ملخص
بعدما كان التعليم من أهم المهن عبر التاريخ بات يعاني اليوم أزمة حقيقية لاسيما من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية، وفي لبنان يبدو المشهد سوداوياً أكثر بعد، والمطلوب تدخل جدي لإنقاذ هذا القطاع الحيوي.
كانت مهنة التعليم ولا تزال من أنبل المهن وأرقاها، لما للمعلم من دور في رسم مستقبل الأجيال، وفي بناء المجتمعات وتنميتها، فالأستاذ يترك بصمة في حياة الطلاب، بما أن دوره لا يقتصر على تعليمهم فقط، بل له دور أساس في إرشادهم وتوجيههم وتشكيل شخصيتهم أيضاً. كما يساعدهم ليصبحوا أفراداً صالحين وناجحين في المجتمع فيما يرسم مستقبلهم.
لطالما واجه المعلم تحديات في حياته المهنية، لكنه كان يتخطاها ولم تكن لتؤثر في اندفاعه وحماسته في مجال اختاره بشغف، لما يعود به من فائدة على المجتمع. وعلى رغم أن قطاع التعليم يعتبر رافعة في أي بلد، يبدو واضحاً حالياً غياب الاندفاعة الكبيرة التي كانت تسجل باتجاهه. وفيما كانت مهنة التعليم الأكثر استقطاباً للشباب، يبدو أنه على صعيد عالمي ثمة أزمة في هذا المجال، مع تراجع معدلات الانجذاب إلى مجال التربية والتعليم وتفضيل الشباب مجالات أخرى باتت الأكثر رواجاً.
التعليم... بين الأمس واليوم
كان التعليم يعتبر أسمى المهن نظراً إلى مساهمته في إنتاج أجيال من المتعلمين والمثقفين للمستقبل، لكن يبدو المشهد مختلفاً اليوم على المستوى العالمي إلى حد أنه في السنوات الأخيرة تدعو وكالات الأمم المتحدة إلى اتخاذ تدابير عاجلة بهذا الشأن بما أن العالم يحتاج إلى نحو 69 مليون أستاذ جديد لتلبية متطلبات التعليم حتى عام 2030. وهذا ما يهدد بألا يتمتع الملايين حول العالم بحقهم في التعليم الجيد.
إذ تعتبر أجور الأساتذة متدنية وهم لا يلقون اليوم التقدير الذي يستحقونه، مما يزيد من صعوبات اجتذاب الأشخاص الكفوئين إلى هذا المجال.
الظروف في لبنان تبدو أكثر صعوبة، إذ أسهمت الأزمة المالية في تدهور واضح في هذه المهنة على مختلف الأصعدة. ويوضح نقيب المعلمين في لبنان نعمة محفوض أنه "ثمة أزمة في مجال التعليم عالمياً، وهناك نقص في أعداد الأساتذة والمسألة ليست محصورة بلبنان وحده. إذ لم تعد رواتب الأساتذة مغرية، ولم تعد دول العالم ترصد ضمن موازناتها مبالغ كافية لوزارات التربية، وإن كانت هناك دول راقية تقدر أهمية مهنة التعليم وتكافئ الأساتذة على الدور الذي يلعبونه، مثل ألمانيا حيث أقيمت تظاهرات للقضاة للحصول على رواتب موازية لتلك التي يحصل عليها الأساتذة، وأيضاً في سنغافورة واليابان حيث أجور الأساتذة جيدة.
ويضيف محفوض "أما في لبنان فيبدو الوضع حكماً أكثر صعوبة من أي بلد في العالم، في ظل الانهيار الاقتصادي، إذ إن الدولة في حالة انهيار ولا قدرة على زيادة الرواتب. وكان من الممكن تخصيص مبالغ شهرية بالدولار الأميركي للأساتذة تكون عبارة عن دعم لهم لضمان استمرارية القطاع، بنسبة تتراوح بين 30 و50 في المئة من الراتب الأساسي، على أن تصل إلى نسبة 65 في المئة في العام الدراسي المقبل. وحتى إذا تقاضى الأستاذ في العام المقبل نسبة 65 في المئة من راتبه الأساسي بالدولار، لا يساوي هذا الراتب شيئاً في ظل الغلاء الفاحش والوضع المعيشي الصعب. وتحصل هذه المساعي لإيجاد الحلول بالتعاون مع أصحاب المدارس، أما المطلب الأساسي فهو أن تكون هناك وحدة تشريع بين العام والخاص، فيشكل ذلك مكسباً تاريخياً للدولة. لكن طالما أن الدولة لا تقدر أهمية القطاع التربوي، ودور الأساتذة الجوهري في بناء المجتمع وتنميته من المتوقع أن يزيد الوضع سوءاً".
تراجع في جودة التعليم
قد لا يكون هناك تراجع كبير في أعداد الأساتذة في لبنان حتى اللحظة، إنما ما يبدو واضحاً هو أن المدارس تعمل على "سد فراغات" لانتقال الأساتذة بحثاً عن رواتب أفضل، إما نحو مدراس أخرى، أو باللجوء إلى الهجرة نحو دول يحظى فيها الأستاذ بمزيد من التقدير، لذلك هناك أزمة ترتبط بخبرة الأساتذة بما أن ذوي الخبرة يغادرون باتجاه فرص أفضل.
من جهة أخرى كون الأستاذ عمل في السنوات الأخيرة في مقابل راتب متدن جداً، من الطبيعي ألا يتمكن من الاستمرار في العطاء بشغف في هذا المجال، كما في السابق.
ويشدد محفوض على أن "التعليم مجال يحتاج إلى راحة بال لأن كل طالب حالة خاصة تتطلب كثيراً من الاهتمام والتواصل وبذل الجهد من الأستاذ. هي ليست مهنة سهلة تقتصر على تزويد الطلاب بالمعلومات كما يعتقد بعضهم. ولأن الأستاذ تربوي يدرك فن التواصل، وهو خبير في علم النفس أيضاً، إضافة إلى مواصفات عدة يتمتع بها، يفضل حكماً العمل في مجال آخر يحظى فيه بمزيد من التقدير المادي والمعنوي. وبسبب هذه الظروف في السنوات الثلاث الأخيرة، غادرت نسبة 25 في المئة من الهيئة التعليمية، بينما في أية مهنة أخرى، ارتفعت الأجور بحيث لم تعد مهنة التعليم مغرية، ومن الممكن أن ينتقل حتى الأساتذة إلى مجالات أخرى أكثر ربحاً. أما من يغادرون البلاد فبحثاً عن فرص أفضل، إلى الخليج مثلاً أو كندا حيث يزيد الطلب عليهم، فهم الأكثر كفاءة وخبرة حكماً، فيتركون فراغاً كبيراً، ومن يدخل إلى المجال حديثاً لا يملك الخبرة الكافية أحياناً. وكون الأكفاء رحلوا، من الطبيعي أن يتراجع المستوى التعليمي ليصل إلى أدنى المستويات، ما لم تتخذ إجراءات لتصحيح الوضع.
الخريجون الجدد
واللافت أن أعداد الخريجين الجدد في مجال التربية والتعليم تراجعت في السنوات الأخيرة، وقد لا يختار الشباب المجال إلا إذا لم تتوافر لهم فرص في مجالات أخرى، لأنه لم يعد في هذه المهنة أي ثبات واستقرار. وهذا ما تؤكد عليه مديرة كلية التربية في جامعة القديس يوسف في بيروت ديان حجار، مشيرة إلى أن "أعداد الطلاب كانت متفاوتة في الأعوام الدراسية الأخيرة، لكنها تراجعت بشكل ملحوظ وأصبح من الواضح أن المهنة لا تستقطب كثيرين. والمؤسف أن المستوى والكفاءة في تراجع أيضاً، وعلى رغم الحملات المكثفة للتحفيز على اختيار مجال الاختصاص هذا، والتعاون مع مدارس معينة، بما يسمح بجذب الطلاب إلى التعليم من جهة، وتوفير مجالات العمل لهم من جهة أخرى، لم يعد الاهتمام فيه كالسابق. كما يلاحظ أن تركيز الخريجين بات يتجه نحو الدروس الخصوصية التي أصبحت تشكل مصدر الدخل الأساسي لهم بدلاً من الاعتماد على الراتب".
وما يزيد الصعوبات والتحديات في مدارس لبنان هو أن قسماً من الأساتذة هم خريجون جدد ولا يملكون الخبرة الكافية، فتلزم المدارس بتدريبهم طوال العام الدراسي، مما يؤدي إلى انخفاض مستوى التعليم في سنوات معينة أثناء عملية تأهيل الأساتذة التي يصعب تحقيقها في عام واحد ومن الممكن أن تمتد لسنوات.
ولهذه المشكلات وقعها على الأساتذة والعاملين في مجال التربية والتعليم ما يستدعي حكماً تدخل الدولة لتحديد الحقوق والواجبات ووضع القوانين التي تساعد في تنظيم الأمور حفاظاً على هذا القطاع الحيوي، وعلى مهنة تعتبر من الأصعب ومن الأكثر أهمية لدورها في تنشئة الأجيال، وكونها حجر الأساس في المجتمعات الأكثر تطوراً.
"كانت مهنة التعليم من أهم المهن والأكثر جذباً للشباب عبر التاريخ"، بحسب الأستاذ قحطان ماضي، مضيفاً "كما كانت دار المعلمين تخرج الأساتذة، قبل أن تقفل قبل الأزمة الاقتصادية في عام 2019 بحيث لم يعد من الممكن إعداد الطلاب كما في السابق. وكانت هناك ضمانات للمستقبل وتعويضات، ما كان يزيد من جاذبية مهنة التعليم. بشكل عام كان الأستاذ مرفهاً، وكان وضعه الاجتماعي والاقتصادي جيداً. كان يرتاح طوال عطلة الصيف مستفيداً من مدخوله اللائق، وفعلياً لم تكن تتخطى أيام التعليم التي يعمل فيها 70 أو 80 يوماً. كانت ظروفه ممتازة إلى أن أتت الأزمة فصار وضع الأستاذ مزرياً وأجره زهيد لا يليق بمهنته الراقية والنبيلة، خصوصاً في ما يتعلق بأستاذ التعليم الرسمي (الحكومي). وإضافة إلى التدهور الهائل في الأجور، تآكل التعويض الخاص بالأستاذ، ولم يعد أمامه ما يستند عليه لتأمين عيش لائق، في ظل الوضع المعيشي الصعب. حتى أن الأستاذ أصبح في أفقر الطبقات، فكيف لهذه المهنة أن تستمر باستقطاب الشباب في مثل هذه الظروف؟".
تدابير ضرورية لإنقاذ القطاع
يعتبر تدهور مستويات الرواتب في القطاعين الخاص والعام، وأكثر بعد طبعاً في القطاع العام إذ تدنت الأجور إلى أدنى المستويات خلال الأزمة، من الأسباب الأساسية التي قللت من جاذبية مهنة التعليم، حتى أن الارتفاع الهائل في الأقساط المدرسية لم يقابله ارتفاع في مستويات الأجور للأساتذة.
وقال رئيس قسم المحاسبة في إحدى مجموعات المدارس الخاصة في لبنان إن "الرواتب المعترف بها حتى اللحظة هي الرواتب التي تحددها سلسلة الرتب والرواتب، أما ما يتلقاه الأستاذ بالدولار الأميركي، فهو عبارة عن دعم ولا يحتسب ضمن الراتب الأساسي للأستاذ. فالرواتب القانونية هي تلك المدرجة بالليرة اللبنانية ولها علاقة بالموازنة المدرسية حتى اللحظة. في المقابل لا اعتراف بما يعطى للأستاذ من راتب بالدولار الأميركي أو ما يسمى بـ "مساعدة" علناً أو ضمناً، ويضيف المصدر ذاته "بغير ذلك، حكماً لا يمكن أن يرضى أحد بالعمل بالراتب القانوني الأساسي حيث أن أجر الدرجة 15 لا يتخطى مليون ونصف مليون بالليرة اللبنانية. هذا إلى حين أن تقر سلسلة الرتب والرواتب الجديدة لقوننة الأجور ولتعيد تنظيم الأمور، سواء لجهة صندوق التعويضات أم صندوق نهاية الخدمة للأساتذة، أم صندوق الضمان الاجتماعي، والقانون 515 الذي تقر منه حتى اليوم موازنات المدارس. وانطلاقاً من ذلك في حال إصدار سلسلة الرتب والرواتب تصبح الأقساط المدرسية التي يسددها الأهل قانونية بدلاً من أن توضع بطريقة اعتباطية، وبنسب متفاوتة بحسب المدارس. للعام المدرسي 2023-2024 احتسبت المساعدة الخاصة بالأساتذة بالدولار الأميركي بنسبة 35 أو 45 في المئة من الراتب الأساسي، بحسب كل مدرسة ومحيطها. وفرضت هذه المساعدة على الأهل لضمان استمرارية التعليم، وإلا فلن يتلقى الأستاذ أجره وسيرفض الاستمرار بالعمل بما أن مصدر الأمان في هذا الوضع الاقتصادي الصعب بالدولار الأميركي وليس بالليرة اللبنانية".