ملخص
التعذيب بصورته الحقيقية (التعذيب السلبي) لا يعد موضوعاً درامياً محبباً للجمهور والعاملين في مختلف الفنون مما يعني أن الفنون سكتت عن تناول موضوع التعذيب كما هو في الواقع تجنباً لكساد الأعمال
تهتم الدراما أولاً بجذب الجماهير ولذلك تناولت موضوع التعذيب بصورة مبسطة وسطحية من خلال قصص الحب، لكن التعذيب في الواقع المعيش ظاهرة تاريخية معقدة ومتطورة باستمرار بصورة بشعة للغاية. وعلى رغم ذلك ظلت الدراما والسينما حديثاً معنية بعكس درجات غير عميقة من التعذيب، من خلال تكرار فكرة التعذيب الإيجابي الناتج من العشق والحب، والذي تصاحبه عادة بعض الأعراض الجانبية له مثل الأرق والقلق.
ويؤكد عاملون في قطاع الإنتاج وكتابة السيناريو أن التعذيب بصورته الحقيقية (السلبية) لا يعد موضوعاً درامياً محبباً للجمهور والعاملين في مختلف الفنون، مما يعني أن الفنون سكتت عن تناول موضوع التعذيب كما هو في الواقع تجنباً لكساد الأعمال، لكن ومع هذه الرؤية، ظهرت أفلام سينمائية عالمية مميزة تناولت فكرة "التعذيب السلبي" بعمق ونالت استحسان الجماهير، ومن أشهرها فيلم "آلام المسيح" للمخرج والمنتج والممثل الأميركي ميل جيبسون.
ألم غير محتمل
يعني تعذيب الإنسان تعريضه لنوع من الألم غير المحتمل بصورة متعمدة، لذلك يحتاج هذا السلوك المنافي للأخلاق الإنسانية والمواثيق الدولية إلى توفر مبررات عديدة. مع ذلك مورس التعذيب على الإنسان منذ القدم بحجة طرد الأرواح الشريرة من جسد المتهم.
وشهدت العصور الوسطى في أوروبا موجة مفزعة من التعذيب ضد النساء تحديداً، والذي مورس تحت عنوان إحراق الساحرات. وفي سنة 1590 أعدمت 1500 ساحرة في (الدجن) فيما شهدت مدينة فورتسبورغ الألمانية إعدام 900 ساحرة حرقاً. ثم في ترير، تلك المدينة الواقعة جنوب غربي ألمانيا، أعدم رئيس أساقفة 120 ساحرة بحجة التسبب في زيادة برودة الجو. وتقول الموسوعة الأوروبية، إن 100 ألف بريء أعدموا بصورة بشعة بتهمة السحر والشعوذة في القرن الـ17 في دولة أوروبية واحدة.
والتعذيب هو أي عمل ينزل آلاماً جسدية أو نفسية بإنسان بصورة متعمدة، لكنه يختلف عن سوء المعاملة أو المعاملة القاسية أو التعسف، ولا يعد مجرد تجاوزات فردية، إذ حاولت كثير من الدول وحتى مطلع الألفية الثانية خلط هذه المفاهيم ضمن مفهوم التعذيب وذلك للتهرب من المسؤولية القانونية وتجنب المساءلة والمحاسبة على هذا العمل.
وقد ظل التعذيب متداولاً حتى بعد توقيع 141 دولة على معاهدات جنيف الثالثة والرابعة في سنة 1949 وإعلان مبادئ حقوق الإنسان سنة 1948، فيما أكدت منظمة العفو الدولية في تقارير عديدة أن معظم الدول الموقعة على المعاهدات الخاصة بمنع التعذيب لا تلتزم بتطبيق البنود الواردة في تلك المعاهدات.
التعذيب قديماً
يختلف التعذيب قديماً عنه حديثاً شكلياً لا جوهرياً، فبعد انتهاء زمن السحر والخرافة اختلفت طبيعة التعذيب مع اختلاف التهمة الموجهة للإنسان. وفي زمن ما قبل العلم والمعرفة كانت أشهر التهم التي يستحق الإنسان عليها التعذيب هي تهمة الهرطقة.
