Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"قصر طوكيو" في باريس يحتفي بفنانين عرب معاصرين

أعمال بصرية تشخص عيوب مجتمعاتنا أو توثق لماض نضالي منسي

عمل للفنان الجزائري  محمد بورويسة في المعرض (خدمة المعرض)

ملخص

بموازاة معرض "تصدعات"، الذي يتألف من أعمال تعود بشكل رئيس لفنانين عرب، وتطبعها تجربة المنفى والتمزق بين هنا وهناك، وبين حاضر وماض، ينظم "قصر طوكيو" في باريس حالياً معرضين آخرين يعكسان الاهتمام الذي بات الفن العربي المعاصر يحظى به في الغرب، وفي عاصمة "الأنوار" خصوصاً.

المعرض الأول مخصص للفنان الجزائري المقيم في باريس محمد بورويسة، الذي يطمح في عمله، الذي عرضت ثماره في أهم متاحف الغرب، إلى بلبلة الحدود بين خرافة وواقع موثق، بغية تسليط الضوء على حقائق اجتماعية راهنة. كيف؟ عبر التأمل في مجتمعات تثير اهتمامه، ونسجه، انطلاقاً من تجارب شخصية حميمة، سرديات جماعية يستقيها من مرارة الواقع المقارب. سرديات تشهد في الوقت نفسه على ممارسته المبتكرة للرسم والنحت والتصوير الفوتوغرافي والتجهيز والأداء الحي.

وفعلاً بين أجساد وعقليات سجينة البيئة التي تعيش فيها، وهويات منبوذة، ولغات يخضع الناطقون بها لقمع أو ارتهان، يسعى بورويسة منذ بداية مسيرته الفنية إلى كشف المعاناة التي يتخبط بها الأفراد المهمشون، وتحليل آليات السلطة ومفاعيلها عليهم، وأحياناً على مجموعات بشرية كاملة محرومة من حقوقها. وبإلقائه في هذا السياق نظرة بصيرة قارصة على مجتمعاتنا وعيوبها، يضع أفرادها وأولئك المحتاجين من بينهم خصوصاً في مركز اهتماماته، طامحاً إلى تعرية تراجع القيمة البشرية أمام أنظمة اجتماعية تهرس أية نزعة فردية أو هوية مختلفة أو متعددة.

ولا يكتفي بورويسة في التأمل الصرف في عيوب المجتمعات التي يقاربها، بل يصور أيضاً الوسائل التي يلجأ إليها ضحايا هذه العيوب لبناء أو إعادة بناء أنفسهم. ومن هذا المنطلق، يشكل التبادل والحوار والمشاركة محاور أساسية في عمله، كما يتجلى ذلك في انغماسه في حياة الطوائف المهمشة التي شكلت مواضيع لبعض أعماله، كتفاعله الحميم عام 2012 مع أولئك الذين يترددون بانتظام على مقر وكالة العاطلين عن العمل في مرسيليا، ضمن مشروع "يوتوبيا أوغست ساندر"، واستخدامه نظام التصوير الفوتوغرافي بالأبعاد الثلاثة لتسليط الضوء على طبيعة المكان المذكور وأولئك الذي باتوا يشكلون فئة اجتماعية جديدة، فئة ممارسي مهنة البحث عن عمل، أو مشاركته على مدى 10 أشهر الحياة اليومية لـ "فرسان فليتشير ستريت" في فيلاديلفيا، وهي جمعية خيرية تسعى منذ عقود إلى إخراج أطفال الطائفة السوداء المهمشة من الشارع عبر تعليمهم الاعتناء بأحصنة، أو تنظيمه ورشاً مسرحية مع سجينات بغية حثهن على الكلام وإيصال أصواتهن إلى المجتمع.

أما معرض بورويسة الحالي فيشكل، نظراً إلى طبيعته الاستعادية، فرصة فريدة للتآلف مع مجمل عمله، إذ يضع تحت أنظارنا نماذج مما أنجزه منذ بداية مسيرته وحتى المرحلة الراهنة، من دون هاجس الشمولية أو الترتيب الزمني. أعمال تعكس الجغرافيات المتعددة التي تأمل الفنان فيها ونشط داخلها، من مدينة البليدة الجزائرية، مسقط رأسه، حيث طور الكاتب والطبيب النفسي فرانز فانون نظريته التحليلية للارتهان العقلي في قلب الهيمنة الاستعمارية، إلى مدينة جينفيلييه المحاذية لباريس، مكان إقامة وعمل بورويسة، مروراً بشارع "فليتشير" في فيلادلفيا وسماء غزة المكلومة اليوم.

وفي هذه الأعمال المتباينة في وسائطها وأشكالها ودلالاتها، يتجلى سعي بورويسة إلى توسيع مدى اللغات والمراجع الحميمة والجماعية، والأشكال والجماليات، بهدف إحداث فروقات وفجوات وانقلابات وتوترات، وبالتالي خلق فضاء آخر مبلبل، يتراوح بين حديقة مسكونة وكائن حي. أعمال تتوزع داخل المعرض على شكل مدونة من أصوات ورسوم ومائيات وصور فوتوغرافية وأفلام ومنحوتات وموسيقى تجريبية ونباتات. ومن صمت إلى صراخ، مروراً بهمس أشباح من الماضي، تواجهنا هذه الأعمال بتلك الحساسية المتأججة التي تقف خلفها وتتوق بمختلف تعبيراتها إلى فضح ما يسممنا، وإلى الإفلات منه على حد السواء.

المعرض الآخر في "قصر طوكيو" يحمل عنوان "ذكر قلق: متاحف منفى وتعاضد"، ويطمح إلى تتبع قصص التزام فنانين وأربعة متاحف القضايا التي طرحتها الحركة الدولية المناهضة للإمبريالية من الستينيات وحتى ثمانينيات القرن الماضي. معرض وثائقي إذاً هو ثمرة بحث بدأته اللبنانيتان كريستين خوري ورشا سلطي عام 2008، وتناولتا فيه سرديات منسية لما تسميانه "متاحف المنفى" أو "متاحف متكاتفة عابرة للقارات"، نظراً إلى كونها في الواقع معارض متنقلة جسدت دعم فنانين للنضالات التحررية في فلسطين ونيكاراغوا وتشيلي وجنوب أفريقيا وبلدان أخرى.

محرك هذا البحث هو "المعرض الفني الدولي من أجل فلسطين" الذي أقيم في بيروت عام 1978، وقدم مجموعة من الأعمال الفنية كانت مقدرة لتأسيس "متحف تضامني" في المستقبل. ولمواجهة النقص في الأرشيف المؤسساتي، لجأت خوري وسلطي إلى أرشيفات خاصة، وأنشأتا بنفسيهما أرشيفاً شفهياً عبر تسجيلهما وتصويرهما نحو 50 مقابلة مع أشخاص معنيين بهذا البحث. ومن الوثائق التي جمعتاها أثناء رحلات قادتهما إلى الأردن وسوريا والمغرب ومصر وإيطاليا وفرنسا والسويد وألمانيا وبولندا والمجر وجنوب إفريقيا واليابان، ترتسم في معرضهما الحالي شبكات متقاطعة تربط فنانين وفنانات ومناضلين ومناضلات ومجموعات من أصول وآفاق مختلفة حول مداخلات وتظاهرات ومعارض ومجموعات فنية تنقلت في مختلف أنحاء المعمورة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

قيمة هذا المعرض الفريد من نوعه تعود من دون شك للمسيرة الحافلة بالإنجازات لكل من منظمتيه. فكريستين خوري باحثة في تاريخ الثقافة العربية وتاريخ الفن، تهتم منذ سنوات بموضوع تداول وجمع وعرض الفنون البصرية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وأيضاً بالممارسات التي تقف خلف تكوين أرشيفات في هذا الموضوع ونشر المعارف المتعلقة به، وهي عضو في مجلس إدارة "المؤسسة العربية للصورة".

ورشا سلطي كاتبة وباحثة سينمائية تعمل منسقة برامج في مهرجان تورنتو السينمائي، وشغلت بين عامي 2004 و2010 منصب المديرة الفنية لمؤسسة "آرتي إيست" في نيويورك. ومن بين المشاريع الكثيرة التي أنجزتها، نكتفي بذكر "رسم خرائط الذاتية: التجريب في السينما العربية من الستينيات حتى اليوم"، لـ"متحف نيويورك للفن الحديث"، بينالي الشارقة العاشر، ومعرض استعادي حول السينما السورية بعنوان "الطريق إلى دمشق" الذي استضافه "مركز لينكولن" الثقافي في نيويورك.

ومن إنجازات خوري وسلطي المشتركة تأسيسهما "مجموعة دراسة تاريخ الحداثات العربية في الفنون البصرية"، وهي منصة بحث في التاريخ الاجتماعي للفن داخل العالم العربي، وكتابتهما بحثاً بعنوان "متحف بيروت الخيالي: وعد الحداثة في عصر الاستنساخ الميكانيكي"، وطبعاً مشروعهما الأخير، "ذِكر قلِق"، الذي لم يكتفيا بتحويله إلى معرض وثائقي عام 2015، بل استقيا منه أيضاً كتاباً مصوراً صدر عن "متحف وارسو للفن الحديث" عام 2018.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة