ملخص
متى بدأ ظهور منظمات المجتمع المدني في العالم العربي؟ وما هي أعدادها؟ وما أبرز التحديات التي تواجهها؟ وهل تجد تلك المنظمات قبولاً في المجتمعات؟
منظمات المجتمع المدني في العالم العربي ظاهرة ليست جديدة، نسبيا. لكن التداعيات الناجمة عن هذه الظاهرة، خصوصا في العقود الثلاثة الأخيرة هي الجديدة، لجهة التفاعل السلبي أو الإيجابي بين الحراك الاجتماعي والمحددات الحكومية.
بدت الأطر والهيئات المنتمية إلى ما يسمى المجتمع المدني في مختلف الدوال العربية، موضوع اتهام مباشر أو موارب، يتعلق بحقيقة الأدوار التي تقوم بها، والأهداف التي تسعى إليها، والارتباطات التي تنحو بها في هذا الاتجاه أو ذاك، فضلا عن مسائل تتعلق بالتمويل الذي يوصف بأنه "مشبوه" والأفكار التي توصم بـ"الغرابة" أو "التغريب" والسلوك الذي يدمغ بأنه يتعمد الإساءة إلى وحدة المجتمع واستقراره. وقد اشتدت تلك الاتهامات وتضاعفت مع موجة ما سمي بـ"الربيع العربي" وما نجم عنها من سقوط وصعود...
بطبيعة الحال فإن الهيئات المعنية تحاول رد الاتهامات التي تطالها بشتى السبل والحجج وبتحميل كل من وما يصطف خارج مواقعها مسؤولية التردي العام، لكن بين السهام المتضادة تزداد الصورة تعقيدا.
هذا التحقيق الشامل عن منظمات المجتمع المدني في العالم العربية يكشف ما لها وما عليها، في كل دولة على حدا.
فمتى بدأ ظهور منظمات المجتمع المدني؟ وما هي أعدادها؟ وما أبرز التحديات التي تواجهها؟ وهل تجد تلك المنظمات قبولاً في المجتمعات؟
مصر... الجمعيات الأهلية حاضرة منذ 200 عام
في مايو (أيار) الماضي، أصدر الرئيس المصري قراراً بإنشاء تحالف وطني للعمل الأهلي الذي يضم 36 من مؤسسات المجتمع الأهلي المصرية ومؤسسات حكومية وخاصة، ليكون مظلة رسمية لكبرى الجهات العاملة في ذلك المجال، وذلك بعد عامين من إطلاق التحالف الذي يهدف إلى تعزيز جهود التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وبحسب مسؤوليه فقد قدم خدمات لنحو 20 مليون مواطن منذ مارس (آذار) 2022.
لكن صورة العمل الأهلي في مصر أكبر من تحالف كبار منظمات المجتمع المدني، فعلى امتداد الجمهورية توجد 52 ألف جمعية أهلية، وفق الأرقام الرسمية، تختلف نشاطاتها بين مساعدة الفقراء والخدمات التعليمية والصحية، والتوعية السياسية، إضافة إلى الجمعيات التابعة لمؤسسات دينية سواء إسلامية أو مسيحية، وجميعها تخضع لإشراف وزارة التضامن الاجتماعي.
ووفق المادة 75 من الدستور المصري الصادر عام 2014، يحق للمواطنين تكوين الجمعيات والمؤسسات الأهلية بمجرد الإخطار، على أن تمارس نشاطها بحرية من دون تدخل من الجهات الإدارية سواء بحلها أو حل مجلس إدارتها، فيما حظر الدستور إنشاء أو استمرار جمعيات أو مؤسسات أهلية يكون نظامها أو نشاطها سرياً أو ذا طابع عسكري أو شبه عسكري.
تاريخ العمل الأهلي
الجمعيات الأهلية في مصر كانت أولى تجاربها عام 1821 بإطلاق الجمعية اليونانية في الإسكندرية، وتبعها إنشاء جمعيات علمية مثل "جمعية مصر" للبحث في تاريخ الحضارة المصرية عام 1859، والجمعية الجغرافية عام 1875. وبعد ذلك ظهرت جمعيات ذات طابع ديني مثل الجمعية الخيرية الإسلامية عام 1878 وجمعية المساعي الخيرية القبطية عام 1881. وفي مطلع القرن الـ20، ازداد نشاط المجتمع المدني إلا أن انطلاقته الحقيقية جاءت عقب إصدار دستور 1923 وصدور أول قانون يعترف بالجمعيات في 1925، إذ ارتفع عدد منظمات المجتمع المدني من 159 جمعية بين 1900 و1924، إلى 2000 جمعية عام 1950، وفق تقرير لمؤسسة "ماعت" للسلام والتنمية وحقوق الإنسان، صادر في مايو 2016. وأسهم في ذلك النمو إنشاء وزارة الشؤون الاجتماعية عام 1939 التي عملت على تشجيع الجمعيات الخيرية والمؤسسات الاجتماعية، مما ساعد في توسيع نشاطها وزيادة عددها. وشهدت تلك الفترة إطلاق كثير من المؤسسات ذات التأثير حتى الآن.
الحراك السياسي والاجتماعي الذي اتصفت به عقود الملكية في مصر انعكس تماماً بعد ثورة يوليو (تموز) 1952 وحل جميع الأحزاب وسيطرة التنظيم والحزب الواحد على جميع النواحي الاجتماعية والاقتصادية، إضافة إلى إصدار قانون عام 1964 جعل الجمعيات الأهلية خاضعة لسيطرة الحكومة، مما قلص من نشاطها للتركيز على العمل الخيري فقط.
وفي أول عقدين من عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، تضاعف عدد الجمعيات الأهلية لتصل إلى نحو 16 ألف جمعية، وتزايد عملها في القضايا الاجتماعية والاقتصادية، لكن مع بداية الألفية صدر قانون عام 2002 الذي فرض قيوداً على جمع التبرعات، وسمح لوزارة الشؤون الاجتماعية بحل أي منظمة من دون العودة للقضاء، في حال اتهامها بممارسة أنشطة غير قانونية، ورفضت الحكومة كذلك تسجيل بعض الجمعيات، بحسب دراسة للمركز "الديمقراطي العربي" وهو مؤسسة بحثية مستقلة. وبرز دور قادة الجمعيات الأهلية ذات الطابع السياسي في انتفاضة الـ25 من يناير (كانون الثاني) 2011، وخلال الأيام التي سبقت سقوط نظام مبارك ظهرت اتهامات لبعض نشطاء المجتمع المدني المشاركين في التحركات بـ"العمالة وتلقي تدريبات في الخارج".
وزاد عدد منظمات المجتمع المدني بنسبة نحو 50 في المئة في الأعوام الثلاثة التي تلت انتفاضة يناير، إذ بلغ عددها 46 ألف منظمة في 2014، ارتفاعاً من 31 ألفاً عام 2011.
التمويل الأجنبي
أكبر توتر بين منظمات الدولة وجهات المجتمع المدني شهدته فترة الـ18 شهراً من حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة بعد تنحي مبارك، في القضية المعروفة إعلامياً بـ"التمويل الأجنبي" حين اتهمت السلطات في أكتوبر (تشرين الأول) 2011 مسؤولين مصريين وأجانب في كبرى منظمات المجتمع المدني ذات الطابع السياسي بـ"العمل من دون ترخيص، والحصول على تمويل من الخارج من دون الخضوع للرقابة، ودعم حملات انتخابية لممثلي أحزاب سياسية وحشد ناخبين للانتخابات البرلمانية بغير ترخيص". وأثارت الاتهامات تنديداً دولياً واسعاً وأقفلت بعض المنظمات الأجنبية فروعها في مصر، وظلت التحقيقات والإجراءات القضائية جارية حتى مارس الماضي، حين أغلقت الدعوى التي شملت 85 منظمة مجتمع مدني، وذكرت المحكمة أن لا وجه لإقامة الدعوى "لانتفاء الجريمة وعدم كفاية الأدلة".
القانون الجديد
ومع انتهاء مرحلة الانتقال السياسي وتولي الرئيس عبدالفتاح السيسي، عملت الحكومة على تقنين العمل الأهلي، فأصدرت قانون تنظيم العمل الأهلي عام 2019 الذي اتهمه منتقدون بتعزيز تحكم الدولة في مؤسسات المجتمع المدني وتحديد مجالات عملها وفرض قيود على إجراءات تلقي التمويل، لكن آخرون رأوا في القانون مكاسب مثل إجازة تأسيس الجمعيات بالإخطار وليس التصريح، وعدم جواز حلّها سوى بحكم قضائي عند ارتكاب مخالفات منها الحصول على أموال من جهة أجنبية بالمخالفة للقانون، أو التعاون مع جهة أجنبية من دون الحصول على موافقة.
وحدد القانون مجالات عمل الجمعيات الأهلية في "مجال تنمية المجتمع بما يراعي الخطط التنموية للدولة وحاجات المجتمع"، وحظر عليها العمل في المناطق الحدودية "إلا في المناطق التي يصدر بخصوصها قرار من رئيس الوزراء، شرط أن تحصل على ترخيص بتنفيذ تلك الأعمال من الجهة الإدارية".
كذلك، قال الرئيس المصري عام 2022 إن المجتمع المدني "شريك أساسي مهم في عملية تعزيز وحماية حقوق الإنسان بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ونشر الوعي بحقوق الإنسان في المجتمع، ونشر ثقافة العمل التطوعي"، ودعا لاحقاً إلى مناقشة التحديات التي تواجه المجتمع المدني في مصر.
تصنيف الجمعيات
وتختلف مهمات منظمات المجتمع المدني القائمة حالياً بين جمعيات للخدمات الاجتماعية مثل محو الأمية وخدمات طبية، ومعظمها ذات طابع إسلامي ومسيحي، فضلاً عن الجمعيات التنموية التي تعمل على مكافحة الفقر وتطوير التعليم، ثم الجمعيات الحقوقية المعنية بحماية البيئة والدفاع عن المرأة وتعزيز حقوق الإنسان.
وتصنف أستاذة العلوم السياسية في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية هويدا عدلي، منظمات المجتمع المدني وفق الحجم ونطاق العمل إلى ثلاثة أقسام، أولها الجمعيات الصغيرة التي لا تخلو منها قرية وتميل بالأساس إلى العمل الخيري تنشأ من قبل عائلات، وكثير منها ذو صبغة دينية، وتحول بعضها إلى وكلاء لبعض المنظمات الخيرية الكبرى، إضافة إلى الجمعيات المركزية على مستوى الجمهورية مثل بنك الطعام والجمعية الشرعية وجمعية أنصار السنة المحمدية وجمعية الأورمان والهيئة القبطية، فضلاً عن الجمعيات المتوسطة الحجم التي تتركز في الغالب ضمن المدن.
تحديات وعقبات
وذكرت دراسة صادرة عن المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية أنه لا يزال هناك عدد من العقبات التي تواجه العمل الأهلي في مصر، أولها التحديات القانونية إذ يطالب بعض الحقوقيين بإلغاء اعتبار أموال الجمعيات في حكم الأموال العامة وإخضاعها لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات.
ومن أبرز التحديات التي تواجه منظمات المجتمع المدني ما يسمى "توفيق الأوضاع" الذي باتوا يطالبون به بعد صدور قانون عام 2019، ويعني تسجيل الأوراق في منصة خاصة بوزارة التضامن الاجتماعي، ومددت الحكومة مهلة التسجيل مرات عدة، وتواجه الجمعيات خطر الحل في حال عدم توفيق الأوضاع. وفي يونيو (حزيران) 2023 قالت الوزارة إن نحو 36 ألف جمعية تقدمت بأوراقها من بين 52.5 ألف مؤسسة أهلية على مستوى الجمهورية.
وترى دراسة المركز المصري للفكر أن عدد الجمعيات المتزايد لا يتناسب مع الأدوار القائمة على أرض الواقع وإسهاماتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إضافة إلى أن هناك بعض التراكمات السلبية في أذهان المواطنين عن العمل الأهلي "بسبب الدور المشبوه الذي قامت به بعض الجمعيات الأهلية عام 2011، فاستغلت الأموال التي حصلت عليها من الخارج في أعمال غير قانونية"، وفق نص الدراسة التي دعت منظمات المجتمع المدني إلى تحسين صورتها الذهنية لدى المواطن المصري، كما حثت على ترسيخ ثقافة حقوق الإنسان بالشراكة بين الدولة والمجتمع المدني، والتمسك بالحياد السياسي والديني الذي يفرضه القانون على طبيعة العمل الأهلي.
وبلغ حجم المنح والتبرعات المقدمة إلى الجمعيات والمؤسسات خلال 2024 ما يقارب 9 مليارات جنيه من التمويل المحلي و4 مليارات جنيه من التمويل الدولي، تم توجيهها إلى مشاريع تنموية في مجالات عدة منها تعليمية وبيئية وصحية وغيرها، وفق تصريحات لوزيرة التضامن الاجتماعي نيفين القباج إلى صحف محلية.