وانتشر التعذيب بتهمة الهرطقة في الفترة اليونانية المبكرة وبلغت هذه الموجة من التعذيب ذروتها زمن محاكم التفتيش في إسبانيا، وتعد هذه التهمة مشابهة لتهمة تلبس الأرواح الشريرة لجسم الإنسان مما يستدعي إخراجها بالقوة وهي تهمة اشتهرت بها الحضارات الروحية مثل الأفريقية والهندية.
وفي صدر الإسلام تلقى عدد من العبيد والمستضعفين أمثال الصحابيين عمار بن ياسر وبلال بن رباح نصيباً وافراً من التعذيب بتهمة مشابهة وهي اعتناق دين جديد.
في الدراما
التعذيب مقارنة بحجم ممارسة الإنسان له على مر التاريخ، هو موضوع مسكوت عنه في الدراما العربية والعالمية. فالمخيلة العربية ربطته بصورة مباشرة بالسلطة، فيما تناولته المخيلة الأوروبية من منظور مرتبط بقضايا الأسرة في أعمال عدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتعد سلسلة أفلام "سو 2004" التي تناولت شخصية خيالية هي شخصية (جيغسو) في عدة أجزاء من أشهر أعمال السينما العالمية في هذا الشأن، إذ أدى الممثل الأميركي "توبين بيل" الحائز أربع جوائز أوسكار شخصية المعذب الذي يجهز على عشرات الأشخاص بكل وحشية، فيما أرجع النقاد أسباب الفكر التعذيبي لدى بطل العمل (باركر) إلى تعرضه لاعتداء جنسي وهو صغير.
في المقابل تناولت السينما العربية الفكرة من خلال أعمال شهيرة مثل الفيلمين المصريين (البريء – سنة 1986) للمخرج عاطف الطيب و(الكرنك – سنة 1975) وهو من بطولة نور الشريف. وظل ذلك التناول محصوراً ضمن منظور تعذيب السجون والمعتقلات، أي من منظور كبت الحريات وقمع المقاومة الاجتماعية والسياسية للنظام الفاسد.
موافقة المجتمع
يحتاج الشخص الذي يمارس التعذيب على غيره من الناس إلى موافقة المجتمع، بمعنى أن الإنسان العادي يمارس التعذيب من خلال موافقة نظام أيديولوجي، وليس بالضرورة أن يكون الشخص الذي يمارس التعذيب شخصية عدائية أو عنيفة.
ويعد اختبار (ملغرام) لعالم النفس الأميركي ستالين ملغرام (1933- 1984) دليلاً على أن كثيراً من الأشخاص العاديين ينفذون بصورة أعمى هذه الممارسة تحت ذريعة تنفيذ أوامر إدارية.
مقياس مليغرام
وبحثت نظرية مليغرام في سلوك أشخاص عاديين أسهموا في تنفيذ محرقة الهولوكوست، إذ سارت كثير من الأعمال السينمائية العربية والعالمية فالشخص غير المتعلم (أحمد سبع الليل) الذي يؤدي دوره الفنان الراحل أحمد زكي في فيلم "البريء" ما هو إلا شاب قروي فقير، لكنه يتعاطف مع إنسان مثقف، وعلى خلاف ما يتوقع رؤساؤه من الجلادين يرفض "أحمد" تعذيب إنسان آخر تضطهده السلطة، مما يؤكد أن الإنسان العادي قادر على اتخاذ قرار رفض تعذيب الآخرين إذا كان يتحلى بالأخلاق الحميدة.
التعذيب النفسي
في سنة 2009، أعلن مركز ضحايا التعذيب أن التعذيب النفسي يكون أحياناً أخطر من الجسدي لأن آثاره تظل مع الشخص لفترة طويلة، إذ يسبب التعذيب النفسي بصمات مزمنة طوال الحياة.
وفي هذا السياق، نشرت وكالة الاستخبارات الأميركية في تقارير صادرة عن مواردها البشرية معلومات تؤكد ذلك في عام 2006، إذ عدت الوكالة التعذيب النفسي عملاً يقود إلى الانهيار ويعيد الإنسان إلى البدائية ويسبب عدم القدرة على الإبداع والشعور بالعار وفقدان الكبرياء وعزة النفس ويقود إلى الاستسلام وانعدام الأمل بالمستقبل.
