Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لا تراهنوا على انتعاش بريطاني

ربما يفوز حزب العمال بالانتخابات ولكنه سيخسر الاقتصاد على أية حال

زعيم حزب العمال البريطاني المعارض كير ستارمر يلقي خطاباً في بريستول، المملكة المتحدة، يناير 2024 (رويترز)

ملخص

يجب أن يدرك الاتحاد الأوروبي أن نجاح حزب العمال يصب في مصلحته ولو أبرم صفقة تكسبه نفوذ لندن مقابل منحها أكبر على دخول سوقه الموحدة، فقد يؤسس لشراكة استراتيجية مفيدة.

ترجح التقديرات انعقاد انتخابات عامة في المملكة المتحدة خلال فصل الخريف المقبل، فيما تبدو التوقعات قاتمة بالنسبة إلى حظوظ رئيس الوزراء ريشي سوناك وحزب المحافظين.

في ديسمبر (كانون الأول) 2019، أعيد انتخاب المحافظين الذين فازوا بغالبية مقاعد مجلس العموم، إذ حصدوا 80 مقعداً بسبب الوعود الانتخابية التي قطعها الحزب بـ"تنفيذ بريكست" و"النهوض" بأجزاء البلاد التي لم تستفد إجمالاً من فوائد النمو الاقتصادي والاستثمار، لكن الحفلات غير القانونية التي أقامتها رئاسة الوزراء خلال فترات الإغلاق في ظل "كوفيد-19"، والانهيارات المالية على يد رئيسة الوزراء السابقة ليز تراس وارتفاع الكلف المترتبة عن "بريكست" قضت على موقع الصدارة هذا، بعد أن بدا منيعاً.

ومنذ تسلم سوناك منصب رئاسة الوزراء في أكتوبر (تشرين الأول) 2022، ظل حزبه متراجعاً عن حزب العمال في استطلاعات الرأي بمعدل 20 نقطة.

عندما يحين موعد الانتخابات، من المتوقع أن يشق كير ستارمر، زعيم حزب العمال المعارض، طريقه بكل سهولة نحو النصر. فالبلاد قد أنهكت وملت من المحافظين، وربما لا غرابة في هذا الشعور بعد 14 عاماً من حكمهم الذي سادته الفوضى في غالب الأحيان، وتولى خلاله خمسة رؤساء وزراء من المحافظين قيادة البلاد، خلف واحدهم الآخر بوتيرة وسريعة - وهم ديفيد كاميرون وتريزا ماي وبوريس جونسون وتراس وسوناك.

أما في اسكتلندا، فتعززت فرص حزب العمال بالفوز بعد سقوط الحزب الوطني الاسكتلندي من عليائه لأسباب أهمها سوء تعامله مع قضايا التحول الجنسي وحرية التعبير. وفي هذه الأثناء، في إنجلترا، يخسر المحافظون الأصوات بالمئات والآلاف من جهة أعضاء الحزب اليمينيين الذين يتوجهون نحو حزب الإصلاح، خليفة حزب "بريكست" الذي تزعمه نايجل فاراج. وقد تضافرت هذه العناصر الثلاثة لتدفع حزب العمال قدماً.

لكن العامل الذي سيوصل العمال إلى السلطة في نهاية المطاف هو الوضع الاقتصادي البريطاني المذري. ومن المنطقي أن يلوم الناخبون حزب المحافظين على هذا التردي الاقتصادي، ولا سيما أنهم يمسكون بزمام الحكم منذ عقد ونصف، لكن حزب العمال لم يطرح بدوره أي خطة اقتصادية معقولة. وما لم يظهر ستارمر استعداداً لاتباع أجندة اقتصادية جذرية أكثر، لن يعني فوز العمال في الانتخابات المقبلة سوى التسبب بمزيد من المشكلات للبلاد - وقد يؤدي حتى إلى عواقب وخيمة بالنسبة إلى الحزب نفسه.