اليمن... حاجة تاريخية إلى منظمات مدنية
في ظرف يتطلب تفعيلاً تاريخياً لمهامها التي أنشئت من أجلها وحصلت بموجبه على تمويلات محلية وإقليمية ودولية يواجه عمل المنظمات المدنية في اليمن النقد ونقص الثقة إزاء المهام المعلنة لعملها واتهامها بالتقصير والغياب التام أحياناً في بلد يعيش مرحلة حرب مدمرة تسببت في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم.
فيما تتعلل المنظمات بجملة من الأسباب أبرزها نقص التمويل وسلسلة العراقيل التي تسببت فيها سلطات الأمر الواقع كما هي الحال بالشروط التي تفرضها جماعة الحوثي في العاصمة صنعاء والمناطق الخاضعة لسيطرتها، إضافة إلى جو الحرب العام الذي شق سلطة الدولة وتشظي المنظومة السياسية والاقتصادية والإدارية للبلاد وتعدد جهات القرار.
ومع أن ظهور منظمات المجتمع المدني بصورتها الحالي لم يتم إلا بعد أن شهد اليمن تحوله الديمقراطي الأول عقب توحد شطري اليمن عام 1990، إلا أن عمرها القصير أسهم في حالة الانفتاح تجاه العمل السياسي والمدني وسمح للجميع بتأسيس الأحزاب والتنظيمات السياسية، وكفل القانون 66 لعام 1991 حق تكوين الأحزاب والتنظيمات، إلا أنه منذ سيطرة ميليشيات الحوثي على العاصمة صنعاء عام 2014، عملت على تعقيد منح تراخيص العمل للمنظمات ومحاصرتها وأسسوا لمراقبة عملها مجلساً أعلى للإدارة وتنسيق الشؤون الإنسانية والتعاون الدولي، ومهمته التدخل المباشر في رسم سياسة عمل المنظمات وفرقها، بالتالي لم يعد بمقدور أية منظمة في مناطق سيطرتها العمل من دون ترخيص مسبق بكامل الشروط.
هذا الواقع فرض قيوداً حدت من نشاط هذه المنظمات في ظل الحاجة الماسة إلى عملها وتنفيذ التزاماتها الدولية تجاه الاتفاقات والمواثيق التي وقعتها وصدقت عليها وأصبحت ملزمة بتنفيذها، وخصوصاً المتعلقة منها بالجوانب الإنسانية، في ظل توقف دفع مرتبات الموظفين العموميين وتضاعف النزوح الداخلي من دون أية معالجات حكومية فاعلة.
وبحسب الباحث السياسي ذياب الدباء ظهرت منظمات المجتمع المدني في جنوب اليمن مطلع القرن الـ20 كمنتديات ثقافية ورياضية أو نقابات عمالية فيما ظهرت شمال اليمن مع قيام الجمهورية (1962) وكانت بداياتها بالجمعيات التعاونية الزراعية مطلع السبعينيات.
وفي ظل دولة الوحدة نشأت عشرات آلاف المنظمات في كل المجالات وصدرت قوانين ولوائح لتنظيم عمل هذه المنظمات وترخيصها رسمياً أبرزها القانون رقم 1 لعام 2001 واللائحة التنفيذية، وتأتي التنمية المحلية والاجتماعية والتدخلات الإغاثية شاملة الأمن الغذائي والتأهيل في طليعة اهتماماتها.
دور محدود
يرى الدباء أن أدوار هذه المنظمات "محدودة وتعتمد بصورة كبيرة على وفرة وانسيابية الدعم من المانحين والمنظمات الدولية، ويكاد ينحصر دورها في الشراكات التنفيذية الميدانية المحلية، في حين تواجه باتهامات من أبرزها الفساد المالي والإداري وغياب الشفافية والأولويات بحسب احتياج المجتمع". ويشير إلى أن نوعية القبول والانتشار والفاعلية لديها تعتمد على وجود الدولة، فهناك علاقة عكسية بينهما، فعندما تكون مؤسسات الدولة حاضرة وفاعلة ينحسر دور المنظمات، وفي حال غياب مؤسسات الدولة فإن المنظمات تنتشر بكثافة.
نسبة من التمويل
في محاولة لاستقراء جملة العراقيل التي تحول دون تنفيذ مهامها على رغم الحاجة الماسة إليها يقول الباحث في شؤون منظمات المجتمع المدني عبدالرزاق العزعزي إن المنظمات تواجه خطابات كراهية وعملاً ممنهجاً استهدف مهامها لأسباب متعددة، كمحاولة الضغط عليها لتنفيذ اشتراطات "المجلس الأعلى للإدارة وتنسيق الشؤون الإنسانية والتعاون الدولي" الذي أسسه الحوثيون. ويوضح أن هذه الاشتراطات "تحد من قدرة المجتمع المدني على العمل وتفرض عليهم كثيراً من الأوامر منها حصولهم على نسبة من التمويلات وفرض توظيف أفراد منهم والحصول على موافقات حتى لعقد اجتماعات فريق العمل". ويضيف أن هذه الاتهامات التي تتعرض لها المنظمات "صبغت بطابع ديني وثقافي أصولي كمناهضة الاختلاط بين الجنسين ومحاصرة الغزو الثقافي والفكري وغيرها، وهي ثقافة كانت قد تبددت في اليمن خلال المرحلة التي سبقت سيطرة الحوثيين".
ومع إدارة الحوثيين غرفة عمليات تستهدف عمل المنظمات انتشرت الاتهامات في حقها ولم يسهم كثير من المنظمات، بحسب العزعزي، في تغيير الصورة النمطية المستحدثة التي ارتسمت تجاهها وأسهم الفساد المالي لغالب المنظمات في تكريس هذه الصورة كمنظمات تتلقى تمويلاً من أجل محاربة ثقافة المجتمع وتغييره نحو الأسوأ".
توطين العمل الإنساني
ومع الاتهامات التي تتلقاها في شأن التمويل والصرف، يقول العزعزي إن المنظمات الدولية المانحة التي تعلن الدعم تقوم بتقديمه من خلال تقاريرها السنوية، لكن غياب الشفافية لدى المنظمات المحلية في الكشف عن حجم التمويلات التي تحصل عليها وطريقة إنفاقها هو ما يثير كثيراً من التساؤلات التي تسببت في انعدام الثقة بين المستفيدين والقائمين على هذه المنظمات، وحتى الممول الدولي.
ورداً على حالة النقد العام الذي تواجه به مقارنة بجهودها المباشرة والملموسة على الأرض يقول منسق مبادرة توطين العمل الإنساني في اليمن حسين السهيلي يجب على المنظمات العاملة في اليمن استشعار دورها وتوحيد رؤيتها وتغيير الصورة السلبية عنها حتى تؤدي دورها التاريخي المناط بها.
ووفقاً لذلك طالب السهيلي الجهات الحكومية بأن تؤمن بدور منظمات المجتمع المدني كشريك حقيقي في بناء السلام والتنمية. وتطرق في مقال نشره على صفحته على "فيسبوك" إلى أهمية دور القطاع الخاص من خلال "الانتقال من الأعمال الخيرية التي لا تتجاوز الصدقة والإحسان إلى تفعيل المسؤولية الاجتماعية التي تلمس نتائجها المجتمعات المحلية". كما أن على "المانحين والمنظمات الأممية والدولية أن تدرك أن تحسين فاعلية وأثر العمل الإنساني وكفاءته لن يتحقق إلا بتوطين العمل الإنساني في اليمن من خلال أجندة والتزامات التوطين في إطار ’الصفقة الكبرى‘ و’الميثاق من أجل التغيير‘ وربط الاستجابة الإنسانية بالتنمية والتمكين الاقتصادي وتعزيز دور المنظمات المحلية في منظومة العمل الإنساني".
ومن بين أبرز العراقيل التي تواجه عملها يقول السهيلي إن استمرار منظمات المجتمع المدني في "تأدية دور الشريك المنفذ لبرامج ومشاريع المنظمات الأممية والدولية والاكتفاء بتسيير أعمالها بالقليل من الفتات وعجزها عن الوصول والحصول على التمويل المباشر واعتمادها على المانحين في تحديد الأولويات والتدخلات كلها تمثل تحديات حقيقية تعوق استدامة المنظمات المحلية".
تونس... من الطفرة إلى مخاوف التضييق
في تونس، يعود تأسيس أولى جمعيات المجتمع المدني لأواخر القرن الـ19 وبدايات القرن الـ20، وظهرت أول جمعية تونسية وهي "الجمعية الخلدونية" عام 1896، ثم جمعية "قدماء المدرسة الصادقية"، وهاتان جمعيتان ثقافيتان.
وخلال الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الماضي، شهدت تونس ميلاد غالبية المنظمات الكبرى التي ما زالت موجودة وفاعلة إلى اليوم مثل "الاتحاد العام التونسي للشغل" (1947) و"الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة" (1948) و"الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري" (1949) و"الاتحاد العام لطلبة تونس" (1952).
وعرف العمل السياسي كذلك نقلة نوعية تمثلت في تأسيس أول حزب سياسي تونسي عصري وهو "الحزب الدستوري الحر" (1920) الذي كان بمثابة تتويج للحراك الفكري والسياسي للنخب التونسية في فترة ما قبل الحرب.
الاحتلال الفرنسي أنعش المجتمع المدني
وبحسب أستاذ التاريخ المعاصر في الجامعة التونسية عبدالجليل بوقرّة، فإن "المجتمع التونسي إلى حدود الاحتلال الفرنسي في أواخر القرن الـ19، كان مجتمعاً قبلياً، إلا أن الاحتلال الفرنسي لتونس شكّل البداية الفعلية والحقيقية للمجتمع المدني عن طريق الفرنسيين والإيطاليين والمالطيين الذين كوّنوا جمعيات ثقافية ورياضية وجمعيات خيرية ونقابات عمالية".
ويضيف بوقرّة في تصريح إلى "اندبندنت عربية" أن "المنعرج في مسار تاريخ المجتمع المدني في تونس كان بعد الحرب العالمية الأولى، إذ بادر الفرنسيون في بداية القرن الـ20 بتأسيس فرع ’الكونفيدرالية العامة للشغل‘ في تونس، عن طريق اشتراكيين فرنسيين، وانضم عدد من التونسيين إلى هذه النقابات، مما ساعد محمد علي الحامي في ما بعد على إنشاء وتأسيس ’جامعة عموم العملة التونسيين‘ وهي أول منظمة عمالية تونسية تأسست في ديسمبر (كانون الأول) 1924".
ويلفت إلى أن بدايات تأسيس الجمعيات في تونس تأثرت بالطابع القبلي المحافظ للمجتمع التونسي، فكانت تسمياتها مرتبطة بالدين مثل "الكشافة الإسلامية" و"الاتحاد النسائي الإسلامي التونسي" عام 1936 و"المستقبل الإسلامي" وهي جمعية رياضية في العاصمة أصبح اسمها اليوم "مستقبل المرسى".
الاستقلال قيّد حركة المنظمات
بعد الاستقلال، لم تكُن الدولة الوطنية تسمح بالنشاط إلا للحزب الحاكم لأنها ترى أن مفتاح تحقيق التنمية هو القضاء على رواسب الاستعمار والاستقرار السياسي، وعلى الجميع أن ينضووا في سياسات الدولة الواحدة، لذلك انحسر دور المجتمع المدني في عهد الزعيم الحبيب بورقيبة (1956 – 1987).
واصطدم "الاتحاد العام التونسي للشغل" مع السلطة في عهدي الرئيسين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، كأحداث الخبز 1978 و1983.
وبالتوازي، نشأت الحركة الحقوقية التونسية، كمعظم حركات حقوق الإنسان في العالم، في أواسط السبعينيات من القرن الماضي، مع ولادة "الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان" رسمياً في مايو (أيار) 1977، وهي أول جمعية من نوعها تظهر في أفريقيا والوطن العربي، في ظل نظام الرئيس السابق الحبيب بورقيبة الذي قلّص كل أشكال المعارضة تدريجاً، ثم تطورت الحركة في ظل نظام الرئيس زين العابدين بن علي عام 1987 الذي اتسم بالتضييق على الحريات والحقوق، بحسب ناشطين حقوقيين.
الطفرة بعد 2011
لم يكُن مسار المجتمع المدني في تونس عبر التاريخ المعاصر مساراً خطياً، بل تغيّرت ملامحه من حقبة سياسية إلى أخرى، وشكلت لحظة الـ14 من يناير (كانون الثاني) 2011، المنعرج في هذا المسار فشهد المجتمع المدني طفرة في عدد الجمعيات والمنظمات وأيضاً في الأحزاب السياسية التي تجاوز عددها الـ200 حزب بينما تعدّ المنظمات بالآلاف تنشط في ميادين مختلفة ثقافية وفكرية ونقابية وخيرية وحقوقية.
وسمح مناخ الحرية وقتها بظهور جمعيات ومنظمات تُعنى بقضايا كان من المستحيل الحديث عنها مثل الجمعيات التي تهتمّ بمراقبة الانتخابات والحملات الانتخابية، ومراصد لمحاربة الفساد، وجمعيات تراقب العمل الحكومي والبرلماني والرئاسي، وجمعيات تدافع عن حقوق الأقليات العرقية كـ"الأمازيغ"، وأخرى تدافع عن الحريات الجنسية وحقوق المثليين.
