ملخص
يدخل المخرج نبيل عيوش في فيلمه "الجميع يحب تودا" عالم "الشيخات" المعروفات بأدائهن أغاني "العيطة" الشهيرة التي كانت وقفاً على الرجال في الماضي. ويروي سينمائياً قصة إحداهن وتدعى تودا، وما تواجه من ظروف صعبة.
نساء عربيات عديدات أطللن في أفلام عربية شاهدناها في أول أيام عروض مهرجان "كان" السينمائي من الـ14 حتى الـ25 من مايو (أيار) الجاري. لكل واحدة منهن معاناة، بحكم البيئة التي يعشن فيها والتحديات المرتبطة بهذا العيش، وإن تقاطعت كلها عند مسألة الحرية الشخصية المعطاة لهن داخل مجتمعات تقليدية محافظة.
في دورة تزخر بالشخصيات النسائية القوية التي تقول شيئاً عن أجندة المبرمجين السياسية، ثمة خطوة واضحة عند السينمائيين العرب لتسليط مزيد من الضوء على شريحة يتشكل منها "نصف المجتمع". وعلى رغم أن عديداً من هؤلاء السينمائيين انتهازيون، تأتي دوافعهم للتماهي مع رغبات أصحاب القرار في صناديق الدعم الغربية، فهناك من ينطلق من ضرورة ملحة في نقد المجتمع ومساءلته وصولاً إلى كشف عيوبه، وهذه حال "الجميع يحب تودا" (المعروض في قسم "كان بروميير")، وفيه يواصل المخرج المغربي نبيل عيوش إثارة الجدل وفض الغبار عن الأفكار القديمة، بعيداً من الابتذال والسهولة. تلعب الممثلة الموهوبة نسرين الراضي دور أم شابة تلقي أغاني "العيطة" (نوع موسيقي مغربي عريق) التي يتوارثها أبناء تلك البلاد وبناتها، جيلاً بعد جيل. هذ النوع الغنائي الذي ارتبط بالمقاومة والاحتجاج، عبارة عن شعر مغنى كان الرجال في الماضي هم الذين يؤدونه، إذ كان ممنوعاً على النساء، قبل أن ينتقل في القرون التالية اليهن ليصبح من اختصاصهن. أفراد قبيلة مغربية كانوا يجتمعون مساءً لغناء هذه القصائد المستوحاة من معاناتهم ونضالهم وتحدياتهم اليومية. هكذا ولدت "العيطة". في القرن الـ19، سيدة تدعى الشيخة خربوشة، تحدت الحظر فأصبحت أول امرأة تغنيها أمام جمهور، واليوم هي أحد الرموز ضد الظلم والاستبداد. وبفضلها أصبح هذا الفن نسائياً وتبلور في اتجاه جديد وبدأ يطرح مواضيع كالجنس والجسد والحب.
مؤديات هذه الأغاني يعرفن بـ"الشيخات"، وتودا تحلم أن تكون واحدة منهن، لعلها تتجاوز من خلالها قسوة العيش (الفيلم يفتتح بمشهد اغتصابها)، وهي ستفعل كثيراً من أجل ذلك، فتسلم نفسها لشغفها. لكن طموحها ورغبتها في الانتقال من بلدتها والهرب من واقعها، يحملانها إلى الدار البيضاء التي توفر لها فرصاً أكبر، لكن عالم الليل قاسٍ، وهو مرتبط في مخيلة العامة بالدعارة والأعمال المشبوهة، لا بل إن كثراً يعدون صفة "الشيخة" وصمة عار، وهذا ما ستواجهه تودا بكل تفاصيله. لا توجد أكثر من خطوة واحدة بين الحلم ومقلبه الآخر في مجتمعات تدين وتحاكم، بصرف النظر عن رغبات الإنسان، مما يحرص عيوش على تفكيكه وتحويله موضوعاً للنقاش، في محاولة لرد الاعتبار إلى هؤلاء الناس دفاعاً عن تراث غنائي يأتي من عمق المغرب. الفن مدخل عيوش للحديث عن ظروف اجتماعية، كما كانت الحال في فيلمه السابق "علي صوتك" عن موسيقى الراب التي تسهم في تحرير شلة من الشباب، من ثقل التقاليد والتطرف الديني.
