ملخص
اعتبر الدارسون دائماً أن المسرحي الفرنسي جان راسين قدم في "بريتانيكوس" عملاً مأسوياً تاريخياً، ولكن من دون أن يتخلى في الوقت نفسه عن نزوعه الدائم إلى جعل النص سياسياً
حين كتب المسرحي الفرنسي جان راسين (1639 - 1699) مسرحيته الكبرى "بريتانيكوس" كان في نحو الـ50 من عمره، وكان يعيش قمة ذلك المجد الذي صنعته له عشرات المسرحيات التي كتبها، والتي وضعته في مكانة أولى بين كبار كتاب المسرح التراجيدي في كل الأزمان. وفي تلك الأزمان المبكرة، نسبياً، على أية حال، كان الصراع - ولا نقول التنافس فقط - محتدماً بين جماعة راسين وجماعة كورناي، أي بين مجموعتين متحلقتين من حول هذا وذاك اللذين كانا قطبي المسرح التراجيدي الفرنسي في ذلك الحين، مقابل زميلهما موليير الذي كان زعيم المسرح الكوميدي من دون منازع. وهو صراع شغل الأوساط السياسية والمسرحية الفرنسية في وقت كان فيه ثمة استياء عام من تحول حكم لويس الـ14 إلى نوع من ديكتاتورية لم تكن تشمل رد فعل سيد البلاد على الإنتاج المسرحي على أية حال، بل كان ذلك الإنتاج يحظى بالرضا في نوع من التنفيس عن مشاعر غضب معمم ومكتوم. ومن ناحية أخرى في ذلك الصراع، الذي كان يغذيه الكاتبان الكبيران بالتأكيد، كان الانتصار حيناً لراسين وحيناً لكورناي. ويتمثل الانتصار إما بكتابة عمل يلفت الأنظار أو برضا البلاط.
واحد للتاريخ والثاني للعواطف
في صورة عامة كان كورناي يعد أكثر قدرة على كتابة المسرحيات التاريخية من راسين. أما هذا الأخير فكان يعتبر من ناحيته أكثر قدرة على رسم عواطف الشخصيات، ولعب لعبة الإسقاط المعاصر على ما يستخدم من تواريخ في مسرحياته. وبفضل هذا التمايز بين الاثنين كان ثمة نوع من الأرجحية يعطى لكورناي. ففي ذلك الزمن كان عامة المشاهدين بمن فيهم متفرجو الطبقات العليا والقصر يفضلون مشاهدة أعمال ترفه عنهم، من دون أن تزعجهم في تفسيرات راهنة. وبالنسبة إليهم كان مسرح كورناي التاريخي يستوفي هذا المطلب. وراسين إذ أدرك عمق ذلك التفضيل ذات مرة، قرر أن يقارع خصمه في عقر داره: قرر أن يكتب مسرحية تاريخية خالصة من الصعب الموازاة بينها وبين ما يعتمل من أحداث في زمنه. ومن هنا كانت مسرحية "بريتانيكوس" التي اقتبسها عن نص تاريخي وجده لدى تاسيثيوس. والحقيقة أن النتيجة كانت مبهرة، إذ إن المهتمين والدارسين اعتبروا دائماً أن راسين قدم في "بريتانيكوس" عملاً مأسوياً تاريخياً، ولكن من دون أن يتخلى في الوقت نفسه عن نزوعه الدائم إلى جعل النص سياسياً، في صورة أو أخرى. سياسياً وحتى من دون لعبة الإسقاط التي كان يمكن في مثل حال هذه المسرحية أن تشكل خطراً ما.
مجرد تسييس للتاريخ
بالنسبة إلى راسين كان من المطلوب تسييس التاريخ لا أكثر. وهو تمكن من هذا مسجلاً على منافسه انتصاراً واضحاً. أما اليوم، ومنذ اكتشافات فرويد ودمج هذا الأخير عالمي الحلم والإبداع في مسائل التحليل النفسي، أضاف الباحثون إلى "بريتانيكوس" بعداً جديداً، إذ قالوا إنها مسرحية سيكولوجية، حتى أكثر منها سياسية أو تاريخية، إذ إن الكاتب مارس، حتى في هذا العمل المستقى من أحداث التاريخ، براعته في سبر دوافع الشخصيات والخلفيات الذاتية للعلاقة بين البشر وما يفعلون. وضمن إطار هذا البعد صار ممكناً مذاك النظر إلى "بريتانيكوس" كعمل استثنائي يقفز من حيز القرن الـ17 الذي كتبت المسرحية فيه، إلى القرن الـ20 مباشرة. ومع هذا، فإن أحداث "بريتانيكوس" قديمة جداً ومعروفة في كتب التاريخ، حتى وإن كان تاريخ شخصيتها الرئيسة، أي الإمبراطور نيرون، الفعلي والمعروف، يبدأ بعد أن تنتهي أحداثها. فإذا كان نيرون اعتبر دائماً وحشاً قاسياً، خلال سنوات حكمه، وحشاً لم يتورع عن الغناء وإبداء السرور وهو يشاهد روما تحترق، فإن المسرحية اهتمت، قبل أي شيء آخر، بأن تقدم الوحش في مرحلة التكوين: متى وكيف اكتملت وحشيته ولماذا؟ وراسين، الذي عبر عن هذا في تقديمه للطبعة الأولى من "بريتانيكوس"، أوضح أن رسم صورة الوحش في شبابه كان غايته هنا أكثر مما كانت غايته التأريخ للجزء الذي يعرفه الناس أجمعون من حكاية ذلك الإمبراطور الدموي.
نيرون قبل نيرون
وللوصول إلى هذا، كان على راسين أن يعود في الزمن إلى فترة تسبق كثيراً حريق روما: إلى فترة كان فيها نيرون لا يزال شاباً يضع على وجهه قناع الحكمة والفضيلة، مما جعله يشعر بانجذاب نحو الحسناء جوني، حفيدة أوغسطس، على رغم معرفته بأن بريتانيكوس يحبها وأنها تحب هذا الأخير. من هنا كانت تجليات وحشية نيرون الأولى، حين سجن الحسناء في القصر مفرقاً بينها وبين حبيبها. هنا تتدخل أم نيرون آغريبين، وهي كذلك أم بريتانيكوس ولكن من زوج آخر غير والد نيرون، هو كلاوديوس. وكانت آغريبين قد ضحت بحقوق ابنها بريتانيكوس، كي توصل نيرون إلى العرش معتقدة بأنه الأصلح لذلك. لكنها الآن وإذ بدأت تتلمس وحشية الإمبراطور الشاب، وإذ أدركت ما فعله نيرون بجوني، بات واضحاً أنها صارت تميل أكثر إلى بريتانيكوس، خصوصاً أنها باتت تلاحظ كيف أن نيرون يحاول جهده الإفلات من سيطرتها عليه. وكان نرسيس المدعي الولاء لبريتانيكوس، هو الذي أخبر نيرون بحكاية الغرام بين جوني وأخيه غير الشقيق. لكن جوني سكتت عن حبها حين التقى بها نيرون عارضاً حبه والزواج، ثم حين التقت بريتانيكوس بتدبير من نيرون الذي كان يريد أن يتأكد من الحقيقة لم تتفوه بكلمة حب واحدة لأنها تعرف أن نيرون يتجسس عليهما. المهم في الأمر أن غيرة نيرون وقسوته إزاء سلبية جوني أفلتتا من عقالهما وانتهى به الأمر إلى سجنهما معاً، وكذلك أمر بوضع أمه، إذ حاولت أن تتدخل في الإقامة الجبرية. لكنها لم تسكت... ذلك أنها حين التقته ذكرته بكل ما ضحت به من أجله، بل بالجرائم التي ارتكبتها كي توصله إلى العرش. ناكرة أنها أرادت مساعدة بريتانيكوس في الاستيلاء على السلطة.
الجميع عرضة للانتقام
في البداية يبدو على نيرون أنه صدق أمه، لكنه في الحقيقة قرر الانتقام من الجميع، وهكذا وعلى رغم نصائح مستشاره بوروس أقام مأدبة "صلح" مع أخيه، وضع له خلالها السم تخلصاً منه. وحين علمت آغريبين بهذا وجهت الاتهام مباشرة إلى نيرون بقتل أخيه وراحت تفضح جرائمه متوقعة كل ما سيرتكبه لاحقاً من جرائم. أما جوني فإنها انصرفت إلى عزلة تعبد نهائية على رغم غضب نيرون الذي ظل على هيامه بها، مما سيؤثر في حياته كلها وفي كل تصرفاته الإجرامية في المستقبل. ونعرف طبعاً أن أحداث مسرحية راسين تتوقف هنا، أي في زمن لم يكن نيرون قد تجاوز فيه أواسط العشرين من عمره بعد. في معنى أن نيرون "الآخر" المجرم الكبير الذي خلف لنا أسوأ ذكرى لإمبراطور على مدى التاريخ لم يكن قد استشرى بعد. وفي هذا الصدد، ودفاعاً عن رغبته في أن يوقف أحداث مسرحيته هذه قبل أن يصبح نيرون ما عرفناه لاحقاً، قال راسين "أنا نظرت إلى نيرون نظرتي إلى وحش حقيقي، لكنني هنا في هذه المسرحية إنما أردت أن أصور ولادة الوحش"، بل إن تحليلاً معمقاً للمسرحية سيقول لنا إن راسين يبدو مهتماً قبل أي شيء آخر برسم ملامح شخصية آغريبين التي قد يرى كثر أنها البطلة الحقيقية للمسرحية. وهو نفسه قال في معرض الحديث عن شخصيتها "آغريبين هي الشخصية التي بذلت جهدي لأصورها... في معنى أن مسرحيتي هي عمل عن فقدان الحظوة التي كانت تتمتع بها آغريبين تماماً، كما أنها مسرحية عن موت بريتانيكوس".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من حول الشخصيتين معاً
والحقيقة أن راسين ليس بعيداً من واقع مسرحيته، إذ إن الدارس المدقق لها سيكتشف بسرعة أن آغريبين وبريتانيكوس هما محوراها، أما الشخصيات الباقية، لا سيما نيرون وجوني ونرسيس، فليست هنا سوى لرسم خلفية ما حدث لتينك الشخصيتين القويتين. مما يعني أن راسين استخدم صورة نيرون رمزياً، ليرسم الشر المطلق في تأثيره في مصائر الآخرين سواء كانوا من المتواطئين معه الخائبين، أم من منافسيه الذين كانوا، هم، أجدر بالسلطة منه. ويقيناً أن راسين شاء أيضاً ومن خلال هذا كله وهذا جانب سيكولوجي أساسي في العمل، ألا يعزو الشر إلى عوامل اجتماعية فحسب، بل إلى عوامل نفسية جذرية أيضاً، ليؤكد أن السلطة قد لا تكون هي ما يفسد البشر، بل إن بعض البشر الفاسدين أصلاً يفسدونها.