جدل حول تعويض المرسوم 88
تمثّل مكانة المجتمع المدني في المشهد العام، مؤشراً حقيقياً إلى الفرز بين الأنظمة الديمقراطية والأنظمة الاستبدادية من خلال محاولات نسف هذه الأجسام الوسيطة ومنعها من النشاط حتى لا تقوم بأدوارها الرقابية والمواطنية، أو عبر دعم وجودها وتوفير الظروف الملائمة للقيام بمهماتها في دعم مكاسب الديمقراطية، وفق معنيين بحقوق الإنسان.
وشكّل المرسوم 88 لعام 2011 الذي صاغته الهيئة العليا لتحقيق أهداف الانتفاضة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، الإطار القانوني لتنظيم تكوين ونشاط الجمعيات في تونس عوضاً عن القانون المنظم لها قبل الانتفاضة.
اليوم، يسود جدل كبير في تونس بين السلطة وممثلي المجتمع المدني، حول مشروع قانون جديد تراه السلطة ضرورياً لتنظيم عمل المنظمات والجمعيات، بخاصة تلك التي لها ارتباطات في الخارج وأخرى تشوبها شبهة الإرهاب وتبييض الأموال، بينما تراه غالبية المنظمات محاولة حقيقية لتقييد نشاط المجتمع المدني الذي بات في تقديرهم "يزعج السلطة الراهنة".
وتطالب منظمات عدة السلطة بـ"احترام حرية عمل المجتمع المدني واستقلاليته وبالكف عن التضييقات التي تستهدف نشطاءه وشركاءه".
تشديد المراقبة على التمويل
وعبّر أمين غالي، الناشط في المجتمع المدني ورئيس مركز "الكواكبي" للتحولات الديمقراطية عن تمسكه بالمرسوم 88، لافتاً إلى أن "المسؤولية مشتركة بين مؤسسات الدولة وبعض الجمعيات التي ترتكب تجاوزات".
ويقترح على الدولة أن "تشارك مع منظمات المجتمع المدني في تحسين شروط تطبيق المرسوم 88 بدلاً من تعويضه بقوانين جديدة تحدّ من الحريات الواردة في المرسوم المذكور".
وبحسب التسريبات، يتضمن مشروع القانون الجديد تشديداً في التكوين وفي التمويل وفي الرقابة، وتشديداً في العقوبات وإعطاء سلطة واسعة للسلطة التنفيذية في مراقبة المجتمع المدني ومعاقبة الجمعيات.
ويرى أمين غالي أن "دور المجتمع المدني تقلص اليوم في تونس"، مشيراً إلى أن "الحل ليس في العقاب الجماعي للمجتمع المدني الذي اضطلع بأدوار وطنية واقتصادية مهمة في البلاد على غرار الحوار الوطني ".
ويذكر أن الرباعي الراعي للحوار الوطني (الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وهيئة المحامين) تحصّل عام 2014 على جائزة نوبل للسلام بعدما "جنّب تونس الانزلاق إلى حمام دم إثر تتالي الاغتيالات السياسية وتنامي الإرهاب".
امتداد للأحزاب والاستخبارات
في المقابل، ما انفكّ رئيس الجمهورية قيس سعيد يشير إلى شبهات حول تمويل عدد من الجمعيات، معتبراً بعضها امتداداً للأحزاب وللاستخبارات الأجنبية وداعياً القضاء إلى القيام بدوره "ضد من استباحوا الدولة وعبثوا بمقدرات الشعب التونسي" في إشارة إلى بعض الجمعيات المدعومة من الخارج.
ومن جهتها، أعربت النائبة فاطمة المسدي في تصريحات صحافية عن اعتقادها بأن "مشروع القانون الجديد ينظم العمل الجمعياتي بتونس، ويهدف إلى إرساء دولة القانون"، مضيفة أن القانون سيمكّن من التحكم في ما أسمته "صنبور الأموال المشبوهة التي تدخل من باب بعض الجمعيات التي تكونت بعد يناير 2011"، وشددت على أنه حان الوقت لمراقبة طرق تمويلها.
25 ألف جمعية ومنظمة
ويشار إلى أن ما بين ثلاثة وخمسة في المئة من التونسيين لهم انتماءات إلى منظمات المجتمع المدني، وأن نصف المجتمع له نظرة احترام للمنظمات والجمعيات في تونس، وبحسب بيانات رسمية نشرها مركز إفادة للجمعيات (مركز الإعلام والتكوين والدراسات والتوثيق حول الجمعيات) توجد في تونس اليوم وحتى الـ17 من مايو 2024، 25 ألفاً و37 جمعية، تتوزع بين مؤسسات ثقافية فنية ورياضية ونسائية، وتستحوذ محافظة تونس على 20 في المئة من الجمعيات تليها صفاقس ونابل وأريانة.
وبحسب دراسة أنجزتها الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، فإن تونس قد تخسر مجتمعها المدني في حال تم القبول بهذا القانون الجديد الذي يحدّ من الموارد المالية للمنظمات والجمعيات، وربما تخسر نحو 30 ألف فرصة عمل بصورة مباشرة و100 ألف فرصة عمل غير مباشرة، بينما تواجه البلاد أزمة اقتصادية واجتماعية حادة.
العراق... مراحل النمو والنكسة والعودة
مرت منظمات المجتمع المدني في العراق بمراحل نمو متسارع بعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921، لا سيما أنها تزامنت مع خروج العراق من الهيمنة العثمانية التي سيطرت طيلة خمسة عقود مستفيدة من ربط العراق بالعالم. وقد اتسع عدد المنظمات والمجالات التي تعمل بها والتي تركز بعضها على العمل الإنساني والتنظيمات العمالية. نكسة هذه المنظمات كانت إبان تسلم حزب البعث في العراق الحكم عام 1968 ليتقلص وجودها إلى عدد محدود جداً برقابة حكومية وباتهامات حكومية لكل منظمة تنشأ بـ"العمالة لجهات أجنبية".
وعادت المنظمات غير الحكومية بقوة للعمل في العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003، ليتم تأسيس دائرة خاصة معنية بتنظيم عمل تلك المنظمات وتسجيلها، مما أوجد قاعدة بيانات خاصة بتلك المنظمات التي ناهز عددها 6000 منظمة عاملة في العراق بجميع المجالات عام 2024 الحالي.
بينما اختلف تمويل هذه المنظمات بين تبرعات الأفراد والتمويل الخارجي لا سيما المنظمات الدولية الكبيرة، التي اهتمت في مجال حقوق الإنسان والتطوير الإعلامي وتنمية قدرات الشباب ومجال حقوق المرأة ومجالات البيئة.
5500 منظمة مجتمع مدني
بين المتحدث باسم الأمانة العامة لمجلس الوزراء حيدر مجيد أن عدد المنظمات غير الحكومية بلغ أكثر من 5500 منظمة، فيما أشار إلى أن غالبية المنظمات إنسانية.
وأضاف "عدد المنظمات غير الحكومية المسجلة رسمياً في الأمانة العامة لمجلس الوزراء تجاوزت 4500 منظمة عراقية تخصصية، إضافة إلى 1000 فرع لمنظمة أجنبية عاملة في العراق"، مشيراً إلى أن المنظمات الأجنبية العاملة بالعراق بحاجة إلى موافقات من وزارة الخارجية بينما تعمل المنظمات المحلية وفق ضوابط وقانون خاص لعملها وعلى كل منظمة أن تخضع لهذه الضوابط.
رقابة حكومية
وأشار إلى أن هناك رقابة حكومية في ما يخص الحسابات البنكية والإجراءات الأمنية الخاصة بعمل المنظمة وإجراءات عدم المحكومية لأعضائها كي تعطى إجازة لعملها بحسب القانون الموضوع لعمل المنظمات، على أن تكون هناك مراقبة سنوية وتقديم حسابات ختامية عن مصدر الأموال التي تأتي لها.
المجالات الإنسانية
وعن مجال عمل تلك المنظمات، بيّن مجيد أن المنظمات بغالبيتها تعمل في المجال الإنساني وهناك فرق تطوعية بادرت للعمل وتقديم المعونة بعد التفجيرات في العراق.
مراحل عدة
وأشار الكاتب والصحافي باسم الشرع إلى أن عمل المنظمات مرَّ بمراحل عدة بين ازدهار وكبوة، وإلى تأثير تلك المنظمات في المجتمع العراقي.
مضيفاً "عمل منظمات المجتمع المدني بالعراق مر بمرحلتي ازدهار الأولى في بداية تأسيس الدولة العراقية الحديثة في عشرينيات القرن الماضي حتى عام 1958، وكانت هذه المرحلة حافلة بدخول منظمات دولية وتأسيس منظمات عراقية جديدة وإنشاء فرق تطوعية".
تراجع عمل منظمات المجتمع المدني
وأشار إلى أنه بعد انقلاب الـ14 من يوليو (تموز) 1958، بات تراجع هذه المنظمات لمصلحة العمل الحزبي، بحسب مرجعيات تاريخية، وبخاصة عندما كان هناك صراع حزبي وسياسي في الفترة التي أعقبت إسقاط عبدالكريم قاسم عام 1958 حتى عام 1963.
وبين أنه بعد عام 1963 حتى عام 2003 انتهى دور تلك المنظمات حتى أصبحت جميعها تابعة لحزب البعث ومن ضمنها نقابات العمال، مما أفقد الفرق التطوعية والعمل المدني الحقيقي محتواه، ثم انتهى العمل المدني والتطوعي المستقل وشبه المستقل.
ازدهار عمل المنظمات
وأوضح أنه بعد عام 2003، عاد عمل منظمات المجتمع المدني الدولي والمحلي بكثافة، وقد مر بمرحلتين، الأولى امتدت 10 أعوام من 2003 إلى 2013، وقتها كان هناك عدد هائل من المنظمات سواء مسجلة أو غير مسجلة.
وذكر أن بعد هذه الفترة انخفض العدد بسبب ضعف التمويل لا سيما أن تمويل غالبية المنظمات يعتمد على المعونات التي تقدمها المنظمات الدولية الكبيرة، وكذلك من قبل الحكومة العراقية التي خصصت موازنة محددة لمساعدة المنظمات غير الحكومية، لا سيما المنظمات التي نشأت في فترة الحكومات السابقة.
وعزا الشرع تراجع التمويل إلى الحرب التي خاضتها القوات العراقية ضد تنظيم "داعش". ولكن على رغم التراجع، فإن العمل المدني ما زال فاعلاً وهناك تنافس نقابي في العراق ولا تزال المنظمات مؤثرة.
قلة الدعم
وتحدث مدير منظمة "عين الموصل" الإنسانية أنس الطائي، عن قلة الدعم الذي تقدمه المنظمات الدولية لمنظمات المجتمع المدني، لافتاً إلى جهود ما وصفه بـ"المشاريع الوهمية" التي تقدمها بعض المنظمات.
وأضاف الطائي "ازدهر عمل المنظمات الإنسانية والمنظمات العاملة في مجال الإعمار والبيئة في مدينة الموصل بعد تحريرها من "داعش"، وكذلك إبان فترة التهجير والنزوح إذ إن عدداً منها تكفل بمهام إنسانية".
الدعم الدولي
وعن مصادر تمويل تلك المنظمات، قال إن تمويلها يتم عن طريق المتبرعين وكذلك دعم منظمات دولية، لافتاً إلى أن العاملين في تلك المؤسسات غالبيتهم من فئة الشباب الذين تبنوا مهام العمل التطوعي.
ولفت إلى أن غالبية المنظمات العاملة في الموصل تواجه قلة دعم ويقتصر عملها على حملات الإغاثة وعقد المنتديات، وأشار إلى أن المنظمات التي تعمل حالياً قليلة عما كانت عليه قبل أعوام بسبب قلة التمويل، فضلاً عن تركيز المنظمات العالمية الداعمة على مناطق أخرى من العالم مثل أوكرانيا.
السودان... منظمات المجتمع المدني إطار فضفاض
تشمل منظمات المجتمع المدني بحسب الأمم المتحدة، المنظمات التطوعية والشبكات والجمعيات والتنظيمات المهنية والفئوية مثل تنظيمات النساء والطلاب والمجموعات والحركات غير الحكومية وغير الربحية التي يُشكلها ناشطون في هذا المجال. وتتضافر جهود هذه المنظمات التي تعمل بصورة مستقلة عن الحكومة، لتعزيز مصالحها المشتركة أحياناً من خلال العمل الجماعي. وفي السودان يتسع هذا المصطلح لتنضوي تحت جناحه أيضاً الجماعات الصوفية والتنظيمات الدينية.ال
"أذرع الأحزاب"
تعدّ جذور وخلفية منظمات المجتمع المدني قديمة في السودان، وفي هذا الخصوص يقول أستاذ علم الاجتماع في الجامعات السودانية بهاء الدين مكاوي إنها "نشأت بداية كأذرع وواجهات لبعض الأحزاب السياسية السودانية في إطار صراع الأخيرة مع الحكومة الاستعمارية، لذا فقد نشأت مسيسة في البداية بسبب ارتباطها الوثيق بالأحزاب السياسية. وكان من المفترض أن تعمل هذه التنظيمات بعد الاستقلال على أن تكون مستقلة عن الأحزاب السياسية ولكن ذلك لم يحدث، مما باعد بينها وقواعدها من ناحية، وقاد إلى احتكاكات وصراعات في ما بينها على أساس سياسي محض مما أضعفها جميعاً، وجعلها تدور في فلك الأحزاب السياسية".
