ملخص
في أسواق الجنوب اللبناني العتيقة، وبين أزقتها العنكبوتية المتشعبة التي قد يضيع فيها من لا يدرك مداخلها ومخارجها، تتناثر حرف شعبية تقليدية هنا أو هناك، يحاول أصحابها الإبقاء عليها، لعل الآتي من الأيام يحمل إليها بعض المجد الذي يحييها من جديد
من يستعرض الذاكرة المتعلقة بالحرف التقليدية التي كانت تنتشر في سوق صيدا القديمة ويقارنها بما تبقى منها إلى اليوم، سيجد أن عدداً كبيراً منها أقفل أبوابه مسدلاً الستار على مجد حرف الآباء والأجداد التي كانت تتشكل منها أدوات الناس وأثاث بيوتها ومقتنياتها وتجهيزاتها المختلفة.
ومردّ ذلك بإجماع التجار وأصحاب الحرف إلى سيادة البضائع المستوردة الجاهزة من بلاستيك واسفنج ومعادن ومواد مصنعة، فأزاحتها جانباً على رغم أنها ليست بمتانة إنتاج الحرف اليدوية التي لم تزَل أدواتها تعيش حتى اليوم منذ عشرات السنين.
قليلة هي المحترفات التقليدية التي ما زالت تفتح أبوابها في عاصمة الجنوب صيدا، تحديداً في أحيائها القديمة، المعروفة بـ"البلد القديمة" القريبة من القلعة البحرية الصليبية وخان الإفرنج، وتضم عدداً من المتاحف العريقة مثل متحف الصابون (عودة) ومتحف قصر دبانة والحمامات التركية والكنائس والمساجد الموغلة في التاريخ، ناهيك عن الأسواق المختلفة مثل أسواق الأقمشة و"البياضات" والألبسة والنجارين والحلويات القديمة و"الكندرجية" والمقاهي وغيرها، وتعتبر في الوقت عينه المربع السياحي الذي يرتاده السياح والزوار من العالم ومختلف المناطق اللبنانية.
هي حرف قليلة أو نادرة كانت تشكل سابقاً العمود الفقري للسوق الصناعية التقليدية في صيدا والجنوب، وتراجعت في الربع الأخير من القرن الماضي مع سطوة البضائع المستوردة والجاهزة وتطور مفرداتها الصناعية وسيادة الأدوات البلاستيكية والمعدنية الخفيفة الصينية واحتلالها الأسواق الشعبية والمتاجر، فأبهرت الناس الذين سرعان ما بدأوا يتخلون عن مقتنياتهم القديمة وجلها من الخشب والنحاس والحديد المصنّع المعروف بالحديد العربي واستبدالها بالبضائع السريعة الاستهلاك التي يمكن تبديلها في أي وقت، فيما تحولت البضائع الحرفية المحلية إلى مقتنيات تراثية تستخدم للزينة فقط.
صناعة الكراسي الخشبية
في مقابل سوق السمك، عند الواجهة البحرية وميناء صيدا الشمالي والقلعة البحرية يصمد محترف "كوسا" لصناعة الكراسي الخشبية المربعة والقليلة الارتفاع. تنتشر أمامه مجموعات من هذه الكراسي المصنعة حديثاً وألواح مستطيلة كبيرة من الواجهات المقصبة التي تستخدم في بناء الخيم البحرية أو النهرية. عند مدخل المحترف ينهمك سهيل كوسا "أبو عمر" في صناعة كرسي خشبي بخيطان الكتان الملونة التي أدخلت أخيراً في صناعة هذه الكراسي مع تراجع الطلب قليلاً على الكراسي المقشّشة بسبب غلاء أسعارها وبضاعتها المستوردة، إذ لم يعُد هذا القش ينتج محلياً كما كان سابقاً.
"كنا نشتريه أو نعده بأنفسنا، ومع ذلك نواصل صناعة أعداد منه، إنما بناء على الطلب أو بكميات محدودة، كي ننوع بكراسٍ خشبية أخرى ملبسة بخيوط الكتان أو النايلون المختلفة الألوان بغية تشجيع الزبائن أكثر وإرضاء أهوائهم، وبأسعار أقل"، يقول "أبو عمر".