المرض ينقض مجدداً على رجل أوروبا المعتل

يبدو المشهد الاقتصادي البريطاني قاتماً. وكما لحظ مارتن وولف، كاتب العمود في "فاينانشال تايمز" أخيراً، في نهاية عام 2023 حقق الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للفرد الواحد 28 نقطة أقل من معدله المحتمل لو استمر متوسط اتجاه النمو المسجل بين 1955 و2008 على حاله.

على امتداد 14 عاماً من حكم المحافظين، ظلت البلاد متخلفة من ناحية النمو، فلم تبارح الثلث الأدنى على قائمة اقتصادات بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وللمفارقة، يعد أحد العناصر الرئيسة وراء النمو الذي سجلته المملكة المتحدة منذ 2019 ارتفاع معدل الهجرة إليها، إذ شهدت البلاد زيادة في صافي الهجرة من 184 ألف شخص في 2019 إلى 745 ألفاً في 2022، وهو ما يعادل ضعف عدد الأشخاص الذين وصلوا فرنسا وإيطاليا تقريباً.

وعلى رغم اعتبار كثر أن جونسون وسوناك يتبنيان موقفاً معادياً للهجرة، يبين الواقع ارتفاعاً كبيراً في معدلات الهجرة من خارج دول الاتحاد الأوروبي منذ "بريكست". ومن الحوافز التي دفعت في هذا الاتجاه، زيادة أعداد الطلاب الجامعيين الدوليين الذين تفرض عليهم رسوم دراسية أعلى بكثير من المواطنين، وهو ما يعوض النقص في التمويل الحكومي للجامعات. يضاف إلى ذلك استقدام يد عاملة ماهرة في مجال الصحة والرعاية من خارج الاتحاد الأوروبي لسد النقص المزمن في اليد العاملة في هيئة الخدمات الصحية الوطنية (أن أتش أس NHS) بعد عودة عدد كبير من مواطني شرق وجنوب أوروبا إلى بلادهم.

إن المسبب الرئيس للضائقة الاقتصادية التي تعانيها المملكة المتحدة هو الانهيار التام لنمو الإنتاجية بسبب شح الاستثمارات العامة والخاصة على حد سواء. أتى انهيار الاستثمارات العامة منذ عام 2010 مدفوعاً أولاً بالأزمة المالية العالمية في عام 2008 والتي شكلت صدمة لنموذج نمو بريطاني لا يزال يعتمد بصورة كبيرة على الخدمات المالية وما يشابهها، وثانياً بتدابير التقشف القاسية.

في عهدي كاميرون وماي، خفضت الحكومة النسبة المئوية للإنفاق العام من إجمال الناتج المحلي من 46 في المئة في 2010 إلى 39 في المئة في 2019. ونظراً للحماية التي تتمتع بها بعض مجالات الإنفاق، ولا سيما معاشات التقاعد وهيئة الخدمات الصحية الوطنية، ضربت مقصلة الاقتطاعات المالية بقوة الخدمات الحكومية المحلية من بنى تحتية ونظام قضائي وتعليم ونقل. وجاءت النتيجة على صورة تراجع حاد في الاستهلاك المحلي، ونمو إقليمي بالدرجة الأولى.

أما الاستثمار الخاص، فقد تباطأ بسبب تردد قطاع الشركات للاستثمار في اقتصاد فرص نموه محدودة بهذه الصورة، إضافة إلى تركيبة الاقتصاد البريطاني بصورة عامة وارتفاع عدد الشركات الصغيرة فيه التي يتركز عملها في قطاع الخدمات. وجاءت الضبابية الاقتصادية التي صاحبت استفتاء "بريكست" وما تبعه لتفاقم نقص الاستثمارات الخاصة إذ بدأ المستثمرون الدوليون يعيدون حساباتهم في ما يعني الاستثمار في بلد يوشك على الانفصال عن السوق الأوروبية الموحدة.