وأوضح الباحث محمد موسى أن "المجتمع المدني عبارة عن منظمات، مجال عملها متمايز عن عمل الدولة أي مستقلة عن سلطه الدولة وأن الشأن الاجتماعي مشترك بينهما وأن منظمات المجتمع المدني هي تجمعات بشرية تضم متطوعين وتقدم سلاسل من الخدمات التطوعية والخيرية إلى المحتاجين والمنتفعين من دون مقابل في ضوء مجموعة من التشريعات". وأضاف أن "شرائح واسعة من المجتمع السوداني تستفيد من هذه المهمات التطوعية، خصوصاً الشباب".
وعن دور تلك المنظمات في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، شرح موسى أنه "يتمثل في حاجة مفهوم المجتمع المدني إلى وضعه في سياقه الملائم والصحيح والقيام بدوره كاملاً في التنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلاد وكيفية توفير الآليات للتصدي للتحديات التي تواجه العمل التطوعي في السودان".
دور فاعل
هناك بروز واضح لدور منظمات المجتمع المدني الفاعل، لا سيما بعد إسقاط نظام الرئيس السابق عمر البشير، ولكن هذه المنظمات تعرضت لانتكاسة في ظل الحكومة الانتقالية. فقد كشف تقرير أطلقته منظمة المبادرة السودانية للتنمية "سوديا" عن مؤشر استدامة منظمات المجتمع المدني لعام 2021 في السودان، عن تراجع هذه المؤشرات لأسباب أهمها "الانقسام السياسي والاجتماعي في ظل الحكومة الانتقالية والشراكة بين المكونين المدني والعسكري". وأضاف التقرير أنه "بعد الإجراءات التي فرضها الفريق عبدالفتاح البرهان في الـ25 من أكتوبر (تشرين الأول) 2021، تدنّت مؤشرات استدامة المجتمع المدني بسبب تجميد الموارد المالية الموجهة إلى السودان من المانحين والداعمين الدوليين، مما انعكس سلباً على الموارد المتاحة للقطاع وتمويل عمليات التنمية في البلاد".
أما بعد الحرب، فاضطلعت المنظمات بأدوار في العمل الإنساني إلى جانب المنظمات الدولية ومنظمات الإغاثة، ولكن استمرار الحرب والتعدي على هذه المنظمات وعلى مستودعات المساعدات، عطلا عملها.
وفي السياق ذاته، كان رئيس لجنة طوارئ تحالف منظمات المجتمع المدني في السودان عادل عبدالباقي علي أكد في مارس (آذار) الماضي أن "الوضع الإنساني في جنوب كردفان خرج عن السيطرة، إذ نفدت كل المعونات ولا يزال الحصار مطبقاً هناك على رغم النداءات والاستغاثات".
وأضاف أن "المنظمات المدنية تبذل كل الجهد من أجل توفير ولو وجبة واحدة من البقوليات لآلاف الأسر في المنطقة"، موضحاً أن "ما يقارب 700 ألف طفل لا يجدون الطعام، مما أدى إلى إصابة غالبيتهم بحالات الأنيميا الحادة (فقرالدم الحاد) في ظل غياب تام لألبان الأطفال والأدوية، تحديداً لذوي الاحتياجات الخاصة منهم والذين يحتاجون إلى رعاية خاصة".
اقرأ المزيد
- المساعدات الأوروبية للسوريين تنفق عبر المجتمع المدني لا الحكومات
- محاولة منع الجمعيات مراقبة المال العام تزعج المجتمع المدني المغربي
- مخطط فلسطيني لتقييد الإعلام يثير غضب المجتمع المدني
- عودة الاهتمام بالمجتمع المدني في الجزائر... هل أفلست الأحزاب؟
- المجتمع المدني في تونس يحذر من خطورة "الوضع الاستثنائي" المتبع
- قواعد أوروبية صارمة تقيد إعانات الحكومات الأجنبية لشركاتها
- شهادة عامل إغاثة من غزة: لا أدري إن كنت سأبقى حيا
صورة سلبية
أما الباحثة في قضايا التنمية نعمات كوكو، فردّت الصورة السلبية للمجتمع المدني وسط المواطنين، إلى أنها "الصورة التي تكونت جزئياً كنتاج للدعاية الحكومية في عهد نظام البشير، أما الآن فيمكن للمجتمع المدني الاستفادة من تغيير العلاقة بينه والحكومة من الاستقطاب والعداء إلى التعاون الإيجابي".
وتلفت كوكو إلى أنه "إضافة إلى الفئات الاجتماعية غير المنظمة هيكلياً بالصورة التقليدية مثل النساء والشباب، هناك المجموعات المطلبية هي الأكثر تنظيماً مثل ’تجمع المهنيين‘ و’تجمع القوى المدنية‘ و‘لجان المقاومة‘ التي كانت تعبر عن مطالب فئوية مثل مقاومة نزع الأراضي والحق التاريخي فيها ولجان السدود وحق المواطنة في أقصى الشمال إلى شرق السودان. وقد انتظمت هذه المجموعات بأشكال متنوعة وعلى مستويات مختلفة بدءاً من القرية وصولاً إلى هيئات تنظيمية مركزية في صيغة شبكات، مما جعلها أكثر قوة وتأثيراً".
وعن الإطار القانوني والسياسي لعمل منظمات المجتمع المدني، أوضحت كوكو أن "النموذج السوداني يكمن تفرده في المفارقة الواضحة بين الدستور والقانون، فدستور السودان الانتقالي لعام 2005 يكفل في المادة (41) بصورة واضحة لا لبس فيها، الحق في التجمع وحرية التنظيم، وتنص المادة (39) كذلك على حرية التعبير والإعلام، ويعزز الدستور جملة الحقوق والحريات الواردة في وثيقة الحقوق، بما فيها الحق في التجمع وحرية التنظيم، بالنص في المادة (27) الفقرة (3) على اعتبار كل الحقوق والحريات المضمنة في الاتفاقات الدولية لحقوق الإنسان المصادق عليها من قبل جمهورية السودان جزءاً لا يتجزأ من وثيقة الحقوق". وأردفت أنه طرأت تغييرات على هذا الدستور بما يتماشى مع مصالح النظام السابق، فعمل على تعديلات بغرض تقليص عمل منظمات المجتمع المدني وتكبيل حرية حركتها.
شبهات تمويل
ظلت منظمات المجتمع المدني تعاني تضييقاً في التسجيل والترخيص وغالباً ما تحوم حولها شبهات التمويل الأجنبي، وتهم تتعلق بالفساد وعدم الشفافية، إذ حظرت السلطات السودانية في عهد البشير عدداً من منظمات المجتمع المدني، واتهمتها بـ"تلقي معونات أجنبية وتنفيذ مخططات ترمي إلى إطاحة النظام بالتنسيق مع القوى المعارضة في البلاد".
وبعد ضغوط مارستها المنظمات الدولية على الحكومة، قال وكيل وزارة العدل عصام الدين عبدالقادر "توجهات الحكومة على أن يتم النظر إلى كل المنظمات على قدم المساواة"، وأضاف أن "لا عزل لأي منظمة إذا التزمت الشفافية والاستقلالية والقوانين الوطنية".
وعن ذلك أوضحت نعمات كوكو أنه "نظراً إلى اعتماد كثير من منظمات المجتمع المدني في تمويل جزء كبير من أنشطتها على التمويل والمنح من مصادر أجنبية، اشترط قانون العمل الطوعي والإنساني في المادة (7) أن يكون تلقي المنح والتمويل عبر وثيقة مشروع تجاز من قبل مفوضية العمل الطوعي، كما يُمنع تلقي أموال أو منح من الخارج أو من شخص أجنبي في الداخل أو من أي جهة أخرى، إلا بموافقة الحكومة".
وأردفت أنه "وفقاً لذلك تعاني منظمات وطنية عدة تعقيدات كثيرة تصاحب الموافقة على التمويل من قبل الجهات الحكومية المتعددة. وإذا علمنا أن غالبية المشاريع الإنسانية لا تتعدى فترتها العام، فإن طول مدة الحصول على موافقة الجهات الحكومية، يمثل معوقاً أساسياً أمام منظمات المجتمع المدني في ممارسة عملها".
الجزائر... قيود قانونية ونقص في التمويل
تواجه منظمات المجتمع المدني في الجزائر تحديات جمة تعرقل جهودها في تحقيق التنمية وتعزيز حقوق الإنسان، بحسب ناشطين حقوقيين. فمن القيود القانونية الصارمة إلى نقص التمويل والدعم، تكافح هذه المنظمات لتجاوز العقبات وضمان تأثير فاعل في المجتمع، كقوة مستقلة وفك الارتباط عن السلطة والأحزاب التي غالباً ما كانت تستغل الجمعيات لتنفيذ مصالحها.
رصيد تاريخي
وتعود نشأة المجتمع المدني في الجزائر لفترة الحكم العثماني حين عرفت المدن الكبرى ازدهاراً كبيراً للحياة الأهلية، خصوصاً في مجال التعاونيات ورابطات مختلف المهن والحرف إلى جانب الزوايا الدينية، بينما ظهرت الجمعيات بشكلها الحديث مع قانون الأول من يوليو (تموز) 1901 الخاص بالجمعيات، واستغل الجزائريون عدم اشتراط الجنسية الفرنسية أو التمتع بجميع الحقوق المدنية لتأسيس جمعيات تضم جزائريين فقط، عكس ما كان معمول به قبل ذلك حين أقصى قانون التجنيس (سيناتونس كونسيلت 1865) وقانون الأهالي (1871) الجزائريين من منظومة الحقوق السياسية والمدنية.
وكانت السلطات الاستعمارية الفرنسية تشجع الجمعيات التي تروج لأطروحاتها وتخدم مصالحها، ولم تبدأ الجمعيات الجزائرية بالظهور إلا بعد عام 1930، وتركز نشاطها حول موضوع الهوية الثقافية والإصلاح الديني والتربوي، فأنشئت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي أسسها عبدالحميد بن باديس عام 1931 والكشافة الإسلامية والجزائرية التي أسسها أحمد بوراس في 1935، كما نشأت جمعيات ذات طابع سياسي مثل جمعية "أحباب البيان" و"حركة انتصار الحريات الديمقراطية" التي رفعت مطالب متنوعة وكان لها حضور شعبي وميداني.
واستمر العمل الجمعوي في الجزائر خلال حرب التحرير (1954-1962)، وتم إنشاء الاتحاد العام للعمال الجزائريين عام 1956 والاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين في 1955، لكن الإدارة الاستعمارية تحركت وأصدرت مرسوماً عام 1956 يقضي بحل كل جمعية تهدد النظام العام.
ولم تتوافق الخيارات السياسية والأيديولوجية والاقتصادية والاجتماعية المنتهجة من طرف السلطة بعد الاستقلال والمتمثلة في الأحادية الحزبية والاشتراكية الاقتصادية، مع مبدأ حرية التجمع والحرية الجمعوية وإنشاء النقابات، فتم تقييد نشاط الجمعيات إلى حد كبير وحصر تحركها في إطار تصورات وأيديولوجية الحزب الواحد.
انفجار جمعوي
وعرفت المرحلة التي أعقبت الانفتاح السياسي الذي شهدته الجزائر بعد إقرار دستور عام 1989 إصدار قانون الجمعيات 90/31 المؤرخ في الرابع من ديسمبر (كانون الأول) 1990 الذي فتح الباب أمام انفجار جمعوي غير مسبوق، حينها سُمح بإنشاء الجمعيات ذات الطابع المهني والاجتماعي والعلمي والديني والتربوي والثقافي والرياضي والبيئي والخيري والإنساني. ولم تقف الأزمة الأمنية الذي عصفت بالبلاد في التسعينيات عائقاً أمام نمو الفضاء الجمعوي، حتى صار هذا الفضاء ميداناً لصراعات شرسة بين مختلف القوى السياسية والاجتماعية.
وعملت السلطة خلال هذه الفترة على إغراق الفضاء الجمعوي بآلاف الجمعيات التي تتلقى تمويلاً من طرف الإدارة والهدف ضمان ولائها لأحزاب السلطة، وظهرت تنسيقية الجمعيات المساندة لبرنامج رئيس الجمهورية ومنتدى رؤساء المؤسسات التي قامت بدور حاسم في بقاء الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة في السلطة لعشريتين كاملتين.
واتساقاً مع ما عرفته الدول العربية من تحول سياسي، عرفت الجزائر حزمة إصلاحية، أهمها قانون الجمعيات، وهو القانون العضوي 12/6 المؤرّخ في 15 يناير (كانون الثاني) 2012 المتعلق بالجمعيات، بعد إثارة قضايا التمويل الأجنبي ودور المنظمات غير الحكومية.
وأدى التصاق كثير من منظمات المجتمع المدني بالسلطة في فترات سابقة إلى تنامي ظاهرة الفساد، ومحاكمة عدد كبير من أرباب النقابات وجماعات رؤوس الأموال ورؤساء الجمعيات وإدخالهم السجون.
في هذا السياق يقول الإعلامي الجزائري موسى قاسيمي إن من بين المهمات الأساسية التي أوكلت إلى منظمات المجتمع المدني، العمل على إقناع المواطنين والشباب خصوصاً بالدخول في العمل السياسي والمشاركة في الاستحقاقات الرئاسية.
وأوضح قاسيمي لـ"اندبندنت عربية" أن "الهدف من دعم السلطة لمنظمات المجتمع المدني بعد عام 2019، منافسة الأحزاب السياسية التقليدية التي تعرّضت لانتقادات كبيرة خلال الحراك الشعبي بسبب أدائها الذي لم يكُن يعبر عن تطلعات حقيقية للشعب".
دعم سخي
وفي أبريل (نيسان) 2021، أنشئ المرصد الوطني للمجتمع المدني وهو هيئة استشارية تشكل إطاراً للحوار والتشاور والاقتراح والتحليل والاستشراف في كل المسائل المتعلقة بالمجتمع المدني وترقية أدائه، ويتمتع المرصد كذلك بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي.
ويقدم المرصد آراء وتوصيات واقتراحات حول وضعية المجتمع المدني وانشغالاته وآليات تعزيز دوره في الحياة العامة.
ووفقاً للإحصاءات الرسمية حتى عام 2023، هناك 136 ألف جمعية مسجلة في الجزائر، تغطي مجموعة واسعة من المجالات بما في ذلك حقوق الإنسان والتنمية الاجتماعية والخدمات الصحية والتعليم والبيئة.
وكثيراً ما أبدت الأحزاب السياسية امتعاضها من تنامي دور الجمعيات واحتلالها مساحات كانت حكراً على الأحزاب.
وتحول هذا الاستياء إلى مطالبة قادة أحزاب سياسية من الرئيس عبدالمجيد تبون خلال اللقاء الموسع الذي عقد في الـ21 من مايو (أيار) الجاري، سحب قوى المجتمع المدني من ساحة العمل السياسي وإبقاء مجال عملها خارج المجال المرتبط بالنشاط السياسي المنوط بالأحزاب، بخاصة في الاستحقاقات الانتخابية والسياسية الكبرى.
وقال رئيس "حركة البناء الوطني" عبدالقادر بن فرينة خلال اللقاء "نعتقد بأن التعددية أساس الديمقراطية وأن الأحزاب السياسية هي المظهر الطبيعي لها في الدولة الحديثة، ولا يمكن لغيرها من الوسائط المجتمعية، لا سيما المجتمع المدني أن تزاحم الأحزاب في هذه المهمة".
"مخاوف مبررة"
ويرى المحلل السياسي الجزائري حكيم بوغرارة أن طلب الأحزاب السياسية بإبعاد منظمات المجتمع المدني من العمل السياسي مشروع لأن منظمات المجتمع المدني تتلقى دعماً كبيراً من السلطة، لذا تبرز مخاوف من انحياز هذه المنظمات إلى أي مرشح محسوب على السلطة.
ويقول بوغرارة لـ"اندبندنت عربية" إنه من "باب تكافؤ الفرص الذي ينص عليه الدستور وقانون الانتخابات، مثلما يتم إبعاد الإعلام من الانحياز، كذلك المجتمع المدني مطالب بالوقوف على الحياد مع ممارسة فئاته مواطنتها بصفة فردية".
الأردن... 800 ألف شخص أعضاء في منظمات مدنية
تاريخياً، بدأ ظهور منظمات المجتمع المدني في الأردن أوائل القرن الماضي ومع بداية تأسيس المملكة، وكانت تتخذ صورة جمعيات خيرية ونقابات مهنية، إلى أن فرضت التحولات السياسية والاجتماعية نفسها في الأردن فظهرت صور جديدة وكثيرة لهذه الجمعيات، وتطورت وزاد عددها على نحو لافت.
ومن عشرينيات القرن الماضي إلى الخمسينيات، كانت تنشط جمعيات مثل "الهلال الأحمر" الأردني وجمعية "الشبان المسيحيين" وبعض النقابات العمالية التي عملت على تعزيز حقوق العمال وتحسين ظروفهم.
ومنذ ذلك الحين، ارتفع عدد الجمعيات والمنظمات المدنية، بخاصة مع الزيادة السكانية التي شهدها المجتمع بفعل هجرات متتالية من دول الجوار، وتزايد النشاط الاجتماعي والسياسي بعد مرحلة الأحزاب السياسية والحياة الديمقراطية التي استؤنفت عام 1989.
لكن في العشرية الأخيرة من الأعوام الماضية، حدثت طفرة وتوسع كبير على صعيد حقوق الإنسان، وتمكين المرأة، والتنمية الاقتصادية، والتعليم، وهو ما ترجم إلى اتساع حجم وعدد الجمعيات التي باتت اليوم تسهم بفعالية في صياغة السياسات العامة وتعزيز المشاركة المجتمعية.
آلاف المنظمات
ووفقاً لوزارة التنمية الاجتماعية، فإن عدد منظمات المجتمع المدني المسجلة في الأردن يصل إلى نحو 4000 ما بين جمعيات خيرية وثقافية وبيئية وتنموية، فضلاً عن النقابات المهنية والجمعيات التعاونية.
وتتنوع المهام والخدمات التي تقدمها منظمات المجتمع المدني في الأردن بين اجتماعية وصحية وتعليمية، وتعزيز حقوق الإنسان والإسهام في التشريعات، ودعم الفئات الهشة والمهمشة في المجتمع، إضافة إلى نشر الوعي الثقافي والبيئي.
ويرى مراقبون أن الوضع الاقتصادي الصعب الذي يمر به الأردن والتحديات التي يواجهها منذ جائحة كورونا، عززت دور منظمات المجتمع المدني، إذ أصبحت شريكاً أساسياً للحكومة في تحقيق التنمية المستدامة.
ويبرز المركز الوطني لحقوق الإنسان، كواحد من أهم منظمات المجتمع المدني في الأردن، وينشط في مجال حماية ومراقبة حقوق الإنسان، وتقديم الدعم القانوني، ونشر الوعي بالحقوق المدنية والسياسية، ويقوم بمراقبة الانتخابات.
وتتميز مؤسسة "نهر الأردن" باعتبارها رائدة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وتمكين المرأة والشباب، وحماية الأطفال، إذ تقوم بتنفيذ مشاريع تنموية، وتقديم التدريب المهني، ودعم المشاريع الصغيرة.
وتقدم جمعية "الهلال الأحمر" الأردني المساعدات الإنسانية والطبية، وتنشط في مجال الاستجابة للطوارئ والكوارث، إضافة إلى تنظيم حملات التبرع بالدم، وتقديم الدعم الطبي في الأزمات، وتوفر الإغاثة للاجئين.
وتركز مؤسسة الملك حسين على مجالات التنمية البشرية، والتعليم، والصحة، كما تقدم المنح الدراسية.
ويحمل معظم العاملين والمنخرطين في مؤسسات المجتمع المدني مؤهلات علمية متقدمة في مجالات عدة كالعلوم الاجتماعية والقانون.
استقلالية
ويقول الباحث جمال الخطيب إن منظمات المجتمع المدني تتمتع بالاستقلالية وبتعدد مصادر قوتها المادية والبشرية، لكن ذلك لم يمنع أن تكون نشأتها التاريخية مأزومة.
ويصنف الخطيب المجتمع المدني عموماً في الأردن ضمن 12 فئة، ويقدر عددها بنحو 2000 مؤسسة، فيما يبلغ عدد أعضائها نحو 800 ألف شخص في عدد من المدن والقرى.
ولا يرى الخطيب في منظمات المجتمع المدني مجرد جمعيات للنفع العام، بل يتعدى ذلك إلى النقابات المهنية، والروابط والهيئات الثقافية، ومنظمات البيئة، والمنظمات النسائية، والنقابات العمالية، وجمعيات الحماية والرعاية الصحية، ومنظمات حقوق الإنسان.
ويقول إن مرحلة ما بعد 1967 و1984 شهدت انعكاساً للقضية الفلسطينية على عمل مؤسسات المجتمع المدني، بسبب تغير تركيبة القوى المختلفة في النسيج المدني الأردني، نتيجة الهجرة الكثيفة للاجئين الفلسطينيين، وضم الضفة الغربية للأردن، ودخول مرحلة الاقتصاد الحديث والرسملة والانفتاح على السوق العالمي.
وظهرت النقابات المهنية في الأردن عام 1958، ولعبت دوراً بارزاً على الصعيدين السياسي والاجتماعي، تبعها تأسيس المنظمات النسائية كاتحاد المرأة. في حين أن أول جمعية بيئية أنشئت في الأردن كانت عام 1966.
ولعل أكثر ما أسهم في انتشار مؤسسات المجتمع الوطني هو اتساع رقعة التعليم وتقلص معدل الأمية وانتقال المجتمع الأردني من تكوينه الريفي البدوي إلى مجتمع حديث.
تحديات
وتقول هيئة تنسيق مؤسسات المجتمع المدني"همم" إن فعالية المجتمع المدني وقدرته على أداء مهامه تتطلب دعماً تشريعياً من الحكومة، لكنها لا تزال تواجه عدداً من التحديات التي تؤثر في استدامة عملها كونها مؤسسات لا تسعى إلى الربح، وتعتمد في بقائها على التمويل والدعم، إلا أنها تواجه تحديات كقلة الدعم المحلي وتعقيد وطول إجراءات الموافقة على المنح الخارجية من قبل الحكومة.
وتؤدي التشريعات الحالية، وفق "همم"، إلى فرض رقابة مسبقة على أنشطة ومشاريع المجتمع المحلي وتعزيز تبعيته للحكومات، الأمر الذي يخالف جوهر عملها.
ويطالب الرئيس التنفيذي لمركز حماية وحرية الصحافيين "نضال" بدعم الإعلام لمؤسسات المجتمع المدني، مؤكداً أنها تعد مصدراً مهماً للمعلومات والقضايا والمشكلات التي تواجه المجتمع الأردني.
ولفت إلى وجود صورة نمطية لدى كل من المؤسسات الصحافية ومؤسسات المجتمع المدني يجب تغييرها لخلق تعاون بناء وزيادة اهتمام الإعلام في تغطية منجزات وأخبار ومشاكل مؤسسات المجتمع المدني.
شريك في الحلول
ويؤكد مركز دراسات "الفينيق" أن المجتمع المدني شريك أساسي في الحلول عند الأزمات والحروب، بخاصة أن الأردن يقع في قلب منطقة تعصف بها النزاعات والحروب.
ووفق دراسات أعدها مركز "الفينيق"، فإن منظمات المجتمع المدني كانت على الدوام قوة مؤثرة في الأردن، ولعبت دوراً في التعامل مع النزاعات ونتائجها الإنسانية، وتمكنت من تقديم مساعدات حيوية وبناء برامج تعليمية وصحية، استجابة للاحتياجات العاجلة والمستمرة للاجئين والفئات الاجتماعية المهمشة.
وتطالب منظمات المجتمع المدني في سياق هذا الدور بتعزيز قدراتها المؤسساتية والمالية، وضمان حصولها على الدعم الكافي لتنفيذ مهامها.
ليبيا... تلاشي المؤسسات المدنية
بعد تجميد وحظر استمر أكثر من أربعة عقود في زمن الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، عادت مؤسسات المجتمع الليبي للحياة بعد ثورة فبراير (شباط) 2011، وتعددت أسماؤها ونشاطاتها "من دون أن تحقق التأثير المرجو منها في المجالات السياسية والثقافية والحقوقية والاجتماعية، بسبب ضعف التجربة وعدم الفهم الحقيقي لطبيعة دور المؤسسات المدنية في المجتمع المحلي"، بحسب ناشطين حقوقيين.
ومع مضي 14 عاماً على استعادة المؤسسات المدنية نشاطها في ليبيا، بدأ حضورها بالاضمحلال بدلاً من التوسع، خصوصاً بعد الهجمات الكبيرة عليها و"اتهامها على الدوام بالعمالة لدول أجنبية تقوم بتمويلها لتحقيق أهداف دائماً ينظر إليها بعين التشكك والريبة"، أيضاً بحسب الناشطين.
خيبة أمل
وبسبب قصور تأثيرها ودورها انقلبت الآمال المعلقة على عودة المؤسسات المدنية في ليبيا إلى خيبة كبيرة، وبات حضورها محدوداً عدداً وعملاً وتأثيراً، على رغم الحاجة الملحة إليها في بلد عانى انقسامات مجتمعية وسياسية خطرة وعرف كل أنواع الفساد والانتهاكات والتعديات الحقوقية، كان متوقعاً أن تضطلع هذه المؤسسات بدور أفضل في مواجهتها والحد منها.
كما قامت الانتهاكات التي ارتكبت بصورة مستمرة ضد نشطاء مدنيين بداية عام 2013 إلى يومنا هذا والتي وصلت إلى حد الاغتيال أو الإخفاء القسري، بدور بارز في قمع أصواتهم واختفاء المؤسسات المدنية التي أنشأوها أو انضموا إليها، خصوصاً وسط عدم قدرة السلطات السياسية والأمنية على حمايتهم.
صراع مع الدولة
وبات وجود مؤسسات المجتمع المدني في ليبيا يواجه تحديات حقيقية مع صدور قرارات حكومية العام الماضي كبلتها بمزيد من القيود، ومن الممكن أن تتسبب في حل بعضها بسبب هذه القرارات.
ففي الـ13 من مارس (آذار) 2023، أصدرت إدارة الشؤون الخارجية والتعاون الدولي بديوان رئاسة الوزراء لحكومة الوحدة الوطنية في ليبيا، تعميماً تطلب فيه من الإدارات المعنية سحب تراخيص جميع المنظمات غير الحكومية التي أنشئت منذ عام 2011، مما يجعل جميع منظمات المجتمع المدني غير قانونية، ويعني في النهاية إغلاق مجال العمل المدني بالكامل في البلاد.
واستند هذا التعميم إلى رأي قانوني صادر عن إدارة القانون التابعة للمجلس الأعلى للقضاء في الثامن من مارس 2023 الذي يخلُص إلى أنه يمكن لمنظمات المجتمع المدني العمل بصورة قانونية فقط استناداً إلى القانون رقم 19 لعام 2001، وفي هذه الحالة يجب تطبيق هذا القانون حول تنظيم عمل الجمعيات الأهلية كأحدث قانون صدر بالخصوص.
ومن المعلوم أن هذا القانون صدر في عهد القذافي، وهو يحوي شروطاً تقيّد عمل المنظمات المدنية وأبرزها اشتراط الحصول على موافقة الأجهزة الأمنية لعمل أي منظمة غير حكومية قبل مباشرة نشاطها، كما أنه يسمح للسلطة التنفيذية بالسيطرة على ذلك النشاط بغية "خنق الأصوات المعارضة التي تنتقد الأوضاع الراهنة"، بحسب حقوقيين، مما أثار شكوكاً بأن حكومة "الوحدة الوطنية" لجأت إلى القوانين التي صدرت في عهد القذافي لإغلاق المجال المدني وإسكات الأصوات المستقلة.
ونتيجة للانتقادات التي وجهت إلى القانون من داخل ليبيا وخارجها، تراجعت الحكومة قليلاً عن مرسوم 13 مارس، فسُمح في مرسوم آخر بمواصلة عمل المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية شرط أن تقوم بتسوية أوضاعها من خلال الإجراءات المعتمدة من قبل لجنة دراسة تسجيل الجمعيات الأهلية التي تأسست في الـ19 من فبراير 2023.
ضربة للفئات المهمشة
وترى العضو السابق في عدد من المنظمات النسوية في بنغازي حنان سليمان أن "من أهم أسباب الحرب والتضييق على المؤسسات المدنية في ليبيا اتهامها المستمر بالعمالة الأجنبية والتمويل من الخارج، لتحقيق ما يعتقد بأنه أهداف خفية سيئة مثل دعم الانحلال الأخلاقي بحجة دعم المرأة أو حتى أهداف سياسية غير معلنة، مما عانيته بصورة شخصية أثناء نشاطي في المؤسسات النسوية أو المدافعة عن حقوق المرأة".
ورأت سليمان أن "تراجع حضور المنظمات المدنية، خصوصاً المدافعة عن حقوق المرأة والطفل وذوي الاحتياجات الخاصة، شكل ضربة كبيرة لهذه الفئات الضعيفة والمهمشة التي باتت تكافح لوحدها من دون مؤسسات تدعمها وتدافع عن حقوقها السياسية والاجتماعية، ولذلك لا بد من عودة المجتمع المدني لأنه يشكل أحد المقومات الأساسية لبناء الدولة الجديدة القائمة على مبادئ المواطنة والشراكة الفاعلة بين مؤسسات الدولة كافة مثل الحكومة والمجتمع المدني والقطاع الخاص والتنمية المستدامة في الوقت نفسه، فأهم المعايير المعبرة عن تطور أي دولة وحيويتها تتمثل في فاعلية المجتمع المدني وقدرته على التغيير والتأثير في مجتمعه".
تراجع خطر
ويروي الناشط السابق في مؤسسات المجتمع المدني سراج الفيتوري تجربته التي انتهت بتجميد نشاطه في المنظمات المدنية أن "تجربة المؤسسات المدنية في ليبيا التي كنت أحد من خاضها، انطلقت بحماسة كبيرة بعد عام 2011 ولكن من دون تنظيم أو خبرة، فكان من الطبيعي أن تنتهي بسرعة، خصوصاً بعدما أصبحت هذه التجربة خطراً على الحياة والسلامة الشخصية".
وقال "كان معظم المنضوين في المؤسسات المدنية من الشباب المتحمسين الذين كانوا يحاجة لمن ينظم عملهم ويحميهم ويشجعهم، ولكن ما حدث كان العكس تماماً، خصوصاً مع احتدام الصراع السياسي والعسكري، حينها بات يطلب من هذه المؤسسات أن تكون طرفاً في هذا الصراع مما يخالف طبيعتها ودورها كمؤسسات مستقلة".
وتابع أنه "كان من أهم أسباب فشل هذه المؤسسات أيضاً عدم منح المساحة من السلطة السياسية لها لممارسة دورها كإحدى الدعائم الرئيسة الشريكة لتحقيق التنمية المستدامة بالتنسيق والتعاون مع شركاء المسؤولية، أي الحكومة والقطاع الخاص، إذ يشمل المجتمع المدني كل الهيئات والمنظمات غير الحكومية التي يقوم نشاطها على العمل العام التطوعي".
وخلص إلى أن "تراجع دور المؤسسات المدنية وتأثيرها كمؤسسات ضغط مستقلة كانت له تداعيات خطرة، خصوصاً في مجال حقوق الإنسان".
المغرب... أسماء متعددة ومهام متشابهة
يبلغ عدد منظمات المجتمع المدني في المغرب نحو 260 ألف منظمة غير حكومية، وفق تقرير سابق للمجلس الوطني لحقوق الإنسان (مؤسسة رسمية)، وتتوزع هذه المنظمات والهيئات المدنية على مجموع تراب المملكة، وتهتم بشتى القضايا والمجالات المختلفة.
وتطرق الفصل الـ12 من الدستور المغربي إلى منظمات المجتمع المدني بالتنصيص على أن "تؤسس جمعيات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية وتمارس أنشطتها بحرية، في نطاق احترام الدستور والقانون"، و"لا يمكن حل هذه الجمعيات والمنظمات أو توقيفها من قبل السلطات العمومية إلا بمقتضى مقرر قضائي".
اهتمام حكومي
ويتميز المغرب، وفق عديد من المراقبين والمهتمين، بوفرة في عدد المنظمات والجمعيات المنبثقة من حرم المجتمع المدني، إذ يتم إحداث عشرات الجمعيات والمنظمات كل عام تقريباً، وتهتم بعديد من القضايا والملفات المجتمعية والبيئية والصحية والثقافية والرياضية.
وتحظى منظمات المجتمع المدني باهتمام حكومي من خلال إحداث بوابة شراكة مع هذه المنظمات، تهدف إلى المساهمة في تعزيز شفافية التمويل العمومي لبرامج ومشاريع وأنشطة جمعيات المجتمع المدني، وتعزيز الشفافية وتكافؤ الفرص بين جمعيات ومنظمات المجتمع المدني في الولوج لجميع المعطيات والمعلومات المتعلقة بالدعم العمومي والشراكات، علاوة على "تثمين برامج ومشاريع جمعيات ومنظمات المجتمع المدني وإبراز دورها لتحقيق التنمية المجتمعية".
وأنشأت الحكومة المغربية جائزة المجتمع المدني، بهدف "تقدير الإسهامات النوعية والمبادرات الإبداعية لجمعيات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية، وإبراز التجارب الناجحة لبعض الجمعيات والفاعلين الجمعويين والعمل على تعميمها".
طفرة هائلة
يقول في هذا السياق مدير المركز المغربي لحقوق الإنسان (منظمة حقوقية مدنية) عبدالإله الخضري، إن "المجتمع المدني المغربي يعيش منذ عام 2010 على إيقاع دينامية غير مسبوقة، جعلته يتبوأ مكانة حيوية في الخطاب الرسمي وفي المشهد العام".
واسترسل الخضري بأن "المجتمع المدني أصبح يلعب دوراً فاعلاً على المستوى الحقوقي والاقتصادي والاجتماعي بالبلاد، وبرزت مساهماته من خلال الأدوار الطلائعية التي منحه إياها دستور 2011، في إطار الاستراتيجية السياسية التي تبناها المغرب لدعم وتكريس قواعد الديمقراطية التشاركية".
ووفق المتحدث ذاته، "قفز عدد منظمات المجتمع المدني من نحو 40 ألف جمعية قبل عام 2010 إلى ما يقارب 260 ألف جمعية في بداية 2024، مما يؤكد الطفرة الهائلة التي عرفها المجتمع المدني خلال هذه الفترة". وتابع أن مختلف القطاعات الحكومية، إلى جانب السلطات العمومية اللامركزية وجميع المجالس المنتخبة، عقدت آلاف الشراكات لدعم المجتمع المدني من أجل أداء أدواره الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، مما يعكس الاهتمام الكبير الذي أولته الدولة المغربية للمجتمع المدني.
"استنساخ"
هذا الكم الكبير لعدد منظمات المجتمع المدني أفضى في المقابل إلى سلبيات أثرت في صورة هذه الجمعيات لدى المواطنين، ومن ذلك تشابه الأنشطة والمجالات التي تشغل عليها، إذ صار عديد من المنظمات المدنية مستنسخة في أعمالها وأهدافها وحتى في أسمائها.
وأثار حزب "التجمع الوطني للأحرار"، الذي يقود الحكومة المغربية الحالية، هذه المشكلات التي تلتصق بمنظمات المجتمع المدني، منها "تشابه الأنشطة والأهداف، وهو ما يؤثر سلباً في العمل الجمعي، بسبب غياب التجديد والإبداع"
وزاد الحزب ذاته أن هناك مشكلة أخرى هي ظهور جمعيات غير جادة تبحث فقط عن اقتسام أو كسب الدعم المالي العمومي الذي تقدمه الدولة لمنظمات المجتمع المدني، حتى إن بعضها يدمج أنشطة تنموية كثيرة بغية الاستفادة من تمويلات عدة، مما يترك صورة سلبية عن هذه المنظمات المدنية لدى المواطن، واصفاً الحزب لجوء البعض إلى تأسيس جمعيات فقط من أجل تلقي الدعم والتمويل الحكومي، بأنه "أشبه بمهنة من لا مهنة له، إذ بات كل من أراد لم الأموال أن يؤسس جمعية أو منظمة بشعارات مختلفة، ويقدم ملف الاستفادة إلى الجهات الرسمية لتلقي الدعم وتمويل الدولة".
"هشاشة"
يسجل في هذا الصدد عبدالإله الخضري أن "المجتمع المدني المغربي نشأ في بيئة غير سليمة، مما جعله أكثر عرضة للهشاشة وضعف الأداء المؤسساتي، على رغم الوفرة العددية".
ويرى الناشط المدني ذاته أن "مظاهر الضعف البنيوي في جمعيات المجتمع المدني المغربي تتجلى أساساً في ضعف القدرات المؤسساتية في مجال تعبئة الموارد، والبنية التنظيمية للجمعيات من حيث مدى توفير الديمقراطية الداخلية والشفافية المالية والحوكمة الجيدة، وضعف التنسيق والتعاون بين الجمعيات، مما أدى إلى خلق نوع مـن التشتت".
وتطرق الخضري أيضاً إلى ضعف الموارد البشرية لدى عديد من جمعيات ومنظمات المجتمع المدني بالمغرب، بسبب ضعف التكوين والتأطير في المجالات ذات الصلة بالقدرات التي تحتاج إليها تلك الجمعيات.
واعتبر المصدر أن "المجتمع المدني المغربي يحتاج إلى الاستقلالية للرفع من مستوى أدائه، وإلى الوعي بالمسؤولية التي على عاتقه، وإلى نضج ثقافة العمل الجماعي في نفوس الأفراد، كما أن الديمقراطية التشاركية لا يمكن تفعيلها إلا بتقوية أداء المجتمع المدني والتصدي لتدخل السياسيين، لأن هذا قد يؤدي إلى توظيف المجتمع المدني لخدمة أجندات السياسيين، بالتالي إضعاف دوره كآلية ترافعية في مواجهة السياسات غير المنصفة".
موريتانيا... رحلة المنظمات المدنية من الترخيص إلى الإشعار
تعرف الموريتانيون للمرة الأولى على مصطلح منظمات المجتمع المدني في عام 1964، أي بعد استقلال البلاد بأربع سنوات، وذلك بعد صدور القانون المنظم لنشاطات الرابطات على المستوى الوطني.