يباع الكرسي الواحد المطعم بخيوط الكتان أو النايلون بـ 10 دولارات، بينما يبلغ سعر كرسي القش 15 دولاراً، ويشير كوسا إلى "إمكان طلاء الهيكل الخشبي للكرسي على الطلب، مما سيرفع من سعره إلى حدود 20 دولاراً".
وعن هذه الصنعة الموغلة في القدم، الباقية من التراث العثماني، يوضح كوسا أنها "حرفة لا تغني صاحبها اليوم لكنها تستر، ونحاول قدر الإمكان الإبقاء عليها وسط هجمة المستورد من البلاستيك الذي لا يعمر طويلاً وهو معرض بأي لحظة لأن ينكسر، بينما يعيش الكرسي الخشبي المتين والمصنوع من القش 100 سنة، ويمكن استبدال أي قطعة منه في حال تلفت. لكن مع الأسف، لقد أثرت الكراسي البلاستيكية كثيراً في استمرار نمو حرفتنا واندفاع الناس نحوها".
نتمنى تشجيع الدولة
قليلون جداً "الصيداويون" ممن يقتنون هذه الكراسي ذات النكهة التقليدية، لكن بقيت في بعض بيوتهم كراس خشبية مصنعة من قصب عريض كان يطلق عليه اسم "رابعات"، وهو رقيق عريض قدر إصبع، ينبت قرب المستنقعات أو بمحاذاة الساحل، كان يقطف ويصنع لكن شغله كان أصعب بسبب قصر سبلاته نحو متر واحد فقط ويحتاج إلى وصل مستمر وإلى روح طويلة.
أما زبائن كراسي اليوم بحسب كوسا "فهم من جنوب لبنان وشماله ومن بيروت والجبل، يشترونها للحدائق والشرفات باعتبارها من المقتنيات التراثية التي يمكن حملها ونقلها بخفة وسهولة في النزهات والمشاوير إلى البحر أو الجبل. أما خشبها فمحلي من أشجار السرو، ويمكن كذلك صناعتها من خشب الشوح أو السويد والزان، لكن من المؤكد أن سعرها سيرتفع".
صاحب المحترف الذي يضم في جنباته نحو 300 كرسي جاهز للبيع، يتمنى على الدولة ووزارتي الثقافة والسياحة والبلديات "إدراج هذه الحرفة وغيرها من الحرف التقليدية على الخريطة السياحية التراثية وتشجيعها ودعمها كي تبقى ولا تنقرض لأنها تشكل جزءاً من الهوية التراثية الخاصة بمدينة صيدا".
محترفات "البلد" في ركود
إلى مسافة غير بعيدة، وقريباً من "حارة اليهود" داخل صيدا القديمة "البلد" يستمر محترف خشبي آخر لصاحبه محمد الشامية، إذ لا ثالث لهما بعدما أقفلت بقية المحترفات المتخصصة في صناعة الكراسي الخشبية التراثية الصغيرة. "تأسس هذا المحترف على أيام جد جدي، أي منذ نحو 150 سنة" يقول الشامية، ويضيف أنه "عدا عن صناعة الكراسي المقششة، نصنع أدوات احترافية أخرى هي أشبه بمنحوتات تستخدم في المطبخ اللبناني على نحو المناخل والملاعق والمداق والشوابك التي ترق العجائن والأجران وقوالب أقراص المعمول والكعك، وكنا نضيف إليها القباقيب لكن أوقفنا تصنيعها بسبب تراجع الطلب عليها، مثلما تراجع الطلب على الكراسي بسبب سعرها وكلفتها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويؤكد أن "حرفتنا لا تزال مطلوبة من الناس وإن لم يكُن باندفاع كبير، وهذا بسبب انتشار البلاستيك بأشكاله وألوانه، لكن الناس عادت أخيراً لتدرك قيمة المعدات المصنوعة من الخشب الخالص وأهميتها وديمومتها عقوداً طويلة وعدم إضرارها بصحة الناس مثل البلاستيك الذي تدخل مواد كيماوية في صناعته". ويصف صنعته بأنها "تستر ولا تغني، نعتاش منها، بيد أن حركة البيع غير ثابتة، كان يأتي السياح ويشترون بعض التذكارات، لكن منذ سبعة أشهر وما يزيد، أي منذ اندلاع الحرب على الحدود الجنوبية وفي غزة، توقف مجيء السياح وتراجعت حركة البيع والشراء، وهذا ينعكس على حرف كثيرة".
لم يشجع الشامية أبناءه على احتراف صنعته، "أنا أكابد فيها منذ عقود طويلة، ولم تعُد تعطي مردوداً يكفي أكثر من عائلة، أما الدكان وما فيه، فسأتركه للزمن، ربما يتحمس أولادي أو غيري من بعدي ويبقونه على حرفته الخشبية، أو ربما يبيعونه، أنا لم أبدل صنعتي لأنني أحببتها، حتى لو تراجعت عما كانت عليه أيام مجدها".
تنجيد الأرائك المنزلية
ينهمك المعلم يوسف صيداوي في خياطة ثوب جديد لإحدى الكنبات، يعمل مع شريك آخر في تنجيد المقاعد والكنبات، أو في إصلاح القديم منها، ويقول "تراجعت هذه الحرفة في وقت من الأوقات، لكنها استعادت نشاطها مع الانهيار الاقتصادي فعاد الناس لإصلاح القديم وتجديده. عدنا وعانينا ثانية في المدة الأخيرة مع اندلاع الحرب، إذ تراجعت حرفتنا وانكمشت. لكن، منذ ثلاثة أسابيع أو أكثر، عادت الحياة إليها وعاد الناس لتنجيد الكنبات و’الصوفايات‘ ومقاعد غرف الجلوس".
يعمل صيداوي في حرفته منذ 33 عاماً، ويشرح أنها "مهنة تحتاج إلى خبرة وذكاء وإتقان، خصوصاً أن في التنجيد زوايا متعددة ومائلة أو حادة، فبعض المعلمين المنجدين يرسلون إلينا بعض أثواب التنجيد عندما يعجزون عن خياطتها ودرزها ومواءمتها مع الاسفنج أو غيره من الحشوات". أما عن مردود هذه الحرفة، فيقول صيداوي "يمكن للمعلم المنجد والدرّاز أن يستفيد أكثر إذا ما حول حرفته إلى مصنع فيه ماكينات خياطة متطورة وعززه بالمعدات اللازمة، عندها سيكون الإنتاج أكثر، مما سيوفر بحبوحة مالية. ومع ذلك نقول الحمدلله، نعيش عيشة كريمة ولن نطلب أكثر من ذلك، ومهنتنا لا تتوقف عند زمن معين، ما دام أن هناك مقاعد وكنبات وأرائك في كل بيت، ستحتاج في يوم من الأيام إلى تنجيد".
منجد عربي
يكاد المنجد العربي محمد خالد أن يكون الوحيد ممن يحترفون تنجيد اللحف والوسائد المحشوة بالصوف أو القطن، من مجموعة منجدين كانوا يشتغلون في تنجيد الفرش المنزلية والأغطية وينتشرون في أكثر من زقاق في الوسط "الصيداوي" القديم، أي في المنطقة الشعبية.
تعلم محمد خالد الحرفة من شقيقه الأكبر، وهو يعمل فيها منذ عام 1980 "منذ كنت يافعاً، لكنني حضرت إلى هذا الوسط في العقدين الأخيرين، يوم كان التنجيد العربي يشغّل أكثر من معلم، اليوم لم تعُد الحرفة مثل سابق عهدها، تراجعت كثيراً وخفّ الطلب على اللحف، أو الأفرشة أو المخدات المحشوة بالصوف أو القطن، وباتوا يستعيضون عنها بالمستورد والمصنع في الخارج أو في معامل كبيرة بتقنيات مختلفة". ويؤكد أن كثيراً من الناس ما زالوا يؤثرون غطاء اللحاف صيفاً وشتاء، إذ يوفر الدفء في الشتاء وبعض البرودة في الصيف، وهناك من لا يهتمون به حتى لو عرضته عليهم بدولار واحد، هذا يعود لأمزجة الناس ورغباتهم، لكن بتّ اليوم أعد اللحاف أو المخدة بناء على طلب مسبق".
صنعة إلى انقراض
يحتاج إعداد اللحاف الذي يتسع لحشوة من القطن أو الصوف تبلغ 3.5 كيلوغرام مع حبكاته وتطريزاته جهداً يتجاوز أربع أو خمس ساعات متواصلة كي يبيعه منجده ما بين 30 أو 35 دولاراً، ويكشف خالد عن أن "اللحاف، خصوصاً بقماشه المعرّق وتضمنه مجموعة من طرزات الخياطة وزخرفتها التي يجيدها المعلم العتيق، كان مطلوباً جداً قديماً، يوم كانت الحرفة بعزها ومجدها، وكان المنجد العربي يقصد البيوت، ويبقى فيها أياماً حتى يعيد تنجيد أفرشتها المتنوعة".
لم يعُد مردود الشغل في التنجيد العربي يؤمن رفاهية للمعلم المتخصص، يضيف خالد ويقول "لم يعُد أحد يرغب في تعليم ابنه هذه الصنعة، لذلك باتت على طريق الانقراض، فقد تمر سنوات قليلة ولن نعود نعثر على منجد، الخطر حول انقراضها بدأ منذ عقد أو عقدين بسبب تراجع مردودها والطلب عليها، وهي كذلك من الحرف التي أضرت بها البضائع المستوردة".
سوق الخياطين
في إحدى زوايا سوق القماش في الوسط القديم، ينتشر عدد من الخياطين، في دكاكين متواضعة جداً ربما لا تتجاوز مساحتها مترين اثنين. الخياط رفعت رمضان "بريمو" واحد منهم، إنما يشتغل فقط في تصليح الثياب وليس في خياطتها من جديد. ويقول "أشتغل في تقصير الألبسة أو تضييقها أو توسيعها، أو إذا كانت تحتاج إلى أزرار جديدة أو سحابات، فالطلب على الجديد يكاد يكون معدوماً، هذا بسبب غلاء الأقمشة وحاجاتها المطلوبة وأجرة المعلم".
تراجع عدد الخياطين في صيدا القديمة عما كان عليه سابقاً، لا سيما بعد رحيل المعلمين الكبار، ويكاد من تبقى منهم يعمل في التصليح ليس دونه "عدة الخياط في تصليح الثياب ليست كبيرة، تحتاج إلى ماكينة كهربائية ومقص وخيطان وأزرار وسحابات ليس أكثر، وهناك زبائن كثر يقصدونني، خصوصاً مع تراجع أوضاع الناس المالية، فمنهم من يشتري ثياباً أوروبية مستعملة ويحضرها إلي كي يوائمها على قياسه. مع ذلك فإن الشغل في تصليح الثياب لا بأس به، ويؤمن لصاحبه كفاف يومه ومردوداً يمكنه أن يعتاش منه".
مكابدة لأصحاب الحرف التقليدية
في أسواق صيدا العتيقة، وبين أزقتها العنكبوتية المتشعبة التي قد يضيع فيها من لا يدرك مداخلها ومخارجها من دون دليل، تتناثر حرف شعبية تقليدية هنا أو هناك، منها لصناعة الملبن وأخرى لصناعة الكبيس أو غيرها لصناعة الحلاوة والعصائر وأنواع من الشوكولاتة والملبس وغيرها، لكنها صناعات متخصصة في مأكولات ما زال الطلب على "البلدي" أو "المحلي" منها ملحاً ومرغوباً، لكن ثمة مكابدة لأصحاب الحرف التقليدية الصناعية وهم يحاولون الحفاظ على إرثها وإرث آبائهم وأجدادهم بإبقائها مفتوحة، على رغم ظروفها الصعبة وغياب التشجيع الرسمي والسياحي لها، فيقبلون بالقليل القليل كي يعتاشون بالحد الأدنى، لعل الآتي من الأيام يحمل إليها بعض العز أو المجد الذي يحييها من جديد ويجعلها تستمر أكثر فأكثر.