ملخص
إن قراءة متأنية لـ"الكتاب الأخير" الذي وضعه الكاتب الإيطالي بافيزي، توضح سر انتحارهن ففي هذا الكتاب، وعنوانه "مهنة العيش"، تنتهي آخر صفحاته بفقرة يصور فيها لحظاته الأخيرة وينهيها بعبارة "لن اكتب شيئا بعد الآن"
"في الـ27 من أغسطس (آب) 1950، وفي غرفة بفندق يدعى "أوتيل روما" في مدينة تورينو الإيطالية، انتحر الكاتب الإيطالي تشيزار بافيزي بابتلاع 20 حبة منوم". بالنسبة إلى كثر من الذين عرفوا بافيزي في ذلك الحين وتابعوا قصة حياته ثم حكاية انتحاره، كانت الصورة المعبرة عن ذلك الانتحار واردة في الفقرة الختامية لواحدة من أجمل رواياته "بين النساء". وهي رواية كان كتبها قبل عامين من انتحاره. وتقول الفقرة: "عند منتصف الليل عرفت بقية الحكاية. فقد مرت مومينا بالفندق على دراجتها النارية تخبرني أن روزيتا موجودة الآن في غرفتها ممددة فوق سريرها. بل لا تبدو عليها، حتى، سمات الموتى. كل ما في الأمر أن شفتيها منتفختان بعض الشيء، كأنهما تعبران عن اشمئزاز ما. لكن الغريب في الأمر تلك الفكرة التي كانت راودت روزيتا بأن تستأجر محترفاً للرسم، تنقل إليه كنبة كبيرة... ولا شيء غير كنبة كبيرة، ثم تموت، هكذا، ممددة فوق الكنبة... أمام النافذة المطلة على سوبرغا. غير أن قطة من القطط غدرت بها يومها، وكانت موجودة معها في الغرفة. إذ في صبيحة اليوم التالي لانتحارها راحت القطة تموء وتطرق على الباب من الداخل بمخالبها، حتى فتحوه لها...".
نبوءة بنهاية ما...
إن كثراً، إذاً، رأوا في هذا النص نوعاً من التنبؤ في النهاية التي اختارها بافيزي نفسه لحياته إنما بعد حين. غير أن قراءة متأنية لـ"الكتاب الأخير" الذي وضعه بافيزي، تقول لنا إن سر انتحاره موجود في هذا الكتاب، لا في تلك الرواية. فهذا الكتاب، وعنوانه "مهنة العيش"، تنتهي آخر صفحاته بالفقرة الآتية: "إن الأمر الذي كنت في سري أخافه دائماً أكثر من أي أمر آخر، يحصل دائماً. وأكتب: هيه أنت... كن رحيماً... ثم ماذا؟ يكفي المرء شيء من الشجاعة. إذ كلما بدا الألم محدداً وواضحاً، حدث لغريزة الحياة أن هزمت... وهبطت فكرة الانتحار من شاهق. حين كنت أفكر في الأمر، كان يبدو لي في غاية السهولة. ومع هذا ثمة نساء شابات بائسات فعلنها... والحقيقة أن المرء لكي يقوم بهذا، يحتاج إلى تواضع، لا إلى كبرياء. وهذا كله يثير قرفي في نهاية الأمر. إذاً لتتوقف الكلمات. ولتكن هناك حركة واحدة. لن أكتب بعد الآن شيئاً".
تفسير كل شيء
هذه العبارات خطها قلم تشيزار بافيزي في الصفحة الأخيرة لـ"مهنة العيش" قبل تسعة أيام من انتحاره. وهو بالفعل لم يكتب حرفاً من بعدها. وأما هذا الكتاب، "مهنة العيش"، فإنه صدر، طبعاً، بعد موته، ليفسر كل شيء: حياة بافيزي، انتحاره، نصوصه، نضالاته السياسية وخيباته المريرة، أحلامه، وعلاقاته. ذلك أن هذا الكتاب هو كتاب يومياته الذي كان شرع في تدوينها، بصورة يومية، منذ عام 1935، أي قبل 15 عاماً من رحيله المبكر، هو الذي انتحر وكان بعد في الـ42 من عمره. والغريب في الأمر أن العام الذي بدأ بافيزي تدوين يومياته، كان هو العام الذي نشر فيه أول أعماله، وهو عبارة عن مجموعة شعرية عنوانها "العمل الشاق"... وفيما كان بافيزي يوم إصدار هذه المجموعة يتوقع أن يطرق أحد على باب بيته ليقول له كم إنه معجب بالمجموعة... طرق الباب حقاً، ولكن بأيدي رجال الشرطة الفاشيين الذين أتوا ليعتقلوه واضعينه في الإقامة الجبرية.
إذاً، وسط هذين الحدثين، صدور الكتاب الأول والوضع القسري في الإقامة الجبرية، بدأت حياة بافيزي الشاقة، كما بدأ تعرف الحلقات الضيقة، ثم حلقات أوسع من القراء على عمله الأدبي، الذي تواصل 15 عاماً أخرى، حفلت بالشعر والقصة والرواية، ناهيك بالترجمات التي حققها الرجل لأعمال بعض كبار الكتاب الأنغلو - ساكسونيين. خلال تلك الفترة كانت حياة بافيزي، عملاً صاخباً لا يهدأ. وهو، مثل كل الأدباء الإيطاليين من أبناء جيله، طعم ذلك العمل، بانتماء سياسي، غاضب وناقد في معظم الأحيان، إلى الحزب الشيوعي الإيطالي، الذي كان في تلك الأوقات المبكرة يضم معظم المثقفين الإيطاليين.
النهاية الخفية
وإذا كان أدب بافيزي كله، عبر في صورة جيدة عن تلك الحياة التي عاشها، فإن قلة فقط من قارئي رواياته وأشعاره، كان يمكنها أن تخمن أن نهايته ستكون على النحو الذي كانت عليه. وذلك بالتحديد، لأن أحداً لم يكن قد قيض له، أن يقرأ "مهنة العيش". أما من قرأها بعد انتحار الرجل فإنه فهم كل شيء. ذلك أن تلك المذكرات اليومية كانت عبارة عن صفحات حافلة بالمرارة والخيبة. وحسبنا للتيقن من هذا أن نفتح أي صفحة وفي شكل عشوائي لنجد عبارات مثل، "هذه هي المرة الأولى التي أرسم فيها جردة لسنة من حياتي لم تنتهِ بعد. إذاً، أنا في مهنتي ملك... يمكنني أن أفعل ما أشاء. وأنا بالفعل، فعلت ما أشاء خلال 10 أعوام. ولعل هذا الاستنتاج من شأنه أن يرضيني إذا ما قارنته بضروب التردد التي كانت تجتاحني في الماضي. ومع هذا، فإنني في حياتي أكثر يأساً وأكثر ضياعاً مما كنت في أي لحظة من الماضي. أشعر الآن بأن ليس لدي، فوق هذه الأرض، ما قد أرغب في فعله أو الحصول عليه، سوى ذلك الشيء الذي تمكنت 15 عاماً من الفشل أن تبعده بعيداً مني. إذاً، هاكم هنا جردة حساب هذه السنة التي لم تنته بعد... والتي أعرف أنني لن أنهيها ابداً...".
خيبات سياسية
هنا علينا أن ندرك أيضاً، أن خيبات بافيزي السياسية، وهي إطار خلافاته العميقة مع حزبه الشيوعي، زادت من كآبته كآبة. وهي تطغى على بعض أكثر صفحات يومياته مرارة. ناهيك بأن أعوام الحرب العالمية الثانية تبدت بالنسبة إليه سنوات لا تنتهي. وهو لئن كان توجهاً في عام 1943، إلى الريف لكي يعيش حياة جديدة، كما نفهم من "مهنة العيش"، كانت كل تأملاته الريفية مفعمة بالكآبة. صحيح أنه ما إن انتهت الحرب حتى راح يتنقل بين المدن... من أجل العثور على بعض العزاء و"الاختلاط بالناس في الشوارع وفي الباصات" كما يقول، معتبراً أن "العمل والمدن والحزب" قد تكون معاً طريقاً إلى الخلاص، "لكن الخلاص لم يأت أبداً" كذلك لم يأته، وكما يخبرنا في صفحات أخرى، من طريق شغفه بالدراسات الإثنولوجية التي انصرف إليها. ومن هنا راحت ضروب الكآبة تتراكم في اليوميات، صفحة بعد صفحة: سكون الريف ووحشته، كآبة الضواحي، بؤس عالم العمال والفلاحين، تفاهة بورجوازيي المدن. إن هذا كله لم يورثه في نهاية الأمر سوى الوحشة والكآبة.
ما يعرفه القراء مسبقاً
طبعاً، يعرف قراء بافيزي، من الذين قرأوا خلال تلك السنوات كتاباته المتنوعة من "الأرض والموت" (وهي قصيدة طويلة ستشكل جزءاً من مجموعته التالية "سيأتي الموت وينال عينيك") إلى "حوارات مع لوتو" و"الرفيق" إلى "الصيف الجميل" و"قبل صياح الديك" ثم "السجن" و"الشيطان عند التلال"، يعرف هؤلاء القراء أن معظم صفحات هذه الأعمال متشح بالسواد والحزن وبالأسئلة القلقة حول مغزى حياة "لا مغزى لها". لكن هؤلاء القراء، وفي شكل ملتو، كانوا يدركون أن مجرد الكتابة على مثل هذه الغزارة، هو بحث عن أمل. أما الذين قرأوا "مهنة العيش" لاحقاً فإنهم أدركوا أن تشيزار بافيزي، كان كف عن توقع أي أمل منذ زمن بعيد، وأنه إذا كان شغل حياته بالكتابة طوال سنوات وسنوات، فما هذا إلا لأنه كان يدبر موته.
ولد تشيزار بافيزي عام 1908، لأسرة موسرة في بلدة بمقاطعة بيامونتي الشمالية في إيطاليا. ويبدو أن قسوة أمه أثرت عليه طوال حياته. إذ إنها أودعته وحدة قاسية كانت هي ما وجهه نحو القراءة ثم الكتابة. وهو تأثر باكراً بالأميركيين مثل والت ويتمان وملفيل. وحين تخرج في الجامعة عمل في تدريس الأدب الإيطالي واللغة اللاتينية، ليبدأ الكتابة والنشر والترجمة، أواسط سنوات الثلاثينيات، جاعلاً منها مشاغله الأساسية طوال العقد ونصف العقد اللذين بقيا له من حياته، ومن "مهنة العيش" التي تقاعد منها أخيراً بالانتحار.