ولعقود ظل القانون رقم 64-098، هو المرجع الأول لإنشاء المنظمات الوطنية التي تنشط في مجال الأعمال الخيرية والحقوقية وكافة مجالات التنمية الاجتماعية، حتى العاشر من فبراير (شباط) 2021، إذ استحدثت موريتانيا قانوناً جديداً، ينظم الجمعيات والهيئات والشبكات، وهو قانون 004/2021 الصادر في العام نفسه.
فوضى "خلاقة"
منذ بداية التعددية السياسية التي أقرها أول دستور صوت عليه الموريتانيون بعد عقد من الحكم العسكري، عاشت البلاد تجربة فريدة لم يكن مواطنوها مهيئين لها مدنياً، بحسب الباحث في التحولات المجتمعية يرب محمود.
وأضاف، "أخضع الموريتاني ثقافة البداوة التي لا تعترف بالتخصص على الوافد الجديد، واكتسحت ثقافة إنشاء منظمات المجتمع المدني المجال الموريتاني، وهكذا بلغ عددها أزيد من 8 آلاف منظمة وجمعية في غضون ست سنوات على بداية السماح بإنشائها للمواطنين".
لم تكن تتوافر إحصاءات دقيقة لمنظمات المجتمع المدني قبل القانون الجديد الذي تمت المصادقة عليه قبل ثلاث سنوات، إذ كان بعض العاملين في مجال المجتمع المدني يقدرونها بـ12 ألف منظمة.
المجتمع المدني اليوم
بحسب المستشار الإعلامي لمنتدى الفاعلين غير الحكوميين الموريتانيين محمد يحي أبه، فإنه تنشط في موريتانيا اليوم 5757 منظمة وجمعية مسجلين في منصة خاصة بالمجتمع المدني.
وتمثل الهيئات من هذا العدد 21 هيئة، فيما تمثل الشبكات ثمان، بينما تصل الوداديات إلى ما يناهز 33 ودادية (جمعية عمالية). وما بين هذا وذاك ظل الترخيص بالعمل من أهم عراقيل عمل هيئات ومنظمات المجتمع المدني في موريتانيا، قبل استحدث القانون 004/2001، وهو نظام الإعلان عن إنشاء هيئات المجتمع المدني، بدلاً من نظام الترخيص القائم سابقاً.
لكن المتتبع لأداء هيئات المجتمع المدني وعملها وتأثيرها في المجتمع وأبرز ما قدمت للخدمة الاجتماعية لا بد أن يراعي معايير مختلفة، لعل أبرزها القدرة البشرية والمالية وكذلك طول التجربة في إنجاز المشاريع، بحسب محمد يحي أبه.
ويعمل منتدى الفاعلين غير الحكوميين في موريتانيا على دراسة أحوال الجمعيات الناشطة في المجال المدني والخيري، وهو ما يأمل القائمون على المنتدى بأن يوفر معطيات نوعية عن منظمات المجتمع المدني الموريتانية.
الهدف رقم 18
تعمل الحكومة الموريتانية منذ فترة على إشراك المجتمع المدني كمراقب لعملها، ومن أجل تكوينه سعت الحكومة على تكوين عشرات المنظمات النشطة في هذا المجال حول أهداف التنمية المستدامة السبع عشرة المعروفة، وأضيف أخيراً على المنصة هدفاً جديداً يحمل الرقم 18 وهو محاربة الفساد والرشوة.
وبحسب العالية محمد وهي ناشطة جمعوية فإنها تأمل بأن تتعزز الشراكات الحكومية مع المجتمع المدني في "مجالات متعددة تمس محاور مواضيع مهمة تهدف إلى توعية المجتمع وتثقيفه وتوجيهه نحو امتلاك ثقافة مدنية وقانونية تجاه عدد من القضايا مثل العنف ضد المرأة، والتعبئة والتحسيس ضد أمراض مثل السيدا والكوليرا وغيرها من حملات تنشط فيها جمعيات المجتمع المدني".
إشراك حقيقي
لعبت هذه المنظمات أدواراً متعددة شكلاً ومضموناً، منها ما هو تنموي وما هو حقوقي وإنساني. ويشير المسؤول الإعلامي لمنتدى الفاعلين غير الحكوميين في موريتانيا إلى "أهمية الهيئات المتعددة الأطراف التي يتم تمثيل المجتمع المدني فيها بأعداد لا بأس بها وأحياناً تتجاوز بعض الأطراف".
وتابع، "على سبيل المثال اللجنة الوطنية لمبادرة شفافية الصناعات الاستخراجية في موريتانيا المكونة من 31 عضواً، من بينها 14 عضواً من المجتمع المدني بصفة عامة و8 منهم من منظمات المجتمع المدني".
وأضاف محمد يحيى، "في تشكيلة هذه اللجنة المتعددة الأطراف الأخيرة، أصرت الأطراف المعنية إلى الرفع من مستوى التمثيل لكل المكونات وبخاصة مكونة المجتمع المدني".
أصابع اتهام
اتهامات متعددة تواجهها منظمات المجتمع المدني الموريتاني، خصوصاً المتعلق منها بالشفافية والتمويل والعمل وفق أجندة جهات خارجية كما يقول البعض.
هذه الاتهامات تجعل للجهات الرسمية الحق في حل بعض الجمعيات الخيرية والشبابية بقوة القانون، وهو ما حدث عدة مرات، إذ كثر الحديث والتساؤلات عن مصادر بعض الجمعيات الخيرية والشبابية التي تقدم مساعدات إنسانية واجتماعية ولها نشاط ثقافي واسع، اتهمت من خلاله بأنها تدعم أحزاباً سياسية أو تعمل وفق أجندة خارجية.
وبحسب مصدر في وزارة الداخلية الموريتانية تحدث لـ"اندبندنت عربية" وفضل عدم الكشف عن هويته، فإن "موريتانيا قبل ثلاث سنوات وضعت مشروع قانون جديد ينظم عمل هيئات المجتمع المدني بمختلف أنواعها، سعياً لخلق هيئات مجتمعية فاعلة تنطلق من رؤية شمولية لتحقيق هدف مجتمعي بعيداً من الاستخدام الشخصي لتحقيق غايات فردية لا تتماشى مع الأهداف والغايات التي من أجلها وجدت هذه المنظمات التي يجب أن تكون خدمية وذات نفع عام".
وأوضح المصدر أنه من أهم المبادئ التي يقوم عليها قانون المجتمع المدني الجديد "أنه يعتمد مبدأ التصريح بدل نظام الترخيص، مما يسهل الولوج إلى العمل الجمعوي الذي حدد له القانون مجموعة من الشروط والضوابط يعتبر توافرها دليلاً على مهنية المنظمة وعلى قدرتها على المساهمة بحسب قدرتها ومجال تخصصها على تقديم خدمة مجتمعية".
مميزات القانون الجديد
ويرى أستاذ القانون في جامعة لعيون الإسلامية الشيخ سيداتي أحمد مولود أن أهم المستجدات التي استحدثها هذا القانون هي مجموعة من الإجراءات يمكن إجمال أهمها في الانتقال إلى نظام الإشعار بدل نظام الترخيص وهي من أهم المستجدات التي استحدثها هذا القانون، ونصت المادة 5 على مبدأ حرية تأسيس الجمعيات ومن غير ترخيص مسبق خلافاً لما كانت عليه الحال قبل هذا القانون، وبذلك جسدت هذه المادة نصاً دستورياً تضمنته المادة العاشرة من الدستور التي نصت على أنه: "تضمن الدولة لجميع المواطنين الحريات العمومية والفردية".
وتشمل هذه الحريات، "حرية التنقل والإقامة في جميع أجزاء تراب الجمهورية، وحرية دخول التراب الوطني والخروج منه، وحرية إنشاء الجمعيات وحرية الانخراط في أي منظمة سياسية ونقابية يختارونها".
ونبه إلى أن هذه الخطوات تمثل حسنة تحسب للنظام القائم في تفعيل الدستور بعد أن ظل معرقلاً - كي لا نقول معطلاً- حتى صدور هذه المادة التي أراد من خلالها المشرع تسهيل وتبسيط إنشاء الجمعيات إدراكاً منه لما لها من أهمية على جميع الصعد مثل:
- تقسيم الجمعيات إلى ثلاث مستويات (جمعيات وطنية) وهي المستوى الأول، ثم (جمعيات جهوية) وتمثل المستوى الثاني، وأخيراً (جمعيات محلية) وهي المستوى الثالث."
منظمات متعددة الأعمار
يقول الناشط الشبابي أباتن سيد أحمد، إنه لا يوجد في موريتانيا قانون يحدد طبيعة الفئة العمرية ولا التوجه السياسي ولا طبيعة التكوين أو التخصص للمنتسبين أو المنخرطين في منظمات المجتمع المدني، وإن كان يجب من الجانب الأخلاقي أن تحترم التخصصات في مجال العمل المدني والخيري.
لكنه يضيف، "لا توجد مواصفات محددة للمنخرطين في منظمات المجتمع المدني من طرف القانون المنظم لكن يمكن لكل الفئات التي ذكرت الانخراط في المنظمات وفئات أخرى لم يتم التطرق لها".
ببساطة يعد التطور الحاصل في مجال تشريعات وقوانين التنظيم الخاصة بجمعيات المجتمع المدني في موريتانيا، ولد مبكراً منذ عام 1964 وتطور مع نضوج تجربة الدولة الوطنية والمجتمع المدني الموريتاني، بحسب الصحافي السالك ولد زيد.
وتطور التعاطي الرسمي مع الأحزاب السياسية وجمعيات المجتمع المدني في ما يتعلق بالترخيص أولاً وصولاً إلى الإشعار لاحقاً، مع محاولة للدولة من الرقابة على عمل الأحزاب والتجمعات النقابية والمدنية، وهو حق في ظل التزايد الهائل لجمعيات المجتمع المدني وتعدد شركاتها الداخلية والخارجية، بحسب ولد زيد.
وختم حديثه بالمقارنة بين قوانين موريتانيا وبعض الدول في الإقليم والوطن العربي في مجال الحريات العامة وحقوق الإنسان في الانتساب والنقابية والتجمع تجعل البلاد أكثر انفتاحاً من غيرها من دول العربية والأفريقية.
لبنان... أكثر من 10 آلاف منظمة غير حكومية
تشير سجلات وزارة الداخلية والبلديات اللبنانية إلى وجود أكثر من 10 آلاف منظمة غير حكومية لديها علم وخبر رسميين، ومن ضمنها الأحزاب السياسية والنوادي الرياضية والنقابات، إذ إنها تخضع لقانون الجمعيات الصادر عام 1909 والمراسيم التطبيقية اللاحقة له. إلا أن 3306 من تلك الجمعيات تعمل بصورة فعلية وتتمتع بمشروعية، بينما العدد الباقي متخلّف عن التزام المعايير التنظيمية، في حين لا يتجاور عدد الجمعيات الناشطة والفاعلة الـ500 جمعية وتُدخل إلى لبنان عبر برامج مرتبطة بالقطاعات التربوية والبيئية والصحية والتنمية الاقتصادية، ما يزيد على 700 مليون دولار كمعدل سنوي من المؤسسات الدولية المانحة.
المرتبة الأولى
ووفقاً للقانون اللبناني، فإن المنظمة غير الحكومية هي مجموعة أفراد يصبّون معارفهم ومواردهم من أجل الخير العام من دون توخي الربح الشخصي. وتخضع المنظمات اللبنانية غير الحكومية لقانون 1909 العثماني الخاص بالجمعيات. ويعرّف القانون الجمعيات بأنها مجموعة مؤلفة من أفراد يوحدون معلوماتهم وجهودهم بصورة دائمة ولا يكون هدفهم تقاسم الأرباح. فالقانون اللبناني ينص على أن في استطاعة أي مجموعة تضم أكثر من ثلاثة أشخاص، يعملون معاً في نشاط معين لا يتوخّى الربح الشخصي، أن تسجل كمنظمة غير حكومية.
وعلى رغم انطلاق عمل منظمات المجتمع المدني في مجالات اجتماعية وإنسانية وتربوية قبل استقلال لبنان، إلا أن دورها تطور بصورة لافتة منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011 وما تبع ذلك من نشاط للجهات المانحة، وتبلور هذا الدور مع الانهيار الاقتصادي عام 2019، وازداد زخمها بعد انفجار مرفأ بيروت في الـرابع من أغسطس (آب) 2020، إذ عمدت المنظمات الدولية والعربية وبعض الدول الأجنبية إلى مساعدة المتضررين عبر هذه الجمعيات الأهلية لعدم ثقتها بمؤسسات الدولة.
ويأتي لبنان في المرتبة الأولى عالمياً من حيث عدد الجمعيات، نسبة لعدد سكانه (4.2 مليون مقيم)، ووصل عدد الجمعيات وفق "الدولية للمعلومات" إلى 10 آلاف و472 أي بمعدل جمعية لكل 409 لبنانيين، وهي بغالبيتها انعكاس لواقع المحاصصة الطائفية والسياسية، بحسب ناشطين.
