Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مسرحية وسيناريو غير منشورين يستعيدان إشكالية جان جينيه

من جريمة ترتكبها "الآنسة" إلى أسطورة أغريقية محرفة يتجلى أسلوب كاتب فرنسي رائد

الكاتب الفرنسي جان جينه (دار غاليمار)

ملخص

صدرحديثاً في باريس عن منشورات غاليمار العريقة نصان غير منشورين للشاعر والروائي والكاتب المسرحي الكبير الفرنسي جان جينيه (1910-1986). النص الأول عبارة عن دراما من أربعة فصول تحمل عنوان "هيليوغابال"، لم يسبق عرضها على خشبة المسرح، وساد الاعتقاد لفترة أنها مفقودة. أما النص الثاني، فهو سيناريو فيلم بعنوان "مدموازيل"، أعده للسينما عام 1966 المخرج البريطاني توني ريتشاردسون، وشاركت في بطولته الممثلة الفرنسية القديرة جان مورو التي سحرت كبار المخرجين بأدائها.

لعل اكتشاف نصين غير منشورين للشاعر والروائي والمسرحي الكبير جان جينه يعد حدثاً فريداً في فرنسا، خصوصاً أن بين النصين سيناريو فيلم وحواراته على شكل قصة طويلة، وضعه جينيه عام 1951 تحت عنوان "الأحلام المحظورة، أو الجانب الآخر للحلم"، وعرضه بلا جدوى على عدد كبير من المخرجين. غير أنه سرعان ما فقد الاهتمام به، على رغم تصوير المخرج ريتشاردسون له وعرضه عام 1966 في مهرجان "كان" السينمائي.

 يروي الفيلم قصة معلمة في مدرسة قرية من قرى إقليم كوريز الواقعة في مقاطعة الليموزان الفرنسية، كانت تشغل في الوقت عينه منصب أمينة سر البلدية. كانت "الآنسة" التي لا نعرف اسمها الحقيقي تحظى باحترام بالغ في القرية. لكنها في السر وبغية الانتقام من وحدتها كانت تخرج ليلاً للتجول في أحياء القرية المظلمة وأزقتها المخيفة، التي كانت تعكر صفوها بأفعالها الشريرة، كأن تقوم بإشعال الحرائق في المنازل وتسميم مياه شرب البهائم ومزاودها وفتح سكر المياه الذي يغذي القرية حتى تغرق بالماء، وغيرها من الأفعال المشينة، التي كان القرويون بفعل عنصريتهم وكرههم للغرباء يتهمون الحطاب الإيطالي مانو بافتعالها. ومع تطور الأحداث تتطور العلاقة بين المعلمة ومانو وتتوالى اللقاءات بينهما في الغابة، حتى تصل إلى علاقة جسدية حميمة، تنقلب المعلمة بعدها على عشيقها لتتهمه بشكل زائف أنه وراء كل هذه الأفعال. فيأتي القرويون ليقتلوه بأدواتهم الزراعية، ويصبح مانو و"مدموازيل" شريكين في تحالف مميت يحتل فيه المهمشون المكانة الأولى.

في أسلوب واقعي وبسيط، يغوص صاحب "الخادمتان" و"يوميات لص" و"أسير عاشق" في هذا السيناريو السينمائي في قلب العالم الريفي الذي عاش فيه طفولته، وسط عائلة حاضنة اعتنت به في إقليم مورفان. ولعله في هذه السردية القصيرة، يضعنا تبعاً لإيقاع الإثارة، في جلد بطلة غير أخلاقية، لا يمكن توقع أفعالها. ففي هذا السيناريو يتناول الكاتب مواضيع الرغبة والشر والعنصرية والمكائد والخوف من الغرباء والغيرة والحسد والكراهية والعنف في مظاهره المختلفة وفكرة "كبش الفداء" المبتكرة لإيقاف العنف المدمر.

الأسطورة الإغريقية

 أما النص المسرحي الذي وضعه جينيه في السجن عام 1942 بعد اعتقاله بتهمة سرقة كتب، فيروي لنا الأيام الأخيرة للإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس أنطونينوس (203-222) المعروف بـ"أيل جبل"، الكاهن الأعظم لإله الشمس الحمصي، الذي رفع وهو في الـ14 من عمره إلى العرش الإمبراطوري في إطار المؤامرات التي تلت وفاة الإمبراطور كركلا بوصاية جدته جوليا ميزا، الذي اغتيل في الـ19 من عمره عام 222.

 أثار سلوك هذا الإمبراطور واسمه عند الولادة فاريوس أفيتوس باسينوس فضيحة في المجتمع الروماني، إذ أظهر أموراً اعتبرت بمثابة إهانة للتقاليد الدينية والجنسية الرومانية. فقد تزوج خمس مرات، واستبدل عبادة الإله جوبيتر بإله الشمس، وأجبر عديداً من القادة الرومان على عبادته، ورغب في أن يعتبر أنثى، واشتهر بولائمه الداعرة التي تمتع فيها الحاضرون بأكل لحوم الدجاج وألسنة طيور الطاووس ورؤوس الببغاوات الاستوائية، التي تحولت إلى سهرات ماجنة سادت فيها الممارسات الجنسية على أنواعها، على رغم تفضيل الإمبراطور لفراش الرجال وارتدائه زي النساء في محاولة منه للجمع في شخصه بين صفات الأنوثة والرجولة.

