Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

من صناعة الرموز الهادئة إلى تفريخ المؤثرين

لعب المرئي والمسموع دوراً أساساً في تعميم بعضها

فقدت الساحة الإعلامية الفرنسية والعالمية واحداً من أكبر صناع الرموز الأدبية في أوروبا وهو الإعلامي الفرنسي برنار بيفو (أ ف ب)

ملخص

أمام هذا الامتلاء بالرموز القديمة والمعاصرة نتساءل: كيف تمت صناعة وزراعة هذه الرموز؟ ولماذا تعشش فينا على مر العصور؟

على نار التاريخ الهادئة السحرية تطبخ الرموز الكبيرة في الشعر والرواية والفن التشكيلي والسينما والمسرح والفلسفة والسياسة، إذ إن مخيالنا عبارة عن تقاطع طرق لحركة الرموز المتعاقبة عبر أزمنة متباعدة وثقافات متقاطعة وحضارات متنافسة ولغات مختلفة وديانات متصارعة، رموز لا يمكن بالمطلق تنظيف ولا تجفيف الذاكرة منها، لأنه من دونها يفقد الفرد والمجتمع توازنه، ويفقد بوصلة التحرك في صراع التاريخ التي تؤهله للخلاص من التيهان والضياع.

وأمام هذا الامتلاء بالرموز القديمة والمعاصرة نتساءل: كيف تمت صناعة وزراعة هذه الرموز؟ ولماذا تعشش فينا على مر العصور؟

إن الرموز هي الأسس والأعمدة التي عليها تقوم وتستند الأمم النامية جميعها، وتلك التي في طريق النمو، والأمة التي لا تملك رموزاً خاصة بها تبدو مثل سفينة سكرى ومن دون بوصلة في بحر هائج، وبقدر ما تكون الأمة مسنودة الظهر إلى رأسمال من الرموز تكون قادرة على التجدد والتطور من دون خوف ولا تردد، وقادرة أيضاً على مقاسمة الحياة مع الآخر المختلف عنها.

ولا ريب، فالرمز معرض لتحولات سوسيو- سياسية وتأويلات مختلفة تارة وثانية متقاربة وتارة أخرى متعارضة، إذ إن الرمز قادر على تبديل روحه التي تملؤه تبعاً للقراءة التي يحظى بها، وأيضاً بحسب الحاجة إليه في فترة معينة من فترات التاريخ، فكلما شعرت أمة من الأمم بالتهديد أو وجدت نفسها تعبر محنة من المحن، تقوم بشكل عفوي باستحضار رمز من رموزها لمواجهة هذا الخصم وتصحيح الوضع وإعادته لطبيعته.

إن الرموز صناعة تنجزها بشكل معقد مجموعة من العوامل التاريخية، فهي تولد كجواب عن أزمة هوية أو أزمة اجتماعية أو سياسية أو دينية، ومن هنا تظهر أهمية الدور الذي تلعبه الرموز في الحفاظ على استقرار مجتمع قد تعرض أو معرض للحروب والأوبئة والكوارث الطبيعية.

في البدء كانت الثقافة الشفوية

لقد كان لسلطة الثقافة الشفوية التي عرفتها جميع الشعوب التي تعاقبت على هذه الكرة الأرضية دور كبير في صناعة حزمة من الرموز العريقة التي شكلت أرضية صلبة لبناء المجموعات البشرية والأمم والدول والحضارات، والعجب أن هذه الرموز التي تنتمي إلى حضارة سيادة الشفوي لا تزال تعيش فينا وبيننا، حتى ونحن نغرق في عصر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والرقميات والبرمجيات المعقدة، وأكثر من ذلك لا تزال تلعب دوراً في وجود الدولة المعاصرة والحفاظ عليها من التفكك والتبدد.

إن قوة هذه الرموز التي صنعتها الثقافة الشفوية طوال عمرها ناتجة من أنها تتمتع بكثير من المرونة والقدرة على التوطن والتماس مع المقدس، وقوتها أيضاً قادمة من كون تأسيس الأمم يقوم عليها، فجميع الأمم المعاصرة قائمة على رموز أسطورية أو تاريخية أو أدبية أنتجتها الثقافة الشفوية.

والنخب المعاصرة هم أطفال هذه الرموز المنتمية إلى العصر الشفوي، أي الثقافة اللامادية مثل الأسطورة والحكاية والشعر والأمثال والخرافات والحكمة، وعلى هذه الرموز الشفوية تأسست رموز الدولة الوطنية المعاصرة بتأويلاتها التاريخية والقومية والوطنية والفلسفية والعرقية واللغوية والدينية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

رموز المكتوب وسلطة الأبجدية

إن ثقافة المكتوب، من الرسم والأثر والوشم، استطاعت أن تصنع وتزرع رصيداً معتبراً من الرموز الجديدة من دون أن تمحو أو تحارب تلك المنتمية إلى العصور الشفوية، بل في كثير من المرات يحدث هذا في تماه وتواطئ بينهما، والوسيلة التي بها يصنع الرمز، أي الحروف الأبجدية، هي نفسها انتمت في مرحلة معينة إلى المقدس، ولا يزال بعضنا يتذكر جدته وهي ترفع من على الأرض قطعة من الورق مكتوبة بالعربية، بغض النظر عن محتواها وما هو مكتوب عليها، فتقبل الورقة ثلاث مرات وتدخلها في شق من شقوق الجدار الخارجي للبيت حتى لا تدوسها أقدام المارة، فهذا الانتماء إلى المقدس الشعبي هو الذي ساعد المكتوب في صناعة الرموز الجديدة المرتبطة بالأبجدية.

إن المكتوب بما يحمله من مقدس الحرف وغموضه منح رموز الثقافة الشفوية قوة كبيرة ومتجددة من خلال توطينها في الأبجدية والأثر والبقاء المجسد بالكتابة، وكل ذلك حدث في ظل البحث عن طرق لتكريس وجود مؤسسات الدولة المعاصرة السياسية والدينية والثقافية والعسكرية.

إن الرموز المتولدة عن المكتوب وفيه أقل مرونة مقارنة بتلك المنتمية إلى سلطة الثقافة الشفوية، فرموز المكتوب رموز مراقبة يمكن التحقق منها ومساءلتها من موقع المنطق وعلم التاريخ والجغرافيا وعلم الأعراق.

إن رموزاً من أمثال أبوليوس وسانت أوغسطين وصافو وشكسبير وموليير والمتنبي وبروست وهمنغواي وفيليب روث والمعري والجاحظ وابن رشد وكاتب ياسين وسبينوزا وابن عربي  والحلاج وابن زيدون وهيغل وابن ميمون والأمير عبدالقادر ونجيب محفوظ وأغاثا كريستي ومحمد ديب ومفدي زكريا  وفولتير ونزار قباني والجواهري والسياب ومارغريت دوراس، جميعهم وغيرهم، ترتبط رمزيتهم بالنص والمكتوب شعراً أو رواية أو تفكيراً فلسفياً ودينياً.

الرموز ودهشة المرئي والمسموع

لعب المرئي والمسموع دوراً أساساً في صناعة وتوزيع وتعميم بعض الرموز، فالتلفزيون والإذاعة المسموعة أديا دوراً مركزياً في الترويج للرموز الأدبية والفنية والدينية والتاريخية والسياسية، ولقد عرفت بعض قنوات التلفزيون مجموعة من البرامج التي كانت عبارة عن مصانع حقيقية للرموز من خلال توجيه الرأي العام في القراءة في هذا الاتجاه أو ذاك، ونحو هذا الاسم أو ذاك، وفي السادس من مايو (أيار) الجاري فقدت الساحة الإعلامية الفرنسية والعالمية واحداً من أكبر صناع الرموز الأدبية في أوروبا، أعني به الإعلامي الفرنسي برنار بيفو (1935 - 2024)، وقد لعب هذا الإعلامي - المؤسسة دوراً في صناعة بعض رموز الأدب المغاربي الذين نزلوا ضيوفاً على برنامجه الشهير "أبوستروف"، من أمثال كاتب ياسين ومحمد شكري، وتحول هذا البرنامج الأدبي التلفزيوني إلى مصنع حقيقي للرموز الأدبية، فمن ينزل ضيفاً على البرنامج ترتفع مبيعات كتبه في اليوم التالي بشكل كبير.

واليوم وبعد مرحلة صناعة الرموز من طريق وسائل الإعلام التقليدية، مثل التلفزيون والإذاعة والجريدة الورقية، ها هو العالم يدخل مرحلة ثقافية واتصالية جديدة ومختلفة بالكلية، فوسائل التواصل الاجتماعي بكل مشتقاتها أصبحت مفرخة كهربائية لرموز وهمية، وأضحت هذه الحاضنات تفرخ من دون توقف فقاعات وهمية تنفجر وتختفي بعد أيام أو أشهر قليلة لتعوض بأخرى.

وإذا كانت الرموز منتوج ثقافة الشفوي والمكتوب والإعلام التقليدي قد عمرت طويلاً ولا تزال تعيش في مخيالنا وتصنع كثيراً من قيمنا، فإن الفقاعات الوهمية من رموز الـ "بلوغرز" والمؤثرين وصناع المحتوى والـ "تيكتوكرز" الناتجة من عملية قلي ثقافي وإعلامي من قبل وسائل التواصل الاجتماعي، هي ظواهر ذات نفس قصير ومعرضة للتبديل والمحو السريع، ومع كل هذا لا يمكننا الهرب من زمننا الرقمي، كما لا يمكننا التخلي عن كل هذه الثروات التكنولوجية التي أنتجها العقل البشري، فالكتاب الرقمي يتقدم ويتموقع في قراءاتنا وسلوكنا الثقافي اليومي، والذكاء الاصطناعي يزحف شيئاً فشيئاً لمنافسة الذكاء البشري ويغير في تقاليد الممارسات الإبداعية، وأمام هذا الواقع يجب علينا أن نحتفل بكل هذه الاكتشافات، مع العمل في الوقت نفسه على توطينها في حياتنا اليومية والثقافية برؤية فلسفية وأنطولوجية وأخلاقية جديدة، حتى نخلصها من جانبها المتوحش.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء