المنافسة الحادّة بين الولايات المتّحدة الأميركية والصين قد تكون سبباً للتوتّر المستجدّ بين روسيا وأميركا في شأن معاهدة القوى النووية المتوسطة المدى. فوفق مجلة "ناشيونال إنترست" الأميركية، هدفت واشنطن من الانسحاب من الاتفاقية إلى الدخول في حقبة جديدة من المنافسة الإستراتيجية مع الصين في مياه المحيط الهادئ جنوب شرق آسيا. فالصين، التي لم توقّع على المعاهدة، تقوم بتطوير قدرات صاروخية تعتبرها واشنطن تهديداً لقواتها في المحيط الهادئ. وإن صحّ ذلك، قد يكون العالم على مشارف حرب عالميّة باردة جديدة، إنّما هذه المرّة لن تكون ثنائيّة، بل متعدّدة الأقطاب.
فقد رجّحت أندريا تومسون، مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الحد من التسلّح والأمن الدولي، أنّ تعلّق الحكومة الأميركية خلال نهاية الأسبوع الحالي التزامها معاهدة القوى النووية المتوسطة المدى مع روسيا، وذلك بعد فشل مباحثات البلدين في إحراز تقدّم في هذا الشأن، وانتهاء مهلة الستين يوماً التي أعطتها واشنطن لموسكو للامتثال مجدّداً للمعاهدة. وقالت تومسون، في مقابلة مع وكالة "رويترز"، إنّ "الروس ما زالوا ينكرون انتهاك المعاهدة"، ما سيدفع واشنطن إلى الانسحاب منها. وأضافت أنّ الانسحاب سيسمح لوزارة الدفاع الأميركية "أن تبدأ فوراً، إن أرادت ذلك، تطوير صواريخ طويلة المدى، ما يرفع احتمال نشرها في أوروبا، وأن تستخدم برامج أوقفت استعمالها التزاماً بالمعاهدة". وأوضحت تومسون أنّ عمليّة الانسحاب الرسمي تستغرق ستة أشهر، وفي إمكان واشنطن اتّخاذ القرار بدءاً من الثاني من فبراير (شباط). لكنهّا توقّعت إجراء مزيد من المناقشات، قائلةً إنّ "الديبلوماسية لا تنتهي أبداً".
وأعلن سيرجي ريابكوف، نائب وزير الخارجية الروسي، استمرار موسكو في محاولة الوصول إلى اتفاق، وأسف لفشل المباحثات في معالجة الخلاف المتعلّق بالمعاهدة بين البلدين، معبّراً عن قلقه على "مصير الأمن الأوروبي والدولي". واتّهم واشنطن بتجاهل الشكاوى الروسيّة حول الصواريخ الأميركية، وباتخاذها "موقفاً تدميرياً" في هذه المسألة. وعن مهلة الستين يوماً، نقلت وكالة "سبوتنيك" الروسية عن ريابكوف قوله إنّ "الولايات المتّحدة لم ترد التوصّل إلى اتفاق، بل مارست هذه اللعبة لتغطية قرارها الداخلي بالانسحاب من المعاهدة".
وكان البلدان أجريا مباحثاتهما حول هذه المسألة في العاصمة الصينية بكين، على هامش اجتماع الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والصين وفرنسا والمملكة المتحدة، لبحث عدم انتشار الأسلحة النووية ونزعها. علماً أنّ هذه الدول تملك أسلحة نووية وموقّعة على معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية. وطالبت الولايات المتّحدة على لسان تومسون، خلال الاجتماع الأربعاء في 30 يناير (كانون الثاني)، روسيا والصين بمزيد من الشفافية، متهمةً إياهما بتقديم تقارير غير كاملة عن برامجهما النووية، موضحة أنّ "الهوة كبيرة بين تقارير الولايات المتحدة من جهة، وتقارير الصين وروسيا من جهة ثانية، وذلك على الرغم من الاتفاق المسبق حول شكل تقديم التقارير".
فردّ ريابكوف معتبراً أن "السلوكيات الأحادية الجانب" تهديد لجهود عدم انتشار الأسلحة النووية، مضيفاً أنّ هناك نقصاً واضحاً بالثقة المتبادلة بين الدول الخمس.
فشل المباحثات بين واشنطن وموسكو، حول مصير معاهدة الصواريخ النووية المتوسطة المدى بينهما، ليس الأوّل. إذ أخفق ديبلوماسيّون كبار من البلدين، خلال مباحثات في جنيف في وقت سابق من الشهر الحالي، في الوصول إلى أيّ نتائج إيجابيّة، واقتصر اجتماعهما على تبادل اللوم في شأن من يهدّد الاتفاقيّة.
ما هي هذه المعاهدة ولماذا الخلاف في شأنها؟
تعود معاهدة الصواريخ النووية المتوسطة المدى الثنائية إلى عام 1987، حين وقّعها الرئيس الأميركي رونالد ريغان ورئيس الاتحاد السوفياتي ميخائيل غورباتشيف خلال حقبة الحرب الباردة بينهما. وتعهّد البلدان بموجبها عدم صنع أو تجريب أو نشر أي صواريخ باليستية أو مجنحة أو متوسطة، وتدمير منظومات الصواريخ كافة، التي يتراوح مداها المتوسط ما بين 500 و5500 كلم. وساهمت المعاهدة، منذ تاريخ توقيعها إلى اليوم، بإنهاء الانتشار الخطير للصواريخ النووية في أوروبا. وبحلول مايو (أيار) 1991، تم تنفيذ المعاهدة في شكل كامل، إذ دمر الاتحاد السوفياتي 1792 صاروخاً باليستياً ومجنحاً، ودمرت الولايات المتحدة 859 صاروخاً. وتشير نصوص المعاهدة إلى أنها غير محددة المدة، ويحق لكل طرف الانسحاب منها بعد تقديم أدلة مقنعة للخروج، وفق موقع "أرمز كونترول" الأميركي.
واستجدّت الأزمة حول هذا الملف، بعد اتّهام الولايات المتّحدة الأميركيّة روسيا بتركيز نظام صاروخي نووي جديد ينتهك المعاهدة، واسمه "نوفاتور 9أم729" (Novator 9M729) ويطلق عليه حلف الناتو اسم "إس إس سي-8" (SSC-8). إلّا أنّ موسكو تنكر الأمر بحجّة أنّ مدى الصاروخ هو 480 كلم، ممّا يخرجه من نطاق المعاهدة، وتتّهم بدورها واشنطن باختلاق ذريعة كاذبة للانسحاب من المعاهدة لتتمكّن من تطوير صواريخ جديدة.
وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب تعهّد بالانسحاب من المعاهدة، بينما هدّد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بسباق تسلح جديد، قائلاً إنّ أوروبا ستكون ضحيته الأولى.
وفي محاولة منها لطمأنة المسؤولين الخارجيّين بأنّ أسلحتها تتوافق مع المعاهدة، كشفت روسيا لمسؤولين عسكريين أجانب، الأسبوع الماضي أمام الإعلام، عن نظامها الصاروخي "نوفاتور 9أم729". وأتى الردّ الأميركي بأنّ هذا العرض غير كاف للتثبّت من أنّ مدى الصاروخ لا ينتهك المعاهدة، وأضافت أنّه ينبغي "تدميره في شكل موثوق" في حال أرادت موسكو الحفاظ على المعاهدة.
أيّام قليلة تفصلنا عن الثاني من فبراير، فهل يكون هذا التاريخ بداية مرحلة نووية جديدة؟ في الانتظار، نأمل في أن تفلح الديبلوماسيّة بتجنيب العالم ويلات جديدة نحن بغنى عنها.