"وا أسفاه، لم يعد ثمة غجر يصعدون الجبل"، ذاك ما قاله الشاعر العظيم لوركا قبل عقود عدة. وهو قول لا يأسف لغياب منظر الغجر وملابسهم وما شابه ذلك، مقدار ما يأسف لغياب قيمة جوهرية في الحياة، مثّلها الغجر في عفوية وبساطة، وهي قيمة الحرية.
وبالقدر نفسه، يمكن القول الآن: وا أسفاه، لم يعد ثمة مهمشون في الرواية العربية الجديدة. وليس هذا أسفا لغياب الملابس الرثة ومشاهد الفقر والعوز والذل والمسكنة، بمقدار ما هو أسف لتغييب، أو لتهميش طبقات وشرائح ووجوه غامضة في الحياة، تبطن أكثر مما تظهر، وتشي أكثر مما تقول، في مقدمة تشبه ضجيج البركان الصامت في الأعماق. فئات حددت لها أكثر من جهة هامشاً ضيقاً للحراك والظهور أو حتى السكون؛ المجتمع الذكوري العربي، والمؤسسة الرسمية المستبدة، والثقافة الرسمية السائدة، المسلحة بشتى أسلحة الدمار الإعلامي الشامل. من دون أن ننسى تحول شريحة المثقفين العرب تدريجياً، إلى طبقة لها ملامح الطبقات الانتهازية، نهازة الفرص والمواقف والوقائع الموضوعية، تماما مثل تجار الحروب الذين يجدون في موت ملايين البشر سلالم للصعود إلى أعلى قمة الهرم الاقتصادي، بما يعنيه ذلك من قوة ونفوذ وسلطة وهيمنة.
هذا الغياب للمهمشين في الأدب الجديد، يعوضه حضور طاغ للمثقفين لا كذوات بل كموضوعات، بكل ما يتعلق بالمثقفين من سيكولوجيا وعادات وأفكار ومفاهيم وتقاليد، كثيراً ما تكون متعلقة بالعزلة والقلق الوجودي.
وعند التدقيق مليا في الظاهرة، نكتشف أن الشخصيات المهمشة لم تكن في الأصل تنتزع هامشاً واسعاً في السرد العربي، كما هي الحال في السرد الغربي. فلم توجد لدينا شخصيات مثل كنكان العوام، وجدة ماركيز العجوز، ولصوص المدينة، وليتوما في أنديز ماريو فارغاس يوسا، وفقراء أنطون تشيخوف، ومومسات ديستويفسكي، وغير ذلك.
كانت لدينا بعض الشخصيات المهمشة النمطية كالأم، والفتاة المقموعة في مجتمع ذكوري، ومناضلي غسان كنفاني الطالعين من مخيمات الشتات.
لكن أبرز الشخصيات المهمشة التي قرأناها كانت على الدوام متواجدة في أعمال يوسف إدريس على وجه التحديد.
أما رواد الرواية العربية في مصر، فلم يلتفتوا إلى هذه النماذج، واكتفوا بتناول بعض الشخصيات الأرستقراطية كما فعل يوسف السباعي، وإحسان عبد القدوس، إلى حد ما، إضافة إلى بعض النماذج الرومانسية عند محمد عبد الحليم عبد الله، وبعض النماذج المثقفة عند طه حسين، وصور باهتة لبعض المهمشين في أرياف توفيق الحكيم. وكان نجيب محفوظ انتقل إلى شخصيات الطبقة الوسطى، وأغنى عالمه الروائي بهم. ولم تعد الشخصيات المهمشة بعد يوسف إدريس حاضرة بقوة إلا عند قلة من الأدباء، وعلى رأسهم: إبراهيم أصلان، وبعض قصص يحيى الطاهر عبد الله، وخيري الشلبي، وإن كان يوسف الشاروني لامس تلك النماذج، من دون تخليق النموذج الفني الذي صاغه يوسف إدريس.
تناول اعتباطي
لكنّ كثيرا من الشخصيات المهمشة في السرد العربي، تم تناولها اعتباطيا ـ إن صح التعبير ـ ، كما حدث لشخصيات حنا مينه التي كانت تجسيداً لأفكاره وأيدولوجيته، أكثر من كونها شخصيات حية. وكما هي الحال في فقراء توفيق الحكيم في أريافه المصرية.
ولكن أواخر الستينات وأوائل السبعينات، حملت لنا نماذج مهمشة على درجة كبيرة من التميز الفني، كما في شخصية إلياس نخلة في رواية عبد الرحمن منيف (الأشجار واغتيال مرزوق)، إضافة إلى شخصيات عبد الحكيم قاسم وإبراهيم أصلان وإبراهيم عبد المجيد ويحيى الطاهر عبد الله وغالب هلسا وإلياس خوري وآخرين.
قدم هؤلاء نماذج مهمشة في تكنيك حديث، مختلف عن حكايات يوسف إدريس، وسرده البسيط المؤثر في قدرته على نمذجة الشخصيات التي تبدو موضوعيا وقبل قراءتها، شخصيات نمطية.
كانت حكايات يوسف إدريس معنية بإبراز الجوانب الخفية في البشر، وكشف المستور الذي لم يتجرأ الكتاب من قبله على الاقتراب منه. وبالتالي لم يكن معنيا بالبعد الطبقي كما فسرت الكثير من أعماله، مقدار عنايته بالبعد السيكولوجي لشخصياته، وبتفكيك البنية الاجتماعية المختلة ثقافيا وسياسيا ودينيا. أما اللاحقون فقد تميزوا بالحرص على قراءة الحياة ورؤيتها من زوايا جديدة لم تكن مألوفة من قبل. كانت ثمة أبعاد طبقية، لكنها جاءت في سياق البحث عن معنى الحياة، والتركيز على قيم الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية الغائبة في ظل استبداد المؤسسة الرسمية العربية. لقد قدم هؤلاء نماذج مهمشة في حراكها الاجتماعي لا في سكونها الذي بدا أبديا في كثير من أعمال السابقين.
وبالذهاب بعيدا في قراءة الظاهرة، فإننا نود الإشارة إلى أن موضوع المهمشين وحضورهم وطريقة تقديمهم، كلها تحتاج إلى فهم عميق لجدل الثقافة المهمشة والثقافة المهيمنة. وهو أمر ليس باليسير على كثير من الروائيين، خصوصا أولئك الذين لا يبدون استعدادا لفهم حركة التاريخ، والصراعات القائمة في المجتمعات التي تبدو متجانسة، والتحولات التي يمكن أن تحدث في هذه المجتمعات بدافع هذا الجدل.
فثمة الكثير من الروائيين الذين يعتقدون بديمومة هيمنة ثقافة ما في التراتبية الثقافية، وهؤلاء لا يرون الحراك الداخلي العميق في الثقافة الشعبية المهمشة. وهذا الحراك، إضافة إلى عوامل داخلية وخارجية أيضا، كثيرا ما يتيح الفرصة لصعود الثقافة المهمشة، ولدينا الكثير من الشواهد التي تؤيد ذلك. فقبل عقود قليلة فقط، كانت المرأة في كثير من الحواضن الاجتماعية العربية، محصورة ككيان وثقافة في هامش الرجل الذي يملك وحده مفتاح الهامش ومقاييسه، ولكن الحراك الاجتماعي في هذه الحواضن، أفسح في المجال لظهور المرأة العربية ككيان يتمتع بحرية نسبية، أهلتها لخوض بحر الكتابة، بل والتجرؤ على الغوص في موضوعات لم يجرؤ الكثير من الكتاب على ملامستها.
نحن إذا أمام معضلتين أساسيتين، الأولى: حدوث قطيعة موضوعية بين الكاتب والطبقات المهمشة. والثانية: حدوث قطيعة معرفية بين الكاتب وهذه الطبقة. وهاتان المعضلتان شكّلتا سببا رئيسا لغياب المهمشين، وهو ما لن يظل كذلك بالطبع، لأن الكتاب العرب سوف يكتشفون آجلا أو عاجلا أن هؤلاء المهمشين يشكلون ثقلا أساسيا في المجتمع، لا تستطيع الأعمال الروائية أن تستقيم من دونه.