ليس أخطر من الوقائع سوى التوقعات في قضية الاعتداء على منشآت النفط السعودية. خطورة الوقائع تبدأ من استهداف سيادة بلد واستقرار منطقة والتزام أميركا أمن الطاقة العالمي، ولا تنتهي بالعجز التكنولوجي عن كشف الطائرات المسيرة والصواريخ المجنحة. وخطورة التوقعات أنها تراوح بين الأسئلة الحائرة والأجوبة المتقلبة. السؤال في أميركا المنقسمة والمرتبكة هو "ما الذي يدفع الرئيس دونالد ترمب إلى التردد في الرد على التحدي، ثم التصرف كأن التحدي محصور بالسعودية وتطورات حرب اليمن؟ هل هو توقيت الدورة العاديّة للجمعية العمومية وحضور قادة العالم إلى نيويورك وحساب الانتخابات الرئاسية وموقف الأعضاء الديمقراطيين في الكونغرس، أم الاقتناع الاستراتيجي بأن الوقت حان لسحب المظلة الأمنية الأميركية التي كانت مرفوعة فوق الخليج وأمن النفط من أيام الرئيس روزفلت؟ والسؤال في المنطقة هو "هل بات من الضروري البحث عن خيارات وبدائل من أميركا لضمان الأمن الإقليمي؟ وهل المشكلة بدأت مع ترمب أم أن بداياتها سبقته، كما يوحي روبرت روث في (النيويورك تايمس) بالقول: ما قصفته الصواريخ إلى جانب المنشآت النفطية هو مبدأ انحسر منذ مدة، الاعتقاد أن هناك مظلة أمنية لحماية دول الخليج من أعدائها وخصوصاً من إيران؟".
الدرس كان مكتوباً على الجدار في الواقع. ترمب الذي سحب أميركا من الاتفاق النووي، أعلن سياسة "الضغط الأقصى" على إيران لدفعها إلى التفاوض معه، من دون خيار آخر. والمرشد الأعلى علي خامنئي رفض "التفاوض مع أميركا على أي مستوى"، واشترط حتى للحوار معها ضمن الدول الموقعة على الاتفاق النووي "إعلان التوبة والعودة إلى الاتفاق والتراجع عن العقوبات". وكل طرف بدا كأنه يحدد قواعد اللعبة، مع نفي الرغبة في حرب شاملة. طهران أعلنت بلسان وزير الخارجية محمد جواد ظريف "إن أية ضربة أميركية أو سعودية ستفجر حرباً شاملة وأن من يبدأ الحرب ليس من ينهيها". وقادة حرس الثورة ومعهم وكلاء إيران في المنطقة حددوا خريطة الرد على أية ضربة مهما تكن محدودة "من البحر المتوسط إلى البحر الأحمر والمحيط الهندي". وأميركا حذرة من الرد هرباً من حرب شاملة، ومحرجة إن لم ترد. وهي اختارت، حتى إشعار آخر، تشديد العقوبات على إيران وإرسال 100 عسكري أو أكثر إلى السعودية والإمارات للمساعدة في الدفاع الجوي. لكن إيران التي تكاد العقوبات الأميركية أن تخنقها يزيدها تشديد العقوبات حرصاً على تصعيد الردود تحت غطاء الوكلاء لئلا تواجه حرباً شاملة. وهي كالعادة تبالغ في الحديث عن قوتها، وتنصرف كأن القواعد والقوات الأميركية في المنطقة "أهداف للصيد" وليست أداة للردع. ومن الصعب أن يتغير هذا التصور إن لم تمارس أميركا رداً يكرس الردع بالفعل. وهي لم تفعل ذلك حتى عندما أسقطت إيران طائرة مسيرة أميركية في بداية الصيف.
ولا بد من القراءة في الكتاب الأميركي كما هو وليس كما نريده أو نتخيله. فلا قوة تضاهي اليوم قوة أميركا. ولدى القوة الأميركية العظمى، بحسب "النيويورك تايمس"، قوات منتشرة في 800 قاعدة في العالم. وهذا لم تصل إليه أية إمبراطورية في التاريخ بما فيها الإمبراطورية الرومانية. لكن واشنطن التي يراها الأوروبيون "روما معاصرة"، تدير أوسع إمبراطورية بلا مزاج إمبراطوري، على عكس الحال في السلطنة العثمانيّة والإمبراطوريات النمسوية - المجرية والفرنسية والبريطانية والألمانية والإسبانية والبرتغالية والبلجيكية. فهي تريد أن تتحكم بالعالم وتجعله على صورتها ومثالها من دون أن تبدو كإمبراطورية. حتى عندما ترسل مئات الآلاف من قواتها إلى الخارج، فإنها تنقسم في الداخل وتضطر للتراجع. هكذا حدث خلال التورط في فيتنام، وبعد حرب "عاصفة الصحراء" لإخراج العراق من الكويت أيام الرئيس بوش الأب، ثم غزو أفغانستان والعراق أيام الرئيس بوش الابن و"المحافظين الجدد". والتحدي الأكبر اليوم في مواجهة مشروع إمبراطوري إيراني جديد.
بوش الابن قدّم، من دون أن يحسب، هديتين لطهران بإسقاط عدوين لها هما نظام طالبان ونظام صدام حسين. وترمب يبدو كأنه هدية من السماء لإيران وروسيا والصين. فهو على عكس تيدي روزفلت القائل "تكلم بصوت ناعم واحمل عصا غليظة"، يهدد بأعلى صوت من دون أن يحمل حتى عصا رفيعة. إذ قادته حساباته السياسية في اللعب مع إيران إلى ما سماه جيرمي شابيرو من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية "الخيار الأسوأ... إمّا تصعيد غير حكيم وإمّا تراجع مذل". وهو، على خطى أوباما على الرغم من انتقاده له، أعطى الرئيس بوتين فرصة استعادة دور القوة العظمى لروسيا. والحرب التجارية التي فتحها مع الصين دفعت الرئيس شي جيبينغ إلى تسريع خطته لترتيب المسرح العالمي من أجل دور الصين كقوة عظمى.
الرهان على الوقت كان ولا يزال من أسلحة إيران. والمفارقة أن ترمب المستعجل عادة، بات يراهن على الوقت. ولا أحد يعرف لمصلحة من سيلعب "جنرال الوقت" في لعبة بالغة التعقيد وكثيرة اللاعبين.