يمثل هذا الوضع الاقتصادي تحدياً لحزب العمال. آخر مرة فاز فيها الحزب في انتخابات عامة كانت في العام 2005- مع أنه يبدو متجهاً الآن نحو فوز كاسح، كذلك الذي حققه في عام 1997، وأنهى به 18 عاماً من حكم المحافظين، لكن في عام 1997، ورث زعيم حزب العمال المعارض توني بلير، ووزير الخزانة في حكومة الظل غوردون براون، اقتصاداً قوياً فيه معدل دين عام متدن، في ظل نظام دولي جيد. لكن التركة التي يرثها ستارمر مختلفة. فالتحديات المالية التي تواجه العمال مخيفة، وتأتي على خلفية انقسام في اقتصاد عالمي يصعب استشراف آفاقه بسبب تأجج النزاعات الجيوسياسية.

والمهمة واضحة: عكس اتجاه التراجع في الاستثمارات العامة والعمل مع مسؤولي الاتحاد الأوروبي في بروكسل بغية بناء شراكة اقتصادية واستراتيجية على المدى البعيد يمكنها أن تحفز الاستثمارات الخاصة. ربما لا يزال "بريكست" هو السياسة الرسمية التي يتبناها الحزبان، لكن في غياب النمو، تحتاج المملكة المتحدة إلى تحسين إمكانية وصولها إلى السوق الأوروبية الموحدة. ومع أن ستارمر ووزيرة الخزانة في حكومة الظل، رايتشل ريفز لن يزيدا الأمور سوءاً، على الأرجح، لا تزال خططهما الحالية خجولة جداً مقارنة بحجم المشكلات التي تواجهها البلاد، وقد لا تحدث بالتالي أي فرق حقيقي.

مقاربة حذرة

في خطاب رئيسي أدلت به أمام جمع من رجال الأعمال في لندن، في شهر مارس (آذار)، طرحت ريفز السياسة الاقتصادية التي من المقرر أن ينتهجها حزب العمال مستقبلاً، وتركز طرحها حول "سياسات اقتصادية آمنة"، وهي على شاكلة سياسات بايدن الاقتصادية لكنها تفتقر إلى السخاء المالي وليست بحجم قارة. فطموح ريفز الأساس هو جعل الوظائف أكثر أمناً وإدراراً للدخل بالنسبة إلى البريطانيين العاديين.

وبالنظر إلى انهيار نمو الأجور في المملكة المتحدة خلال الـ15 عاماً الماضية - يرى تورستن بيل، المتخصص في الشأن الاقتصادي الذي يترأس مركز أبحاث مؤسسة ريزولوشن أنه "لو استمر نمو الأجر الحقيقي على مساره في فترة ما قبل الركود" لكان الأجر السنوي للعمال البريطانيين أعلى بنحو 13 ألف دولار - هذا هدف يستحق الثناء. ومع أن القانون قد يهتم بشق انعدام الأمن الوظيفي، ما تعنيه زيادة الأجور هو زيادة الإنتاجية التي تعني بدورها ارتفاعاً كبيراً في الاستثمارات، لكن ليس واضحاً من أين تعتقد ريفز أن هذه الاستثمارات ستأتي.

تعهدت ريفز في خطابها بالحفاظ على إطار مستقر للاقتصاد الكلي، يضم قوانين مالية عامة تحكم النفقات اليومية من شأنها الحفاظ على توازن الموازنة وتخفيض نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي. وهي مقاربة تتماشى تماماً مع سياسات سوناك. كما تعهدت ريفز المحافظة على المعدل الحالي للضريبة على الشركات الذي يبلغ 25 في المئة ويعد متدنياً بالمعايير الدولية.

