ملخص
اختار المخرج السوري حسين ناصر شخصيات من مسرحيات عدة للشاعر الإسباني لوركا وجمعها في عرض درامي موسيقي راقص، مقدما مشهدية نابعة من أجواء صاحب "عرس الدم" التي تختلط فيها المأسوية بالغنائية.
توالت عبر عقود مضت توليفات عدة في المسرح العربي من نصوص الشاعر والمسرحي الإسباني فيديريكو غارثيا لوركا (1898- 1936)، ولعل أبرزها كان العرض الذي قدمته المخرجة العراقية روناك شوقي عام 1988 بعنوان "نساء لوركا"، واعتمدت وقتها على توليف عرضها من نصوص عدة للشاعر الإسباني، وشملت شخصيات من تراجيدياته الثلاث المعروفة بـ "ثلاثية الدم" التي تشتمل كما بات معروفاً على مسرحياته "يرما" و"عرس الدم" و"بيت برناردا ألبا".
المخرج السوري حسين ناصر استعاد هذه التوليفة في عرضه الجديد "حمائم غرناطة" مع إضافة شخصيات من مسرحية "روزيتا العانس"، محاولاً الذهاب نحو مستويات رمزية لإسقاطها على واقع النساء السوريات في الحرب.
ويروي "حمائم غرناطة" قصصه في تجاور بين شخصيات لوركا، فتحضر شخصية الأم القاسية برناردا (مثال جمول)، وتحضر معها تعاليمها لبناتها الخمس في التزام طقوس الحداد لثمانية أعوام بعد موت الأب وعدم مغادرة البيت، فيما تتمرد ابنتها الصغرى أديلا (أليسار إسبر) على تعاليم الأم وجبروتها، وتقع في غرام خطيب أختها الكبرى من غير أب، ويقع الصراع بينها وشقيقتها مارتيريو (كاتيا عباس)، وصولاً إلى مشهد انتحار الأخت الصغرى بعد افتضاح أمرها بوصالها مع خطيب شقيقتها في إسطبل الخيول.
في المقابل تحضر شخصية روزيتا (سارة قرنقوط) لتروي بدورها أطوار الوردة التي تتفتح، ثم تنضج، ثم تذوي نحو الذبول بعد انتظارها لخطيبها الذي سافر إلى أميركا الجنوبية واعداً إياها بالعودة، فعاشت أعواماً طوال في انتظاره إلى أن فقدت شبابها، لنعرف في النهاية أن كل رسائل حبيبها إليها من المغترب كانت نوعاً من الخداع والرغبة في التخفيف من عقدة الذنب تجاهها بعدما تزوج فتاة أخرى، وتركها لمصير العنوسة وضياع الشباب. تماماً كما هي حال العروس (ندى جوخدار) بطلة مسرحية "عرس الدم" التي تنتهي هي الأخرى إلى مصير أكثر عنفاً بعد أن يقضي حبيبها ليوناردو (جورج الحايك) في خلاف مع عريسها التي هربت منه ليلة العرس، على خلفية خلاف على الأرض بين عائلتين في الريف الأندلسي.
خلفية موسيقية
هذه الأحداث، على تداخلها، ساقها مخرج ومُعِد "حمائم غرناطة" على خلفية موسيقية حية تبدأ بقرع أجراس كنائس غرناطة وقت الفجر، وبصورة للشاعر الإسباني توسطت خشبة مسرح الحمراء الدمشقي، إذ اعتمد حسين ناصر على مزاوجة الصراع النسائي مع إنشاد المغنية (حلا طراد) لعبارات "يا أجراس الفجر التي تقرع في غرناطة، إن العذارى يرقبنك وهن يسفحن الدمع على الشمس التي تلفها العتمة، يا أجراس الفجر التي تقرع في غرناطة، إن العذارى يرقبنكِ".
ويمضي "حمائم غرناطة" بعدها إلى استعراض الأحداث عبر مرافقة عزف كل من كلارينيت (علي الصالح) وبيانو (رافي خزام) وغيتار (نشوان سليب) وإيقاع (لاري عوض). جوقة من آلات موسيقية وغناء واكبت كل لحظة من لحظات هذا العرض الذي شارك عام 2007 في مهرجان طنجة للمسرح الجامعي، ليقدم أخيراً في مدينة حمص لمصلحة فرقة المسرح القومي، ويتمكن من تحقيق معادلة المسرح الشامل في دمجه بين عناصر الفرجة والمسرح الغنائي الراقص.
وعمد مخرج "حمائم غرناطة" إلى مفصلة مناظره رقصاً عبر شخصية المرأة الفرس (سالي أحمد) التي اشتقها المخرج من حوار يتردد على ألسنة شخصيات مسرحية "بيت برناردا ألبا"، لا سيما شخصية الجدة ماريا خوسفا (لمى شحادة)، وأتت هنا كناية عن الحصان الفحل الذي يضرب بقوائمه جدران الحظيرة بقوة طوال فترة المسرحية بعد أن تم منعه من العرض على المُهرات لإجراء التزاوج منهن، وهذه إشارة أرادها المخرج عن أجواء القمع التي تسود منزل برناردا، وما وصلت إليه النساء في إقاماتهن الجبرية من صراع مع رغباتهن الدفينة بسبب تعاليم الأم الصارمة والتقاليد التي تحسب عليهن أنفاسهن، وتمنعهن من تقرير مصيرهن والاقتران بمن يحببن.
وفي سياق متصل حافظ مخرج "حمائم غرناطة" على مساحة فارغة طوال العرض، إلا من صندوق عرس وردي اللون توسط الخشبة كترميز هو الآخر لصندوق الجدات وما يتوارثنه النساء منه عبر أجيال وأجيال عن العيب والحرام والتحذير من الانجراف إلى الحب. معادلة الرقص والموسيقى والتمثيل حاكت أجواء الريف الإسباني والمناخات التي كان لوركا نفسه يضفيها على نصوصه عبر الشعر الغنائي والنزعة الرومانسية العابقة بطقوس الزفاف وهدهدة الأطفال والخناجر والجياد البرية الراكضة بين شجيرات العنب وغلال القمح وأهازيج الحصاد في ضوء القمر.
كل ذلك حاول "حمائم غرناطة" أن يطوعه لمصلحة أداء جماعي اقترب في أحيان كثيرة من أسلوب الجوقة أو الكورال، مع التنويع على بعض الأداء الفردي لممثلات العرض، إذ أخذ الحوار في هذه التجربة منحىً إنشادياً على حساب حوار درامي متصاعد، وكان الرقص يقاطع الحال الدرامية، في وقت عملت الموسيقى الحية على تظهير شحنات انفعالية متقطعة من الأداء. طريقة انتهجها الإخراج لصراع ما إن يسخن حتى يعود وينطفئ لمصلحة اقتحام المرأة الفرس (الراقصة) لمشاهد المسرحية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في المقابل عملت الإضاءة (محمد الحسين) على ملء فراغات من فضاء اللعب، وشرعت في بث إنارة قمرية حاكت حضور قمر غرناطة في نصوص صاحب "شاعر في نيويورك". القمر الذي كان السبب في افتضاح أمر العشاق، فضوءه كان دليلاً للقاتل في الليالي التي شهدت مقتل ليوناردو وانتحار أديلا مشنوقة قرب المهرات اللاتي يتشوقن إلى حصانهن المقيد خلف جدران حظيرة مجاورة. إشارات مررها العرض عن التسلط الاجتماعي والأعراف التي تحاصر النساء السوريات في الحرب، ولعل هذا ما انسجم مع تصميم الأزياء (إبراهيم طيبا)، إذ تنوعت ألوان أزياء الشخصيات بين الأبيض والأحمر والأسود، وصولاً إلى حضور الضوء مع الزي في وحدة عضوية لافتة.
الشهوة والبغضاء والحب والمصير الذي يجر وراءه موتاً دامياً تجسد في "حمائم غرناطة" عبر متتاليات من صراعات نسائية تعلوها ضحكات الرغبة والأنوثة المحتجزة خلف جدران صماء من التقاليد المتكلسة، وهذا ما يمكن ملاحظته من محاولة مخرج العرض إيجاد معادل نصي لمأساة النساء في بلاده، وما جرته الحرب عليهن من فظائع التشرد والاغتصاب والقتل، وما لحق بهن من ويلات في ظل فقدانهن الأمل في الحب ودفء العائلة، مما قد يكون استعصى نقله في التوليفة الجديدة من تلك المآسي الريفية الإسبانية التي جرى معظمها في تسعينيات القرن الـ19 وصولاً إلى ثلاثينيات القرن الـ20، لا سيما على صعيد خيار إبقاء اللغة الفصحى كلغة حوار للعرض، في وقت كان من الممكن تقديم معادل من محكيات الريف السوري والإطلالة أكثر فأكثر على راهن البلاد الدموي.