بقيت أتابع من الهند، ما يدور من اتصالات مع المتابعين لنشاط اللجنة التي تشكلت من "المؤتمر الشعبي" و"اللقاء المشترك" واتفقوا في 23 فبراير (شباط) عام 2009 على تمديد فترة مجلس النواب لعامين بغية إعطاء فرصة لمناقشة التعديلات الدستورية والانتقال إلى نظام القائمة النسبية في الانتخابات، وإعادة تشكيل اللجنة العليا للانتخابات، ووقعوا عليه (الدكتور عبد الكريم الأرياني، ممثلاً المـؤتمر الشعبي والدكتور ياسين سعيد نعمان عن الحزب الاشتراكي والدكتور عبد الوهاب محمود عن حزب البعث العربي الاشتراكي والأستاذان عبد الوهاب الأنسي عن التجمع اليمني للإصلاح وسلطان العتواني عن التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري).
خلال تلك الفترة وفي شهر مايو (أيار)، أُعلن عن تأسيس اللقاء التشاوري للحوار الوطني بلجنة تحضيرية من 90 عضواً ممثلين لأحزاب اللقاء المشترك وشخصيات اجتماعية، وترأسه الأستاذ محمد سالم باسندوة وأمينه العام الشيخ حميد الأحمر التي أرادها بديلاً عن اللقاء المشترك، وكان في واقع الأمر الممول الحقيقي والمحفّز الأكبر لهذه المنظومة التي كان يرغب في الاعتماد عليها كحاملة لطموحاته السياسية وهي مشروعة في كل حال، طالما ظلت في إطار العمل السلمي، لكن الرئيس صالح والدكتور الأرياني اعتبرا الإعلان عن "اللجنة التحضيرية" خروجاً عن اتفاق فبراير، وتواصل الأخير شخصياً، حسب مراسلاته المحفوظة معي في البريد الالكتروني، مع قيادات اللقاء المشترك وأكدوا له جميعاً ان "اللجنة التحضيرية" ليست بديلاً عن اتفاق فبراير 2009 بين السلطة والمعارضة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كان الإعلان عن "اللجنة" إشارة واضحة إلى دخول العملية السياسية التوافقية في مسار خارج الاتفاقات السابقة، واستمرت المراسلات إلى أن قرّر "اللقاء المشترك" في شهر يوليو (تموز) 2009 التوقف عن الحوار، مبرراً ذلك بالحاجة إلى أن تتخذ الحكومة إجراءات سبق لهم المطالبة بها، وشملت (وقف الحملات الإعلامية والاعتقالات والمطاردات)، واستمرت القطيعة حتى بدايات شهر سبتمبر (أيلول) 2009، حين استؤنفت الاتصالات لكنها لم تثمر عن استـئناف اللقاءات، وجرى تبادل رسائل بين الطرفين، وكان واضحاً أن رغبة التوافق والتفاهمات السياسية لم تتجاوز البيانات.
أنجزت "اللجنة التحضيرية" وثيقة سُمّيت "مشروع رؤية الإنقاذ الوطني" وكانت في محتواها انقلاباً سياسياً على طريقة وأسلوب الحكم القائم آنذاك، وتعرّضت بالنقد القاسي لفترة حكم الرئيس صالح، وقُدّمت كبديل لإدارة الحكم، ثم عرضتها كأساس للنقاش، وفي يناير (كانون الثاني) 2010 عرض "المؤتمر الشعبي" تشكيل لجنة مشتركة لحوار وطني شامل يمَثّل فيه (المؤتمر الشعبي وحلفاؤه) و(اللقاء المشترك)، مناصفةً لدراسة تنفيذ اتفاق فبراير 2009، لكن اللقاء المشترك صرح أن التوقيع على الاتفاق لن يتم إلاّ بحضور "اللجنة" كطرف فيه، وأن تكون رؤيتها هي الإطار لأي حوار، وتحفّظ "المؤتمر" على الأمر وتوقفت المشاورات مرة أخرى.
كان الخلاف هو التربة التي مهدت لما حدث في العام التالي 2011، وأُضيف إليه الشك بين الطرفين في الأهداف. فبينما كان الرئيس صالح يرغب في كسب مزيد من الوقت، كان الدكتور الأرياني يعلن في مجالسه لأصدقائه الذين يثق بهم أن وقت رحيل صالح قد أزف، في حين كانت أحزاب اللقاء المشترك تراهن على قدرتها في الضغط الشعبي، وفي الوقت ذاته كانت المخاوف الأميركية والأوروبية المتصاعدة تلحّ على دفع الأطراف إلى حوار واسع خشية أن تقود حال الشلل السياسي إلى تصاعد مخاطر الاضطرابات الداخلية، ما سيسهم في انتشار الجماعات الإرهابية وتهديد مستقبل الدولة اليمنية كلها. وكان القلق يتزايد من احتمالات فشل الحوارات الهادفة إلى التخفيف من الاحتقان الذي أثار انزعاجاً لدى المستثمرين اليمنيين والأجانب، خصوصاً شركات النفط العاملة في اليمن وخوفها من اندلاع أحداث مسلحة في مناطق نشاطاتها.
