Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"السقا" لم يمت... تاريخ بيع المياه من القربة إلى العبوة

تبارى الحكام وأثرياء المسلمين في إنشاء "الأسبلة" أو خزانات المياه العامة التي توفره مجاناً لعابري السبيل

مدينة جدة التاريخية أعادت مهنة السقاء إلى الواجهة (مواقع التواصل)

ملخص

بات السقاة يمثلون فولكلوراً سياحياً في ساحات المدن، فيلتقط السياح الصور إلى جانبهم، أما شرب المياه من الخزانات التي يحملونها على ظهورهم فلا يلجأ إليه إلا المضطر، بعد أن كان الساقي في الزمن الماضي إحدى المؤسسات الرئيسة داخل المجتمع المديني العربي

حين يصيبك العطش أثناء سيرك في مدينتك أو أي مدينة أخرى في العالم، فإنك ستشتري عبوة مياه معدنية من أي متجر قريب، وستحملها معك طوال الرحلة، أو ستشرب من برادات المياه المفلترة الموزعة في الحدائق والمجمعات التجارية والمؤسسات الحكومية، وفي حال كنت في بلد فقير يفتقد إمدادات مياه الشرب النظيفة، فسيكون هناك كثير من طرق تنظيف المياه قبل تناولها، أو ستعمل طوال النهار مقابل ثمن قنينة مياه معدنية نظيفة.

لكن ماذا كان يفعل شخص مار في مدينة قديمة إذا ما أصابه العطش؟ من أين كان يأتي بماء صالح للشرب، إذ كان الماء النظيف يساوي كنزاً في فصول الجفاف، أو أثناء انهيار التنظيم المدني لأسباب مختلفة فتختفي المياه الصالحة للشرب من الصنابير والخزانات العامة.

السقاية في التراث العربي

كانت سقاية الماء في التراث العربي مهمة جداً، وكان لها منزلة عظيمة ومعروفة، وقبل ظهور الإسلام كان شرف السقاية والرفادة لحجاج الكعبة متروك لفرع بني هاشم من فروع قريش التي كان لكل منها مهمة خاصة بها، إلا أن مهمة سقاية الحجاج بماء صالح للشرب كانت من بين أكثر هذه المهام تقديراً، فقد ذكر ابن هشام أن أشراف قريش قبل الإسلام تباروا في أخذ السقاية بجوار الكعبة لأن فيها رفعة لهم بين قومهم. ولم يكن توفير المياه للحجاج مهمة يسيرة لشح المياه في مكة. فكان من يتولى المنصب ينشئ أحواضاً من الجلد يضعها في فناء الكعبة، وينقل إليها المياه العذبة من الآبار على الإبل في المزاود والقرب.

في الحقب اللاحقة على ظهور الإسلام تبارى الحكام والخلفاء والسلاطين والملوك، وكذلك أثرياء المسلمين، في إنشاء "الأسبلة" أو خزانات المياه العامة التي توفر الماء النظيف مجاناً لعابري السبيل في المدن الإسلامية النامية. وكان إنشاؤها بهدف تأمين مياه الشرب للمارة طلباً للثواب الديني من جهة، ولتنظيم التوزيع العادل للماء في الإطار العمراني والاجتماعي للمدينة الإسلامية الناشئة من جهة أخرى. كما أنشأوا أيضاً أحواضاً لتوفير المياه لشرب الدواب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في مدينة فاس المغربية كما في سائر المدن العربية القديمة وبعض من المدن الحديثة، كثيراً ما كان تأمين الماء العذب للمارة مجاناً عبر سقايات الماء المنتشرة في أحيائها القديمة، لمن يحتاج إليها، من عابري السبيل، ولذلك كانت تسميتها سقايات ماء السبيل. ومثلت سقايات ماء السبيل في فاس تحفاً معمارية تنتشر في دروب المدينة وساحاتها، واحتوت هذه السقايات على فنون الزخرفة والنقش والخط العربي والفسيفساء، وأكواب فخارية ونحاسية مزينة برسوم أو نقوش.

وكلمة سبيل من الفعل العربي، سبل الماء أي أجراه ويسره للناس، ويعد ذلك من أرفع درجات الخير لدى المسلمين. وهذه السبل ظهر منها أنواع حديثة كبرادات المياه الصالحة للشرب الموزعة في الأماكن العامة، وهي على رغم كونها آلية وصناعية إلا أنها تؤدي دور سبيل الماء القديم في تأمين الماء الصالح للشرب لمن يحتاج إليه.

الساقي القديم يعود

في القاهرة القديمة حين كانت تمر فترات من الجفاف وهبوط مستوى نهر النيل كانت المياه الآتية من البرك والمخزنة في الآبار تصبح عكرة ومليئة بالطمي، ولا تصلح للشرب إلا بعد معالجتها، فظهرت مهنة "السقا" الذي يجلب المياه النقية من النيل إلى قلب القاهرة، ويبيعها في قرب من الجلد. ويذكر الرحالة ابن بطوطة بكتابه "تحفة النظار في غرائب الأمصار"، أنه حين زار القاهرة في عهد الناصر محمد الثالث كان فيها 12 ألفاً من سقاة الماء يركبون الجمال، إضافة إلى 30 ألفاً يمشون على أقدامهم، ويحملون المياه من النيل إلى التجمعات السكنية، وكل جمال مسجل لدى ديوان السلطان ويؤدي إتاوة أو ضريبة نظير السماح له بالعمل. أما المياه التي تباع في الأكواب للمارة في الشوارع، فخضعت لرقابة الشرطة (الحسبة) لمنع بيع المياه المخزنة في الآبار، والسقا الذي تثبت عليه تهمة بيعها كان يعاقب.

 

ويظهر الساقي في الصور القديمة بملابس عادية وبسيطة وقليلة الألوان والزركشة، لكن مع مرور الوقت طرأت تغييرات على ملابسه وصار يتميز بهندامه المزركش، وطربوش أحمر حاملاً الجرس الذي يقرعه لجذب انتباه المارة إليه، يحمل "قربة" مصنوعة من جلد الماعز يحفظ فيها الماء، وكؤوس نحاسية بأحجام مختلفة، هذا النوع من السقاة باتوا يمثلون فولكلوراً سياحياً في ساحات المدن، فيلتقط السياح صوراً إلى جانبهم، أما شرب المياه من الخزانات التي يحملونها على ظهورها فربما لا يلجأ إليه إلا المضطر هذه الأيام، بعد أن كان الساقي في الزمن الماضي إحدى المؤسسات الرئيسة داخل المجتمع المديني العربي. ويعد بعض الصحافيين الذين كتبوا عن ساقي الماء في الأسواق السياحية الحديثة يتحول إلى ظاهرة سياحية، إذ لم يعد من حاجة إلى خدماته في الوقت الراهن في معظم الأماكن المأهولة بالسكان في العالم العربي.

قديماً استعان سكان المدن التونسية بالجمالة والحمارة (سائقي الجمال والحمير) لنقل الماء إلى المساجد والمنازل في فصول الجفاف. وفي الفصول الحارة كان الكبار والأطفال من التونسيين يتجولون في محطات القطارات والحافلات وسيارات الأجرة لبيع الماء. في العقد الثاني من القرن الـ21 عاد "القرباجي"، لكن بسيارات رباعية الدفع وبراميل وخزانات بلاستيكية بدلاً من القرب الجلدية والحمير والجمال القديمة. في المغرب العربي كان ساقي الماء يقدم الخدمة مجاناً أو مقابل أجر بسيط، ويوجد عادة في الأسواق والمقابر، وتعود تسمية القراب نسبة إلى حمله لقربة الماء.

الأمم المتحدة والمياه

في عام 2010، أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة صراحة بحق الإنسان في المياه والمرافق الصحية. وأعلنت أنه لكل فرد الحق في الحصول باستمرار على قدر كاف ومأمون ومقبول وممكن مادياً وميسور الكلفة من المياه للاستعمال الشخصي والمنزلي. وتم اعتبار حق الإنسان في الحصول على مياه الشرب المأمونة للمرة الأولى من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان كجزء من القانون الدولي الملزم في عام 2010.

 

وبعد 14 عاماً من ذاك الإعلان يفتقر واحد من كل أربعة أشخاص، أي ملياري شخص في جميع أنحاء العالم إلى مياه الشرب المدارة بصورة آمنة، بحسب منظمة الصحة العالمية و"اليونيسيف". وبحسب المتحدث باسم الأمم المتحدة ستيفان دو جاريك أنه "في الوقت الحالي، يتأثر أكثر من ثلث سكان العالم بندرة المياه"، وأكمل قائلاً إن "60 في المئة من جسم الإنسان يتكون من الماء، لذلك ليس من المبالغة القول إن ندرة المياه هي مسألة حياة أو موت".

وقد خلص أحد تقارير اللجان الأممية إلى أن 40 في المئة من سكان العالم يعانون شح المياه، وسيتعرض ما يصل إلى 700 مليون شخص إلى خطر التهجير بسبب شح المياه الشديدة بحلول عام 2030. وفضلاً عن ذلك، يضطر أكثر من ملياري شخص إلى شرب المياه غير المأمونة. وبحسب التقارير الأخيرة الصادرة عن الأمم المتحدة ومنظماتها المعنية، كان في عام 2021، أكثر من ملياري شخص يعيشون في بلدان تفتقر إلى المياه الصالحة للشرب والاستعمال اليومي في النظافة الشخصية.

وفي عام 2022، استخدم ما لا يقل عن 1.7 مليار شخص لمياه الشرب من مصادر ملوثة بالفضلات بسبب سوء إدارة مياه الصرف الصحي في المناطق الحضرية والصناعية والزراعية، وتكون ملوثة بصورة خطرة بالمواد الكيماوية التي تشمل الزرنيخ والفلوريد. وتشير التقديرات إلى وفاة نحو مليون شخص سنوياً بسبب الإسهال نتيجة لعدم مأمونية مياه الشرب وخدمات الصرف الصحي وعدم الحفاظ على نظافة اليدين.

اقرأ المزيد

المزيد من منوعات