والاستقرار الاستراتيجي، لكن ينبغي أن يتم ذلك من خلال موقع قوة، ويجب كذلك أن يكون خالياً من الغطرسة والغرور والشعور بالاستثناء، كما يجب على أطراف الحوار أن يكونوا متساوين ويحترمون مصالح بعضهم البعض.
وبالوصول إلى نهار التاسع من مايو، كانت لغة بوتين أقوى، ولهجته أشد، حتى لو لم يبارح مربع الرغبة في عدم الدخول في صدام عالمي. واتهم بوتين الغرب، نهار الخميس الماضي، بالمخاطرة بنشوب صراع عالمي وقال، إنه لن يسمح بتهديد أكبر قوة نووية في العالم.
وسط عاصفة ثلجية نادرة تحل بموسكو في مايو، وبعد أن استعرض وزير الدفاع سيرغي شويغو القوات المصطفة، كان بوتين حازماً وحاسماً في تصريحاته وكلماته: "إن روسيا ستبذل قصارى جهدها لمنع حدوث صدام عالمي، لكن في الوقت نفسه، لن نسمح لأي شخص بتهديدنا. قواتنا الاستراتيجية دائماً في حالة استعداد قتالي".
وأظهر بوتين في كلمته اهتماماً واسعاً بفكرة الحلفاء الموثوقين، ومشيراً إلى أولئك الذين يتناسون الدور الروسي في الحرب العالمية الثانية. وركز، بشكل خاص، على ما سماه "كفاح الشعب الصيني ضد النزعة العسكرية اليابانية"، وقد كان في الأمر رسالة مزدوجة، الأول لبكين، وكأنه يقول إننا لن نتركها وحدها في الميدان في مواجهة المخططات الأميركية الساعية لمواجهتها صباح مساء كل يوم، والثانية لطوكيو، التي لا تنفك هذه الأيام تعزز من تحالفاتها مع واشنطن، والحديث سائر ودائر حول احتمالات نشر رؤوس نووية أميركية في القواعد العسكرية الموجودة على الأراضي اليابانية.
ولم يوفر بوتين الربط بين ما يحدث في أوكرانيا من جهة، وشهوات قلب الغرب لجهة روسيا من جهة تالية، فقد أشار غير مرة في كلمته إلى ما سماه أحلام الغرب في إضعاف روسيا، لا سيما عبر أوكرانيا، ولهذا اعتبر أن الفوز في هذه المعركة هو شرط رئيس لتحقيق روسيا أهدافها.
ولم ينسَ بوتين أن يلفت الانتباه إلى إمكانات روسيا في عالم الأسلحة الإلكترونية المتطورة، إذ اعتبر أن المسيرات الأوكرانية لا تعدو أن تكون كالذباب فوق رؤوس العسكريين الروس، أما عن الأسلحة الاستراتيجية المحمولة على الصواريخ الباليستية، فقد ترك الكاميرات تنقل حديثها إلى العالم عبر الاستعراض العسكري، فقد ظهر على سبيل المثال في الاستعراض الصاروخ الاستراتيجي الروسي العابر للقارات "يارس"، الذي قال مذيع تلفزيوني إن لديه "قدرة مضمونة على ضرب هدف في أي نقطة في العالم"، أما الصاروخ الشيطاني "سارمات"، فغالب الظن أن بوتين يخبئه للساعة الـ11 من المواجهة مع الغرب حال حدوث القارعة.
هنا يطفو على السطح تساؤل مثير: هل يمكن أن تكون هذه بالفعل دولة على حافة الهاوية، وإن كان هناك من يرى ذلك، فعلى أي أساس أو منطلق يبني حساباته إن كانت حقيقية بالفعل؟
روسيا هل تشبه الاتحاد السوفياتي؟
أخيراً، وعبر مجلة "فورين بوليسي" الأميركية، كتب الباحث في الشؤون الروسية مكسيم ساموروكوف، تحت عنوان "نظام بوتين الهش"، يقول إنه، وكما الحال مع النظام السوفياتي الذي سبقه، فإن نظامه يقف دائماً على حافة الانهيار.
يستشهد ساموروكوف بالمؤرخ الأميركي ستيفن كوتكين من جامعة "برينستون" الذي أشار إلى أن الغرب فشل في توقع انهيار الاتحاد السوفياتي لأن البلاد لم تكن تنهار ببساطة. ولم تكن هناك اتجاهات طويلة الأمد جعلت من تفكك الاتحاد السوفياتي أمراً لا مفر منه. وبدلاً من ذلك، تمت إطاحة الدولة المستقرة نسبياً من خلال سلسلة من القرارات التي اتخذت على أعلى المستويات، وتم تنفيذها من دون انتقاد من خلال نظام خال من الضوابط والتوازنات.
الباحث عينه يعتبر أنه، وعلى الرغم من أن المقارنة تبدو غير مرجحة في البداية، فإن وضع بوتين اليوم يشبه في بعض النواحي ذلك الذي واجهه الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف في السنوات الأخيرة من عمر الاتحاد السوفياتي في أواخر الثمانينيات، إذ أصدر تعليماته للأعضاء الحزبيين المحافظين بالمضي قدماً في التحرير السياسي والاقتصادي.
لم يبد المسؤولون، الذين اعتادوا على تنفيذ الأوامر من أعلى، مقاومة تذكر، وعلى الرغم من أن بوتين لا يتمتع بالنزعة الإنسانية المثالية التي يتمتع بها غورباتشوف، ولكنه يشبه غورباتشوف في جانب واحد بالغ الأهمية، وهو قدرته على فرض رؤيته الشخصية على الدولة الروسية.
خلاصة قول ساموروكوف أنه، على السطح، يبدو نظام بوتن مستقراً. إن طاعة النخبة واستمرار الاحتياطيات المالية الهائلة وعائدات النفط، وبراعة الدولة في تشكيل الرأي العام، كل هذا يجعل بوتين يبدو وكأنه شخص لا يقهر، ولكن نظامه "لا ينهار" بالطريقة نفسها التي كان بها الاتحاد السوفياتي الراحل "لا ينهار"، وكما هي الحال مع الاتحاد السوفياتي، فإن بنية نظام بوتين تجعله أكثر هشاشة مما يبدو.
والنتيجة أنه قد يستغرق الانهيار سنوات حتى يتحقق، أو يمكن أن يحدث في غضون أسابيع، ولكن يتعين على الغرب أن يدرك أن الأحداث في روسيا قد تخرج في أي لحظة عن سيطرة الكرملين، الأمر الذي قد يؤدي إلى زوال سريع لنظامه الذي يبدو خالداً.
هل من آراء أخرى تدحض هذه الرؤية؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بوتين والمعجزة الروسية الاقتصادية
يمكن القطع بداية أن هناك فارقاً رئيساً بين حياة الروس في زمن الاتحاد السوفياتي، وواقع حالهم بعد ربع قرن تقريباً من حكم بوتين، ما يجعله الحاكم الأطول عمراً بعد الرمز الشيوعي الأشهر جوزيف ستالين.
ويختلف الوضع الاقتصادي اختلافاً كبيراً بين المشهدين، فاليوم وعلى الرغم من كل ما تعرض له بوتين من عقوبات اقتصادية، فقد استطاعت بلاده أن تعبر هذه الأزمة حتى الساعة بمهارة كبيرة.
ولقد أثبت الاقتصاد الروسي متانته وصلابته، والحديث هنا للأرقام وليس للأحاديث المنطلقة على سجيتها من قبيل العاطفة، إذ الأرقام لا تكذب ولا تتجمل.
في أوائل فبراير (شباط) الماضي، وبعد عامين من الحرب في أوكرانيا، نشر موقع "أر بي كا"، الذي استند لبيانات البنك الدولي، تقريراً عن أحوال الاقتصاد الروسي جاء فيه:
-نمو الناتج المحلي الإجمالي في روسيا خلال السنوات الأربع الماضية، أي الفترة من 2020 إلى 2024، بنسبة 5.4 في المئة، وهي وتيرة تتجاوز تقديرات الخبراء والمحللين، مع توقعات من البنك الدولي بأن روسيا ستستحوذ على المركز الثامن في ترتيب الدول من حيث الناتج المحلي الإجمالي.
-جرى نمو للصناعة الروسية خلال السنوات الأربع نفسها بنسبة 8.5 في المئة، أما قطاع الصناعات التحويلية فسجل نمواً بنسبة 17.3 في المئة.
-نجحت روسيا في إعادة توجيه جزء كبير من الصادرات إلى أسواق جديدة (الدول الصديقة) وتجاوزت قيمة الصادرات بالدولار المستوى الذي تم تسجيله قبل الجائحة.
-ارتفع الدفع بالعملة الروسية من 19 في المئة إلى 40 في المئة من المعاملات.
-نما الدخل الحقيقي المتاح للمواطنين الروس بنسبة 1.9 في المئة.
هل عرف بوتين كيف يعزف على بعض أوتار مهمة لم تحسب لها الدوائر الغربية وتحديداً الأميركية والأوروبية حساباً؟
غالب الظن أن عقلية رجل الاستخبارات، لا تزال هي التي تحكم عمل بوتين، بالتالي استطاع أن ينسج شبكة من العلاقات الاقتصادية المتميزة أول الأمر مع الجمهوريات السوفياتية السابقة، التي تبقى حتى الساعة على صلة وثيقة ولصيقة بالمركز الرئيس أي موسكو.
هذه الجمهوريات عرفت روسيا كيف تقايضها على ما تحتاج إليه من سلع وخدمات، في مقابل خدمات روسية، وسلع ليس أقلها ولا آخرها الأسلحة ذات المستوى المتميز.
من جهة ثانية، نجحت روسيا - بوتين، في مد جسور تواصل اقتصادي مع رقعتين جغرافيتين مهمتين للغاية وتمتلكان كثافة سكانية هائلة وموارد اقتصادية متميزة.
ونجحت موسكو في العودة من جديد إلى القارة الأفريقية، واقتطاع مساحات من النفوذ الأنغلو-ساكسوني، بل والفرانكفوني التقليدي هناك.
وفي الطرف الآخر من الكرة الأرضية، عرف القيصر كيف يعزف مقطوعاته من النفوذ في أميركا اللاتينية، الخلفية الجغرافية للولايات المتحدة الأميركية.
أما الصفقة الأنفع والأرفع، وحتى لو دخلت في سياق العلاقات البراغماتية، فهي تلك التي جرت بين موسكو وبكين، ولا تزال جارية، وغالب الظن أنه سيطول بها المقام في قادم الأيام، وهو أمر يشكل إزعاجاً شديداً للعم سام.
إنها إذاً روسيا التي تعرف أهمية الاقتصاد لا للجيوش فقط التي تمشي على بطونها، بل الشعوب، وفي هذا ما يدفع بعيداً شبهة وصول روسيا إلى حافة الهاوية في الوقت الحاضر.
روسيا الموحدة والغرب المنقسم
بعد أزيد من عامين من انطلاق المعارك الروسية مع أوكرانيا، تتبدى هناك حقائق عدة تقطع بأن روسيا - بوتين، تختلف طولاً وعرضاً، شكلاً وموضوعاً عن روسيا زمن غورباتشوف الذي لم يخض معارك عسكرية مع دولة مدعومة من "الناتو" بقوة.
تكتب "الإيكونوميست" البريطانية في أوائل ديسمبر (كانون الأول) الماضي "يبدو أن بوتين ينتصر حالياً في حرب أوكرانيا"، وأن أكبر أصوله لهذا الانتصار هو افتقار أوروبا للرؤية الاستراتيجية.
وتوضح المجلة البريطانية الشهيرة كيف أن بوتين وضع بلاده بشكل جيد على استعداد لحرب طويلة، وعزز قبضته على السلطة، بعد أن عرف كيف يشتري الإمدادات العسكرية من الخارج، وهنا يمكن القول إنه عرف كيف يتلاعب بمربعات النفوذ التي تخسرها أميركا حول العالم، كما الحال مع إيران تحديداً، التي عملت على تزويد موسكو بالطائرات المسيرة التي يتم استخدامها في قصف الأهداف الأوكرانية.
ولعل الأهم من ذلك، أن أوكرانيا، وبكل الزخم الذي تلقته حتى الساعة، لم يقدر لها أن تؤثر في الوضع العسكري الاستراتيجي الروسي، بل على العكس تماماً ها هي موسكو تتقدم، كما فشلت خطة هجوم الربيع التي تشدق بها "الناتو" في مواجهة روسيا.
هل رسم بوتين خطوطاً حمراً لم ولن يقدر تجاوزها من جانب أوروبا وأميركا؟
غالب الظن أن الأمر يجري بالفعل على هذا النحو، والدليل أن واشنطن تقدم قدماً وتؤخر اثنتين في تزويد كييف بطائرات متطورة من نوعية "أف-16"، لا سيما بعد تصريحات بوتين أنه سيتم التعامل معها كأهداف تهديد استراتيجي لبلاده.
أبعد من ذلك جاءت أوامر بوتين، في الأيام القليلة الماضية، بالاستعداد لتنفيذ مناورات عسكرية بأسلحة نووية ولو غير استراتيجية، لتقطع بأن فكرة هزيمة دولة نووية أمر غير ممكن في الحال أو الاستقبال.
واستنفدت القوات الروسية قدرات أوكرانيا في الدفاع، وهزمت احتياطاتها التشغيلية، بما في ذلك تشكيلات النخبة التي دربها مدربو حلف "الناتو"، ونتيجة لذلك انتقلت المبادرة الاستراتيجية إلى موسكو، وبشكل عام أظهرت التجربة الناجحة في إعداد وتنفيذ الدفاع النشط من قبل المجموعة المشتركة للقوات، تفوق العبقرية العسكرية الروسية الحديثة على "الناتو".
هل الجانب العسكري فقط هو الذي حققت فيه روسيا انتصارات بعينها؟
مؤكد أن الجانب السياسي كذلك أوفى لها، ذلك أنه في وقت بدت روسيا في الداخل على قلب رجل واحد، لا تبدو أوروبا موحدة تجاه الاستمرار في المعركة ضد أوكرانيا، فهناك أصوات عريضة تعلو يوماً تلو الآخر رافضة عبثية تقسيم المنطقة الأوراسية على النحو الذي نجحت فيه واشنطن، ومن جانب آخر بدت دول مثل المجر، تلعب دور العصا في دواليب العلاقات الأوروبية - الأوكرانية.
أما على الجانب الأميركي، فلا يحتاج المشهد إلى مزيد من الشرح، فعلى الرغم من إقرار مساعدات مالية هائلة لأوكرانيا من جديد، فإن هناك رغبة دفينة في ألا تتورط واشنطن في مديات عسكرية أبعد، لا سيما أن الجانب الروسي، يتحسب للقارعة النووية منذ بدايات الأزمة، وهو ما لمح إليه بوتين في الخطابين الأخيرين.
على أنه وفي كل الأحوال يتبقى في المشهد تساؤل مثير "هل هناك مهدد حقيقي لروسيا الاتحادية؟ مهدد لا يبدو أنه فاعل وناجز في الوقت الحاضر وإنما يمكن بالفعل أن يعرض تاريخ روسيا بأكمله للانقراض وتبقى الأحاديث عن أثر بعد عين؟
الشتاء الديموغرافي... يهدد روسيا
هذا هو المهدد الحقيقي البتار، الذي يبدو كسيف مسلط على رقبة الأمة الروسية ذات التاريخ الكبير والعريق.
لم يوارِ أو يدر الرئيس بوتين هذه المعضلة في خطاب فوزه بالولاية الخامسة، إذ قد توقف أمامه بشكل واضح ومباشر.
الأزمة الديموغرافية الروسية تتمثل في انخفاض نمو السكان، وما يترتب عليه من عواقب متوقعة وتتمحور ملامحها الرئيسة حول الحجم الكبير للانخفاض السكاني.
ارتفعت علامات القلق من ظاهرة انخفاض أعداد سكان روسيا في زمن تفشي جائحة "كوفيد-19" بشكل خاص، لا سيما في ظل حالات الوفيات الرهيبة التي جرت بها المقادير، وجاءت الحرب الأوكرانية لتضع على طاولة القيادة الروسية ورجالات الإنتلجنسيا بالتحديد، رؤى متشائمة حول مستقبل البلاد حال الدخول في حرب كبرى مع أوروبا أو مع "الناتو" بشكل عام.
ووفقاً لهذه الإحصاءات الروسية، بلغ عدد سكان روسيا اعتباراً من بداية العام الحالي نحو 146.15 مليون نسمة، في حين بلغ الرقم 146.44 مطلع يناير (كانون الثاني) 2023.
هل يمكن أن ينخفض عدد الروس بشكل مخيف بالوصول إلى نهاية القرن الحالي؟
بحسب توقعات الأمم المتحدة، فإنه إذا استمرت هذه الوتيرة على حالها، سينخفض عدد الروس إلى 112.2 مليون شخص بحلول عام 2100 ، وفي الوقت عينه، ترجح السلطات الروسية أن يستمر معدل المواليد في الانخفاض في الفترة ما بين عامي 2023 و2026.
هل سيتنبه الروس لتلك الإشكالية التي تمثل خطراً داهماً على تاريخهم الطويل؟
مؤكد أن الدولة الروسية تقدم الكثير جداً من المزايا لحث الأزواج على التناسل، غير أن هناك علاقة طردية بين الاستقرار في الداخل والرغبة في زيادة عدد المواليد، مما يعني أن نجاح بوتين في السنوات المقبلة في تهيئة أرضية سياسية واقتصادية، مالية ومجتمعية أكثر استقراراً، أمر سيدفع الروس في طريق الأمل والعمل من أجل مزيد من المواليد.
وفي كل الأحوال، فإنه لا يمكن بحال من الأحوال القطع بما تقوله أدوات إعلامية براغماتية غربية عن روسيا التي على حافة الهاوية، والأمر لا يعدو في كل الأحوال أن يكون ضرباً من ضروب التنبؤات الذاتية الساعية إلى تحقيق رغبات وشهوات سياسية إمبراطورية مكبوتة.