تجربة مخرج
عيوش، أحد السينمائيين العرب الأكثر حضوراً على "الكروازيت"، له فيلم سابق عنوانه "كل ما تريده لولا" عن فتاة أميركية تتوجه إلى القاهرة لتعلم الرقص الشرقي على يد راقصة شهيرة تدعى أسمهان، وهناك تتعرض لعديد من المهانات. الفيلم الجديد ينطلق من فكرة مشابهة، مع قدر أقل من الإكزوتيكية، ذلك انه يعرف جيداً الواقع الذي يصوره، بعيداً من مسألة احتكاك الثقافات بعضها ببعض. "الجميع يحب تودا" عن جانب من واقع المرأة المغربية التي صورها عيوش في عدة أفلام، أشهرها "الزين اللي فيك" عن أوساط الدعارة وزبائنها في مراكش، وهو فيلم أثار زوبعة من الانتقادات في المغرب لجرأته.
قد يكون هذا الفيلم ألطف من أفلامه السابقة، لكنه مع ذلك يحمل مخرجه إلى حيث لا يغامر فيه كثير من زملائه العرب. فيلماً بعد فيلم، تتشكل لوحة اجتماعية معينة في أفلامه. أما إلى أي درجة أن هذه اللوحة دقيقة في عكس ألوان الواقع، والتعبير عن المغرب من دون أن تختزل تناقضاته الكثيرة، فهذه مسألة أخرى، وحده الوقت له القدرة على قول كلمة فصل فيها. لعل عملية كهذه تحتاج إلى مزيد من الاطلاع على الواقع. جمالياً، يحمل إيقاع الفيلم شيئاً من توتر الموضوع. فهناك تماه و"تواطؤ" شديدان بين الصورة والمضمون. يجيد عيوش كيف يصور شخصيات تحاول باستمرار النهوض من معاناتها، متعقباً شخصية تودا التي تحملها الممثلة نسرين الراضي على كتفيها. مسيرتها لقاء متواصل بين الأمل والخيبة، وهو الشعور الفظيع الذي يرتسم على وجه هذه البطلة المكسورة في ختام الفيلم، مختصراً كثيراً من الكلام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقول عيوش، "كثيراً ما كانت الشيخات جزءاً من أفلامي. استهوتني وأثرت فيّ، فوددت ان أراهن في قلب إحدى حكاياتي. أعجبت دائماً بالنساء القويات، ربما لأنني نشأت في كنف والدتي التي كانت كذلك. كثيراً ما سحرتني النساء. لم يتطلب مني كثيراً من الوقت لأدرك أنني أريد أن أمنحهن صوتاً. قابلت كثيراً من النساء، بخاصة من أجل هذا الفيلم. أخبرنني عن كل المفارقات. عرفت أنني أريد أن أمنحهن صوتاً بطريقة ما للاستيلاء على السلطة. الرجال يجنون أمامهن، وهذا لا يمنع من أن يتم تعاملهن بفوقية على يد الرجال نفسهم. المجتمع الأبوي الذي يريد أن يملي مبادئه، يسحق النساء ويحبسهن في عالم يحولهن إلى سلعة. ما كان يهمني هو كيفية مقاومة هذا العالم الذي يريد تدجينهن. "العيطة" هي قبل أي شيء أنشودة مقاومة. أما الرجال فهناك من كل الأنواع في الفيلم. ليس كل شيء أسود أو أبيض في عالم الليل. هناك رجال يحمون هؤلاء النساء ويحبونهن. في حياة تودا، ابنها ياسين الذي يعني لها كل شيء. هناك أيضاً عازف كمان عجوز يحاول أن يرافقها في حلمها في الصعود. وأخيراً، هناك الأب، وهو شخصية غير اعتيادية يدعمها في مواجهة الاستهجان العام".