برامج دولية
وتتعدد مصادر تمويل منظمات المجتمع الدولي في لبنان، إذ تشير المعلومات إلى أن كثيراً منها يعتمد على وزارة الشؤون الاجتماعية التي باتت موازنتها في الفترة الأخيرة لا تكفي رواتب الموظفين بسبب الأزمة المالية التي يمر بها لبنان، ومنها يعتمد على التبرعات الآتية من الزكاة والخمس والأوقاف، في حين تمول الجهات الدولية المانحة أو الاتحاد الأوروبي أو منظمات دولية ومنظمات غير حكومية دولية برامج عدة تقوم الجمعيات المحلية بتنفيذها، إذ تخصص دول الاتحاد الأوروبي 0.7 في المئة من ناتجها القومي كمساعدات للدول النامية، وكذلك الوكالة الأميركية للتنمية USAID تخصص سنوياً 35 مليار دولار لبرنامج مساعداتها حول العالم.
والمنظمات غير الحكومية المنتشرة بصورة واسعة في لبنان، لها دور مباشر في إدارة البرامج والمساعدات الدولية، فتشير التقارير إلى أن قيمة المساعدات التي دخلت لبنان عام 2020 وصلت إلى 1.1 مليار دولار، لتغذية منظومة وُضعت تحت رقابة الأمم المتحدة بعد أن "تم تحييد الحكومة اللبنانية بسبب ممارسات الفساد التي شوّهت سمعتها"، وفق ناشطين إنسانيين، وكان المستفيد الأول من هذه العملية الوكالات الأممية مثل مفوضية شؤون اللاجئين و"يونيسيف" وبرنامج الغذاء العالمي. وهذه المنظمات الثلاث حظيت لوحدها بـ 70 في المئة منها، في حين ذهبت بقية المساعدات إلى منظمات دولية أخرى مثل بنك التنمية الألماني واللجنة الدولية للصليب الأحمر والمجلس النرويجي للاجئين. في آخر المطاف، ولم يتحصل الفاعلون المحليون سوى على أربعة في المئة من المساعدة الدولية.
مهمات ثلاث
ويشير الأستاذ الجامعي هيكل الراعي إلى أن المنظمات غير الحكومية هي أحد أعمدة المجتمع المدني، وهي موجودة وناشطة في مختلف المناطق اللبنانية منذ بدايات القرن الماضي، مؤكداً أهمية حضورها في الأزمات التي شهدها لبنان وموضحاً أن المجتمع المدني هو مجموعة التنظيمات الاجتماعية الطوعية التي لا ترتبط بالجهاز الحكومي، أي الجمعيات والأحزاب والنقابات والنوادي، وأن هذه التنظيمات هي وسائط بين المجتمع والسلطة، وتؤدي مهمات ثلاث بلورة المصالح والوساطة والضغط.
وبرأيه تكمن أهمية المنظمات غير الحكومية في قدرتها على العمل على مستويات مختلفة في المجتمع، وإن لم تستطِع إحداث تغيرات سريعة وجذرية. إلا أن تأثيرها التدريجي السلمي والمتعدد المستويات أسهم إيجاباً في إيجاد ثقافة مدنية جديدة، ومن ثم تغيير شامل وبناء. وتساعد هذه المنظمات الأفراد على تنمية مهاراتهم السياسية، وتُجنِّد وتدرب القادة السياسيين وتشجع على المشاركة في الحياة العامة، وتثقف الشعب في مواضيع مختلفة. وتمثل مع الصحافة أداة ضغط على الحكومة لتحافظ على شفافيتها ومسؤوليتها.
"سلاح خفي"
في المقابل تعتبر الأستاذة في الجامعة اللبنانية في معهد العلوم الاجتماعية عبير السبع أن جمعيات المجتمع المدني هي السلاح الخفيّ للغرب ضد المجتمعات الفقيرة في العالم الثالث، إذ برأيها تم تأسيسها لهدف معين هو تنفيذ مخططات غربية، لافتة إلى أنه "عندما تموّل الدول الأوروبية المجتمع العربي فلأجل تفجيره من الداخل، وعندما لا نعود قادرين على تحقيق أهدافهم سيوقفون التمويل، مما سيخلق أزمات جديدة نتورط بها".
ورأت أن "سبب دخول الغرب على خط تمويل اللاجئين في لبنان تحت عناوين حقوق الإنسان، هو لتنفيذ مخطط وتأجيج صراعات ليس سببها النازح السوري أو اللاجئ الفلسطيني، بل الأزمة الاقتصادية التي يرزح تحتها الجميع، وسيعملون على إثارة النعرات الطائفية، وسيرمون بالمسؤولية على الفلسطيني والسوري من أجل إيجاد كبش محرقة، والغرب سيتفرج علينا، وسيتم افتعال مشكلات داخلية ومجازر من أجل تفجير الوضع من الداخل".
تغيير النظام
من ناحيته، يشير الدكتور في الجامعة اللبنانية كرم كرم إلى أن "المنظمات غير الحكومية اللبنانية كانت في مرحلة التسعينيات الفاعل الأكبر على ساحة التحركات الاجتماعية في البلاد، والتحرك الاجتماعي هذا ليس شاملاً، فهو من دون مرتكزات سياسية أو اقتصادية ويهتم بحقوق المرأة وحقوق الإنسان والبيئة والزواج المدني والانتخابات المحلية والتنمية المحلية وقضايا الشباب، معتبراً أن مرحلة الالتحاق السياسي للمنظّمات غير الحكومية بدأت عام 2005، ليكون التحوّل الكبير إلى الخط الانتقالي ومرحلة "التسييس" الكامل والعلني بعد 2011.
وبرأيه فإن "انتفاضة 2019 جاءت لتعزيز الارتباط مع الأجندة الأميركية، لتبرز التساؤلات المرتبطة بجدوى بقاء العناوين الكلاسيكية لعمل المجتمع المدني بعدما تحوّلت وظائفها لتكون ضمن إطار أو أهداف سياسية تريد تغيير طبيعة النظام اللبناني، ونقله من ’طائفي‘ إلى ’مدني‘ وفق النماذج الأميركية والغربية".
سوريا... ولادة في خضم الحرب
عاد المجتمع المدني إلى واجهة الحياة العامة في سوريا بأعقاب أحداث عام 2011 واندلاع الحراك الشعبي (حتى عام 2013) والصراع المسلح، واحتكم الشارع إلى قوة السلاح وغيب صوت الرصاص صوت الحكمة حينها وأخذ النزاع صورته الحالية لفترة طويلة، واتسع ليشمل غالبية المدن والقرى السورية لكن من دون أن يغيب دور منظمات المجتمع المدني، التي مرت بفترات عصيبة خلال الحرب، بل إن المجتمع المدني الذي كان يعمل بصورة سطحية وخجولة قبل الحرب عاد للنشاط والتوسع لا سيما مع تعدد مناطق النفوذ خلال عقد من الصراع في سوريا.
أداء مختلف
انبثقت من المجتمع المدني جمعيات ومؤسسات كثيرة خارج سوريا وداخلها حاولت تطوير صورتها ونظامها وعملها، مما جعل أداء كل منظمة يختلف عما كان عليه لا سيما أن البلاد في حال حرب على عكس طريقة وأسلوب عملها في فترة السلم، لتحظى بعدها بنيل ثقة المجتمع الدولي وبخاصة أن جزءاً من دورها الاستجابة لحالات الطوارئ الإنسانية وتقديم خدمات التعليم والصحة وتمكين النساء وقضايا الشباب، وحقوق الإنسان عموماً وبالذات بناء جسور السلام.
في غضون ذلك، وصل عدد جهات المجتمع المدني إلى 767 منظمة بحسب تقرير لمركز "إمباكت" للبحوث (تأسس في برلين عام 2013 وله مكاتب في العراق وسوريا وتركيا). وبلغت نسبة المنظمات المدنية 90 في المئة داخل سوريا وتوزعت بين 249 منظمة في مناطق سيطرة النظام، بينما وصلت في مناطق سيطرة "هيئة تحرير الشام" في إدلب إلى 218 منظمة، ووصلت إلى 61 منظمة في شمال غربي سوريا الخاضع فعلياً لسيطرة تركيا.
وبلغ عدد المنظمات 96 في الرقة و58 في دير الزور و68 في الحسكة مع صعوبة إدراج الدرس عدد منظمات منطقة نبع السلام الخاضعة للسيطرة التركية لتعذر الوصول إليها وقتها. ورصد هذا الدرس أن غالبية منظمات المجتمع المدني تبدو صغيرة، ويبلغ عدد أعضائها 30 عضواً أو أقل وتعتمد في عملها على الموظفين والمتطوعين الموقتين تبعاً للمشاريع التي تقوم بها.
2800 مشروع
في المقابل، يشير درس "إمباكت" البحثي إلى هيمنة الرجال على عمل المنظمات المدنية باستثناء مناطق شمال غربي سوريا، ولم يبلغ سوى 50 في المئة من منظمات المجتمع المدني عن حجم الموازنة وإجمالي المبلّغ عنه قليل جداً مقارنة بحجم الاستجابة في سوريا، إذ أفاد 20 في المئة من المنظمات باعتماد التبرعات لتأمين التمويل بينما لفت 55 في المئة إلى أن التمويل مصدر أساس.
وبإحصاء دقيق نفذت منظمات المجتمع المدني بحسب درس في صيف عام 2021، نحو 2800 مشروع في العام الذي سبق المسح وهو ما يعادل أربعة مشاريع لكل منظمة، وأكثر مجالات العمل شيوعاً بالنسبة إلى المنظمات هي الإغاثية والإنسانية والخدمات الاجتماعية بنسبة 51 في المئة يليها التعليم 36 في المئة والصحة 35 في المئة.
يشدد مراقبون على أهمية بذل جهود من قبل الجهات المانحة والمنظمات غير الحكومية الدولية والإقليمية لمواصلة دعم المنظمات. ويلفت موظف سابق في إحدى منظمات المجتمع المدني، جبران سلوم، إلى ضرورة تقديم الدعم والاستشارات وبخاصة أن الاهتمام بالوضع السوري تراجع بصورة كبيرة مع ظهور أحداث عالمية منها جائحة كورونا، واندلاع الحرب الروسية- الأوكرانية وفي السودان وغزة مما ترك تأثيراً سلبياً على المنظمات من جهة التمويل.
ويضيف "تعمل غالبية هذه المنظمات على الاستجابة في مجالات حساسة وضرورية تتعلق بأساسيات حياة الإنسان من غذاء وصحة، ولهذا على الجهات الممولة الاهتمام بتدريب الكوادر وتأهيلها وإخضاع العاملين في القطاع الإغاثي إلى طرق التعامل مع المستفيدين بصورة تحافظ على كرامتهم، ومثال ذلك توزيع المعونة الغذائية والطبية وغيرها، على رغم اكتساب المتطوعين والكادر الوظيفي طوال فترة الحرب الخبرة المناسبة. لكن ما يحدث أنه وبسبب ضعف التمويل أو انخفاضه تجري تبديلات للكادر الوظيفي إذ اضطر كثير منه إلى السفر أو الهجرة والانتقال مع عائلاتهم إلى أماكن أكثر أمناً ووصول موظفين جدد تنقصهم الخبرة".
الاستجابة السريعة
أثناء ذلك ومع اتجاه منظمات المجتمع المدني المتخصصة والداعمة لقضايا اجتماعية وصحية وإغاثية إنسانية بحكم الصراع المسلح الدائر منذ عام 2011 في سوريا، وما أنتجه زلزال السادس من فبراير (شباط) عام 2023 في شمال وغرب سوريا من أزمات نفسية واقتصادية جسيمة، فإن اهتمامات المجتمعات المدنية انكبت على الاستجابة السريعة والتعافي، بينما اقتصر الاهتمام بالديمقراطيات والعدالة والمناصرة أو حقوق الإنسان على جمعيات محدودة معظمها اتخذت مقرات خارج البلاد، أمكن إحصاء 30 هيئة ومنظمة عملت بنشاط على تقديم وثائق للانتهاكات الواقعة على الأرض السورية.
وفي الثالث من أبريل (نيسان) من عام 2018، وقعت في لوزان سويسرا 28 من منظمات المجتمع المدني السوري بروتوكول تعاون لتوجيه العمل المشترك بين المنظمة الدولية الأممية "الآلية المحايدة والمستقلة" ومنظمات المجتمع المدني لضمان التفاهم المتبادل، وتعزيز الهدف المشترك في ضمان تحقيق العدالة والمساءلة والإنصاف لضحايا الجرائم المرتكبة في سوريا.
في مقابل ذلك، ضغطت منظمات المجتمع الدولي لحث الأعضاء في الأمم المتحدة على التصويت لمصلحة مؤسسة مستقلة في شأن المفقودين في سوريا، كما عملت منظمات حقوقية بالكشف عن جملة انتهاكات توزعت في مختلف أرجاء البلاد، وعلى رغم تفاوت عمل هذه المنظمات بين مناطق السيطرة فإنها انعدمت بصورة نهائية أثناء سيطرة تنظيم "داعش" في شمال شرقي سوريا مع تسجيل انتهاكات بالغة وجسمية ما زالت آثارها السلبية ماثلة إلى اليوم.