حب خادع
في النص السينمائي تعد كل قصة حب تشهد معاملة سيئة من البطل لحبيبته بمثابة تناول مبسط لقضية التعذيب، لكن هذا النوع من التعذيب يدخل في سياق التعذيب الإيجابي غالباً.
وعلى هذا المنوال قدمت الدراما العربية أخيراً عشرات، بل مئات المسلسلات الطويلة، لكن تطبيق هذه الفكرة حديثاً تزايد سلباً، فالتعذيب بواسطة الحب كما تقدمه هذه الأعمال هو نوع من التبسيط للفكرة والهدف منه جذب الجماهير لا أكثر.
ولذلك يرى كل من كاتبة السيناريو إيناس لطفي والمنتج عادل عمار من خلال وثائقي عرض على قنوات فضائية سنة 2017، أن الأعمال القيمة التي تعكس خطورة التعذيب كما هي في الواقع نادرة للغاية إن لم تكن منعدمة الوجود في وقتنا هذا.
والسبب في ذلك هو أحجام الجماهير عن مشاهدة أعمال عميقة عن التعذيب، إذ تلعب رغبة بعض الممثلين في زيادة شعبيتهم وأرباحهم دوراً حاسماً في تنامي هذا النوع من الأعمال السطحية. ويؤكد النقاد أن أعمال التعذيب الجادة أو ما يعرف بالتعذيب السلبي، لا تجلب مشاهدات عالية ولا تهم الموزعين.
فيلم "على جلدي"
"أون ماي سكين" هو فيلم سينمائي من الثقافة الإيطالية، صدر وعرض سنة 2018 على منصة "نتفليكس"، وهو للمخرج "أليسيو كريمو" وتناول فكرة التعذيب لمجرم يقضي عقوبة الحبس بسبب المتاجرة بالمخدرات، إذ يمضي بطل العمل (كوكي) أسبوعاً تحت التعذيب بعد إلقاء القبض عليه في روما، وبعد ذلك تدور الأحداث حول أثر تجربته هذه على حياة عائلته، مما يلفت الانتباه إلى إمكانية تقديم فكرة الأعمال العميقة عن التعذيب، والتي ينعكس أثرها في الأسرة والمجتمع بصورة مباشرة.
من أجل العدالة
حتى بداية القرن الـ20 تناولت الدراما العالمية بندرة ملحوظة، تجارب دول عظمى اتخذت مواقف مخزية في قضايا تعذيب المتهمين بذريعة تحقيق العدالة. وكان من أشهر تلك القضايا ما سمي سنة 1991 التعذيب بالإنابة، إذ نقلت دول ديمقراطية متهمين إلى دول غير موقعة على معاهدات منع التعذيب وحققت معهم بمختلف الأساليب. بدورها لم تعرض الدراما العربية لأي من هذه القضايا!
يذكر أن أشهر أنواع التعذيب المعاصرة جسدياً ونفسياً هي الكي والصعق بالكهرباء والشيّ وإطلاق الحيوانات المفترسة والإيحاء بالقتل وتعرية الأشخاص والحبس الانفرادي والمنع من النوم والاغتصاب وإجبار شخص على تغيير عقيدته.
تجارب
بعد القرن الـ20 ظهرت تجارب على الإنسان والحيوان أكدت أن جرعة معينة من الألم الجسدي والنفسي تؤثر بصورة إيجابية على القدرات العقلية والجسدية للإنسان. وتصف مثل هذه التجارب الألم أو التعذيب البسيط بكونه تحفيزياً، لكن الأبحاث بينت أن زيادة الجرعة يسبب مضاعفات خطرة مثل غسل الدماغ وتوليد رغبة لدى الشخص لتعذيب نفسه، وكذلك ظهور أعراض متلازمة ستكهولم على الإنسان.
أخيراً، من الآثار المزمنة للتعذيب الأرق والقلق وانعدام القدرة على التركيز وفقدان الذاكرة والقدرة الجنسية، لذلك تناولت عشرات الأفلام والمسلسلات العربية هذه الحالات الجاذبة للجماهير في الدراما بوصفها درجات غير عميقة من التعذيب الإيجابي الذي ينال استحسان شريحة أوسع من المشاهدين.