وأعلنت أنها ستعمل على معالجة انخفاض الاستثمارات المزمن في البلاد عبر إنشاء شراكات وثيقة مع القطاع الخاص، وطرحت ضرورة إدخال إصلاحات معمقة على القطاع العام. وقالت ريفز إن حزب العمال سيأخذ على عاتقه معالجة نظام التخطيط الصارم الذي يحكم استعمالات الأراضي والبنية التحتية في المملكة المتحدة، وسيعمل على تعزيز اللامركزية الحكومية. ومع أن بعض هذه الأفكار جديدة ومختلفة عما طرحه المحافظون، ولا سيما في مجال التخطيط واللامركزية، فبعضها الآخر شبيه جداً به.

لذلك، فليس من الواضح أن كان انتصار العمال سيؤدي إلى زيادة في الاستثمارات. فإن كان لا بد للاستثمارات الجديدة أن تأتي من الادخار في الداخل أو الاقتراض من الخارج، تجد المملكة المتحدة نفسها مقيدة من الجانبين. لأن الادخار يعني مزيداً من التقشف، والاقتراض يعني زيادة في المديونية. قد يبدو إيلاء الأهمية القصوى للاستقرار أمراً جيداً، لكن في ظل ركود الاقتصاد، سيؤدي ذلك إلى مزيد من الكساد.

ومن ناحية أخرى، فإن تجربة البلاد مع السماح للقطاع الخاص بإدارة البنية التحتية انتهت بالفشل بصورة عامة، بدليل المليارات التي أنفقتها الحكومة على إنقاذ خدمات المياه بعد تخصيصها وعمليات إعادة شراء الأسهم والأرباح من قبل الشركات نفسها. تفتقر فكرة بيع أجزاء إضافية من الدولة لتعزيز الاستثمار إلى الصدقية بكل بساطة. ويمكن أن يساعد الإصلاح في عمليات التخطيط إن عالج مثلاً مشكلة النقص الحاد للمساكن في البلاد، لكن سيكون على عاتق الحكومة أن تستثمر في بناء المساكن نفسها.

يعود خجل حزب العمال إلى سبب عملي، لا شك في أن ستارمر وريفز اتخذا قرار إفساح المجال للمحافظين لكي يتناحروا فيما يقاومان الرغبة بقطع وعود جريئة يمكن أن يتعرضاً بسببها لهجوم صحافة اليمين الصفراء. وربما قررا ألا يفشيا كثيراً حرصاً على تعظيم فرص المناورة بعد توليهما منصبيهما، على اعتبار أنهما إن لم يستبعدا سياسة معينة الآن، فسيتسنى لهما تطبيقها لاحقاً. ومع أن هذه المقاربة قد تحمل قدراً من المنطق الاستراتيجي من جهة، فهي تفرغ الديمقراطية من معناها، باعتبارها مفهوماً يتخطى اللعب الخبيث، لكن بصرف النظر عن النية الاستراتيجية، إن لم تأت حكومة العمال بغير تقشف المحافظين مكسواً بصبغة إنسانية، لا يمكن للحزب أن يتوقع البقاء في الحكم أكثر من ولاية واحدة فحسب. إن لم ير الشعب أن حزب العمال يحاول إدخال أي تغيير حقيقي على حياة البريطانيين العاديين بعدما عاشوا فترة قاسية امتدت عقداً ونصف، فسيلفظ، وعن حق، باعتباره يقدم استراتيجية دون جوهر ملموس. وقد يترتب على ذلك المكوث فترة طويلة أخرى على مقاعد المعارضة وحروب داخلية ضروس بسبب هذه الفرصة الضائعة.

أفكار عن فوائد ومصالح    

مع أن الوضع الاقتصادي قاتم في المملكة المتحدة، يستطيع حزب العمال أن يعد باتخاذ خطوات أكثر بكثير. أولاً، يمكنه أن يوسع الحيز المالي بدرجة هائلة عبر توجيه المصرف المركزي للبلاد، بنك إنجلترا، بالتوقف عن دفع فوائد على احتياط المصارف التجارية، من أجل التأثير في معدلات الفائدة قصيرة الأمد. فنظراً إلى ارتفاع معدلات الفائدة في المملكة المتحدة، تفضل المصارف التمسك بالمال وعدم استثماره في الاقتصاد الحقيقي.

نتيجة لذلك، يتوقع أن تجني فوائد بنحو 286 مليار دولار بحلول 2033 لمجرد إيداعها الاحتياط في البنك المركزي. إن كانت زيادة الاستثمار أحد الأهداف الأساس في سياسة الحكومة، يمكن توظيف هذا المبلغ بصورة أفضل. قرر حزب العمال أخيراً أن يؤجل مخططات استثماره في القضايا البيئية التي ستكلفه نحو 35 مليار دولار سنوياً، بعدما قدر أنها مكلفة جداً، لكن هذا المبلغ أقل بكثير من الأموال المجانية التي يوزعها "بنك إنجلترا" على المصارف الأخرى، لمجرد وجودها لا غير.

اقرأ المزيد

وأقل ما يقال عن هذا الوضع إنه إحراج مالي. لذلك فإنهاء هذه الممارسة كفيل بتخفيض توقعات المديونية على المدى البعيد فوراً، وتمهيد الطريق أمام الاستثمارات الجديدة بمعدلات أقل. ليس من المفترض بعمليات السياسة النقدية الاعتيادية التي ينفذها بنك إنجلترا أن تؤذي الاستثمار الوطني. على الجانب الآخر من القنال الإنجليزي، توقف البنك المركزي الأوروبي عن دفع فوائد على الحد الأدنى لاحتياط المصارف التجارية منذ بداية سبتمبر (أيلول) 2023. وأصبح معدل الفائدة الجديد صفراً.  

ثانياً، على العمال أن يسعى إلى تحقيق النمو في الإنتاجية عبر التشجيع على تعزيز حرية تحرك اليد العاملة وتطوير مهارات العمل. وإحدى الطرق لتحقيق هذه الغاية هي الاستثمار في الإسكان. توقفت المملكة المتحدة فعلياً عن بناء المساكن الميسورة الكلفة على نطاق واسع في ثمانينيات القرن الماضي وهي الآن في حاجة إلى بناء 4.3 مليون وحدة سكنية لكي تواكب النمو السكاني وتلبي الطلب بصورة عامة.

أنتج النقص في هذا المجال أزمة بسبب انعدام القدرة على تحمل كلف المساكن، تتركز بصورة رئيسة في لندن، المسؤولة عن توليد ثلث الناتج الإجمالي المحلي، فزاد ذلك من إعاقة النمو. لذلك، على حزب العمال ألا يكتفي بالالتزام ببناء المساكن، بل إن يمتلكها. فإنشاء الأصول التي تدر مدخولاً ووضعها على موازنة الدولة، سينتج مع الوقت إيرادات مالية تقلص الدين فيما تتطابق الأصول مع الالتزامات. ويمكن لحزب العمال أيضاً أن يوظف مصدر الدخل الجديد للاستثمار في العمالة الماهرة مرتفعة الأجر التي تحتاج إليها البلاد من أجل بناء المساكن وتنظيف الاقتصاد من الكربون، مثل السباكين والكهربائيين ومهندسي التدفئة والتهوية والتكييف.

ثالثاً، يجب أن يغير حزب العمال من طريقة تعامل حسابات الدولة مع استثمارات بعيدة المدى من طريق إزالتها من الإنفاق الحالي والمعادلة بين الأصول والالتزامات عبر بناء الأصول. هذا ليس خداعاً مالياً، بل يعد ممارسة عملية جيدة في القطاع الخاص. يمكن أن توضع هذه الأصول في صندوق ثروة مستقل للمواطنين، يستفيد من الديناميكيات المعاكسة للدورة الاقتصادية في كلفة رأس المال للقيام باستثمارات عندما ترتفع أسعار السندات وتنخفض العائدات. بدلاً من مقاربة الأمور بحذر شديد، يستطيع حزب العمال أن يقوم بخطوات كثيرة للتحرر من هذه القيود المالية التي فرضها على نفسه. يؤتمن السياسيون على السلطة لكي يحكموا وليس كي يفرضوا قوانين مالية تؤذي الاستثمارات في الاقتصاد الحقيقي.

بروكسل حسب الطلب

من الضروري أن يعيد حزب العمال تقويم العلاقة مع الاتحاد الأوروبي. ومع أن ستارمر قلق من اتهامه بخيانة بريكست - كما تبين مرة جديدة من خلال رفضه لـ"برنامج حرية تنقل الشباب" الذي من شأنه تمكين الشباب البريطاني من العمل في دول أخرى، والعكس صحيح - عليه تغيير مساره والبدء بإصلاح العلاقات مع بروكسل. ليس من المنطقي مواصلة عدائية المحافظين تجاه الاتحاد الأوروبي، أهم شريك تجاري للمملكة المتحدة، ولا سيما في ظل توجه الولايات المتحدة والصين نحو سياسة المركنتيلية (التي تدعو لتعظيم الصادرات وتقليل الواردات) وشن روسيا حرباً على الحدود الأوروبية. ومع أن العمال قرر الالتزام بخطوط "بريكست" الحمراء في الوقت الحالي - وهي ترفض سياسة الحدود المفتوحة أمام مواطني الاتحاد الأوروبي أو محاولة الانضمام إلى السوق الموحدة أو الاتحاد الجمركي - فالمجال مفتوح أمام الحزب كي يتصرف بمزيد من الجرأة. يمكن أن يحاول ستارمر بداية إبرام اتفاقات صغيرة تساعد في تيسير التجارة، وتسهل على الشركات البريطانية توفير الخدمات داخل الاتحاد الأوروبي، وتعزز حرية التنقل للعمال من أصحاب المهارات الحيوية. إن أرادت المملكة المتحدة أن تحسن وضع اقتصادها، فهي في حاجة إلى حجم السوق الأوروبية الموحدة.   

يكمن التحدي في إقناع الاتحاد الأوروبي بتوقيع هكذا اتفاقات. إنما ربما تكون هذه المهمة أقل صعوبة مما يتوقع كثر. مع تواصل الحرب في أوكرانيا، بلغت بروكسل في النهاية مرحلة التعامل الجدي مع مسألة تأمين أمنها ودفاعاتها. ولكي تفعل ذلك بطريقة موثوقة، ستحتاج إلى يد العون من لندن. فالمملكة المتحدة لا تمتلك فقط أسلحة نووية وعضوية دائمة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بل هي القوة العسكرية الوحيدة في أوروبا، إلى جانب فرنسا، التي لديها نفوذ عالمي - مع أنه تقلص مقارنة مع عصرها الذهبي.

لا يمتلك الاتحاد الأوروبي ومؤسساته أي قدرات عسكرية خاصة به، إنما يمكنه لعب دور مفيد في تنسيق عمليات توفير هذه القدرات وتنظيم استراتيجية للصناعات الدفاعية تجمع الموارد بطريقة أفضل وتنسق إنتاج الأسلحة على المستوى الوطني. يجب أن تمنح المملكة الاتحاد الأوروبي شيئاً أكبر بكثير من سلسلة اتفاقات صغيرة، لكي تخفف من ألم خروجها منها.   

تظهر هنا فرصة لإبرام صفقة سياسية كبيرة. تستطيع المملكة المتحدة أن توافق على لعب دور رائد في تطوير وتنسيق أمن أوروبا، فيما يمكن للاتحاد الأوروبي في المقابل أن يفتح المجال أمام المملكة المتحدة لإنشاء علاقة قريبة من شكل العضوية في السوق الموحدة، تخفض الحواجز غير الجمركية أمام التجارة إلى أدنى مستوى ممكن، وتسهل العلاقات التجارية بصورة أكبر بكثير من الوقت الحالي، دون أن تسمح بحرية التنقل كاملة. صحيح إن المتزمتين في بروكسل قد يعترضون على ذلك، ويعتبروا أن هذه الصفقة أقرب ما تكون إلى إطلاق يد المملكة المتحدة كي تنتقي ما تحبذه من فوائد الاتحاد الأوروبي، وهي شكوى قديمة، لا بد أن نلفت إلى أن الوضع في أوروبا تغير كلياً منذ غزو روسيا لأوكرانيا. من وجهة نظر دول أوروبا الشرقية والبلطيق خصوصاً، يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى الثقل العسكري الذي تتمتع به المملكة المتحدة إن أراد أن يحقق تقدماً مهماً في الوقت المناسب نحو قارة أكثر استقراراً وأمناً.

لا وقت للتوتر

على رغم تقدمه اللافت في استطلاعات الرأي، يخشى حزب العمال أن تضعف خطط الإنفاق الاستباقية قدرته على الالتزام بتحقيق موازنة متوازنة ويقلق من أن ينظر إليه على أنه يخون التصويت على "بريكست". فإما أرهبه المحافظون أو تلاعبوا به لكي يدخل حالة تأييد التقشف تلقائياً، أو أنه فعلاً يرى في الترويج لسياسات تشجع على الاستثمار خطراً انتخابياً. ربما يعد هذا الموقف الحريص والحذر منطقياً في ظل حالة "فوراًن اقتصادي" ناتج من تسارع النمو مثلاً، لكن هذا ليس وضع المملكة المتحدة حالياً.

وفقاً لمنظمة استطلاعات الرأي في "إيبسوس" يرى 40 في المئة من الناخبين البريطانيين أن سياسات حزب العمال هي الأفضل للعاملين، مقارنة بـ15 في المئة يؤمنون بأن سياسات المحافظين هي الأفضل. مرت على بريطانيا 14 سنة من التقشف قصمت ظهرها. إن فاقم العمال هذا الضرر الكبير تحت راية الاستقامة المالية، فسيعرقل برنامج عمله الإيجابي وربما يتعثر الحزب نفسه في هذا الوضع. إن الاقتصاد البريطاني في حالة مزرية ويتوقع الناخبون من العمال أن يصلحه.

لكن مواصلة تطبيق حلول المحافظين، ولو مجملة، سيجعل الناخبين يتخلون عن العمال في الانتخابات المقبلة. في مسألة "بريكست"، يعتقد 56 في المئة من البريطانيين الآن أن مغادرة الاتحاد الأوروبي كانت خطأً، مقابل 33 في المئة يؤمنون بصواب ذلك القرار. إن إنشاء علاقات أوثق مع الكتلة الأوروبية خطوة طال انتظارها. وفي هذه الأثناء، يجب أن يدرك الاتحاد الأوروبي أن نجاح حزب العمال يصب في مصلحته الاقتصادية والأمنية. لو أبرم صفقة كبيرة تكسبه نفوذ لندن في مجال الدفاع مقابل منحها قدرة أكبر على دخول سوقه الموحدة، فقد يؤسس بذلك شراكة استراتيجية تعود بالفائدة على الطرفين وتعزز أمنهما. 

* ماتياس ماتيس أستاذ مساعد في تخصص الاقتصاد السياسي الدولي في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز، وزميل أول لشؤون أوروبا في مجلس العلاقات الخارجية، ومؤلف كتاب الأفكار والأزمات الاقتصادية في بريطانيا من أتلي إلى بلير (1945-2005)

* مارك بلايث متخصص في الشأن الاقتصادي الدولي في معهد واتسون للشؤون الدولية والعامة في جامعة براون وأحد مؤلفي كتاب اقتصادات غاضبة

مترجم من فورين أفيرز، 30 أبريل (نيسان) 2024

المزيد من آراء