استمرت حالة الشد والجذب بين الأطراف السياسية، ووُقّعت أوراق كثيرة، وتدخل الكثيرون لنزع فتيل أزمة كان بالإمكان التخلص من تداعياتها التي ألقت بظلالها السوداء بالنسبة إلى كثيرين، والتي منحت أيضاً ضوءاً بمستقبل أكثر ازدهاراً، ولستُ هنا في معرض الحديث عنها، فلها مجال آخر.
وحين أنظرُ بأثر رجعي إلى تلك المرحلة، فإنّ بها من الدروس المستقاة الكثير، ولكن أهمها على الإطلاق أنه في حين كان عدد من القيادات السياسية قادراً على توجيه الدفة نحو وجهة آمنة، بعيداً من الأعاصير التي عصفت باليمن، تعامل كثيرون في المقابل مع الأزمة كسانحة لتصفية الحسابات والصعود السياسي عبر سبل غير دستورية ومنهم من رآها وسيلة انتقام لأحداث دامية ماضية.
مع نهاية فترتي كسفير في الهند مطلع شهر يوليو (تموز) 2010، كنتُ مع الصديقين سفير دولة الإمارات الأستاذ محمد العويس والأستاذ الأديب الشاعر عبد الكريم الرازحي حين اتصل بي الصديق الأستاذ فضل عبد الخالق وكان حينها رئيساً للمراسم في رئاسة الجمهورية ليخبرني أنّ قائمة التعيينات والتنقلات الخاصة بالسفراء قد صدرت، وبموجبها سيتم ترشيحي لإسبانيا، وطلب مني عدم الحديث حتى أُبلّغ رسمياً. وبطبيعة الحال، أسعدني الأمر ولم أكن حينها الوحيد بين زملائي الذي انتقل من سفارة إلى أخرى أو جرى التمديد له في الخارج. وبعد وقت قصير، اتصل بي وزير الخارجية الدكتور أبو بكر القربي ليبلغني القرار رسمياً.
استكملت إجراءات التوديع وعدتُ إلى صنعاء، أنتظرُ موافقة الحكومة الإسبانية. وأخبرني الدكتور الأرياني أنه حين عرض الوزير القربي قائمة أسماء السفراء الذين انتهت مدة خدمتهم في الخارج، أمر الرئيس باستدعائهم جميعاً وأنا من ضمنهم، إلاّ أنّه في اللحظة الأخيرة وقبل خروج الوزير، وجّهه صالح للبحث عن سفارة أخرى لي، إذ لم يكن يرغب في عودتي.
قضيتُ شهرين في صنعاء استغليتهما في الاقتراب من المشهد والتعرف على حقيقة ما يدور بعيداً من الرأي العام، وكنتُ ألتقي بطريقة شبه يومية الدكتور الأرياني في منزله بعد المقيل. شعرتُ حينها أن الأمور بدأت تأخذ منحى غير طبيعي، إذ إن لقاءاتي بالرئيس صالح أعطتني انطباعاً بأنه لم يعد مهتماً بالتفاصيل وبدى واثقاً من قدرته على تجاوز محاولات "اللقاء المشترك" للضغط عليه جماهيرياً.
وتزامن هذا مع بداية تصاعد الشكوك عند اللواء علي محسن (نائب الرئيس حالياً) بأنّ صالح صار أكثر جدية في سعيه إلى تمهيد الطريق أمام نجله أحمد ليخلفه، ما أثار حفيظة كثيرين من الذين كانوا يرون في الأمر حاجزاً صعباً أمام طموحاتهم، وبالذات الشيخ حميد الأحمر الذي كانت علاقته الشخصية قد ساءت مع صالح بعد "معاهدة جدّة" لترسيم الحدود بين اليمن والسعودية عام 2000، وازدادت تدهوراً قبل وبعد الانتخابات الرئاسية في 2006، وسأعود لذلك الأمر في حديث مستقل.
في تلك المرحلة، كانت إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما تمارس ضغوطاً متصاعدة على عدد من الدول العربية لإدخال إجراءات جذرية تزامنت مع حراك شعبي يطالب برحيل الأنظمة الجمهورية التي شاخت قياداتها، وكانت تونس بداية الحصاد برحيل الرئيس زين العابدين بن علي، ثم مصر، فليبيا وبعدها اليمن.
وللحديث بقية.