 كتب جان جينيه نص هذه المسرحية في وقت وضع فيه روايته الأولى "نوتردام دي فلور" أو "سيدة الزهور" التي عالج فيها عالم المومسات واللصوص والمجرمين المهمشين وقصيدته "المحكوم بالموت"، وكان آنذاك في الـ31 من عمره. وتعتبر هذه الفترة من أكثر الفترات إنتاجية في حياته الأدبية.

عند خروجه من السجن، قام جينيه بقراءة هذه المسرحية أمام بعض أصدقائه وعرض على الممثل الفرنسي الشهير جان ماريه لعب الدور الرئيس فيها. لكن ماريه "لم يظهر حماسة كبيرة" لها، على ما تقول مقدمة الكتاب التي وقعها أستاذ الأدب الفرنسي في جامعة كوينز الكندية فرانسوا روجيه. واطلع على المسرحية أيضاً، وفقاً للمقدمة، جان كوكتو عراب جينيه الأدبي، وغيره من المهتمين بالكتابة المسرحية. ويبدو أن جينيه لم ينجح أبداً في إيجاد ناشر مهتم بنص مسرحيته وموضوعها الذي سبق أن تناوله الشاعر والمسرحي الفرنسي أنطونان آرتو في دراسة لافتة عام 1934، فأودع مخطوطتها لدى أمين سر كوكتو، الذي باعها بدوره لتاجر كتب متخصص بالنصوص التي وضعت أو صدرت في الخمسينيات من القرن الـ20.

 يكتشف القارئ أن هذه المخطوطة بيعت عام 1983 لمكتبة هوتون في جامعة هارفارد، أي قبل ثلاث سنوات من وفاة جينيه، إذ وجدها فرانسوا روجيه. ويقول جوناثان ليتل الحائز على جائزة غونكور عام 2006 في مقالة تناولت نص هذه المسرحية إن شخصية الإمبراطور "هيليوغابال" لطالما أبهرت جينيه "المحاصر آنذاك بين طموحه الأدبي الهائل وواقعه المؤلم"، هو الفقير المولود من أب مجهول الذي تخلت عنه أمه بعد سبعة أشهر على ولادته، فانتقل في طفولته ومراهقته من أسرة حاضنة إلى أخرى، وفي شبابه من سجن إلى آخر، مازجاً في كتاباته بين حياته الخاصة ورؤاه الشخصية للعالم والآخرين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في هذه المسرحية يتناول جينيه إذاً القضايا التي تهمه كالتنكر والتخفي والمثلية الجنسية، والجمال والبغض بأسلوب مميز وغني، مواجهاً مسائل إنسانية، على رأسها مسألة الشر والألم والشبق والتمرد على المجتمع من خلال شخصية الإمبراطور الروماني الذي جمع التناقضات في تصرفاته وانفعالاته ومشاعره داخل عوالم "جحيمية" أبدع خيال الكاتب في وصفها.

 ولئن كان جينيه كاتب "الهوامش المعتمة والمسارب الدفينة للحياة" على ما وصفه جان بول سارتر في كتاب بعنوان "القديس جينيه، ممثلاً وشهيداً"، فإن نصوصه تنسج قصة أفكاره، "فتحكي حياته وبؤسه ومجده وعلاقاته العشقية". ذلك أن جينيه، ودوماً بحسب سارتر، "ليس شخصاً أليفاً حتى مع نفسه. وبما أنه يقول الحقيقة كلها ولا شيء غير الحقيقة، إلا أن سيرته الذاتية ليست سيرة شخصية، بقدر ما هي كوسموغونيا مقدسة تروي لنا حكاية نشوء الكون".

ويعتبر هذا الإصدار المتزامن لهذين النصين غير المنشورين لجان جينيه حدثاً أدبياً بارزاً تناولته الصحف الفرنسية والعالمية بكثير من الاهتمام. فهما يفتحان بحسب عدد كبير من المقالات التي وقعها كبار الصحافيين الثقافيين أمام المهتمين بأدبه أبواباً موصدة. لعلهما يكشفان عن جانب آخر من شخصيته الواقعية والخيالية في آن واحد، التي تتشابك فيها المأساة العائلية والتقلبات النفسية والمجتمعية في رؤية خاصة إلى العالم، ولدت من ماضيه وتجربته بوصفه لقيطاً مجهول الأب ومثلياً جنسياً وجندياً متطوعاً في الجيش الفرنسي في سوريا ولبنان والمغرب، وسارقاً وسجيناً سابقاً في سجون فرنسا ومدافعاً عن القضايا الإنسانية الكبرى، بما فيها القضية الفلسطينية.

في هذين الكتابين نتعمق في أسلوب الكاتب المشاكس والمغاير في طريقة كتابته عن طرائق غيره من الكتاب، ليس فقط من زاوية اختياره لمواضيعه، بل أيضاً من زواية معالجته لهذه المواضيع التي تثير في الوقت عينه الرفض أو الافتتان التي تأخذ القارئ على دروب جديدة من التفكر في أحوال الوجود الإنساني وألغازه العديدة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة