ملخص
تسود بين نساء العصر هيستيريا الاعتناء بالجسد، أو بالأحرى هيستيريا نحت الجسد، عبر المبالغة الشديدة في عمليات التجميل. وتكاد نساء اليوم لا يتركن جزءاً واحداً من أجسادهن، مهما كان صغيراً وحساساً، من دون الاهتمام به وإخضاعه لعمليات تجميلية، حتى يحققن ما يرومنه من جسم مثالي؛ بل ونراهن مستعدات لتحمل المخاطرة بحياتهن في خضوعهن المتكرر لإجراء عمليات التجميل، ناهيك بتحمل أعباء مالية مرهقة في سبيل ذلك. وهذا كله من أجل الظهور بمظهر أجمل أمام أنفسهن وأمام الرجل أيضاً، بل من أجل الظهور بمظهر مثير. فالظهور بمظهر "المرأة المثيرة" بات مطلباً تسعى إليه غالبية نساء العصر. وهن لا يخفين ذلك، إذ يصرحن بذلك علناً.
كان لا بد للفلسفة التي تهتم، في جانب عملي أساسي منها، بفن الوجود ونحت الذات وأنماط الحياة وأساليب العيش، بحسب ما ذهب ميشال فوكو في كتاباته الأخيرة، فهل يمكن أن نُدرج اهتمام المرأة بجسدها ونحته في إطار أخلاقيات فن الوجود؟ هل نحت الجسد والاهتمام المبالغ فيه عمل فلسفي؟ أفلا يحول هذا الاهتمام بالجسد المرأة إلى منحوتة فنية بلا روح؟ أفلا يحولها إلى جسد مثير من دون روح؟
هل بالغت المرأة فعلاً في هوسها بعمليات التجميل؟ من البين أن اهتمام المرأة بات ينصب، بالدرجة الأولى، على نحت الجسد ليشبه "جسد المرأة المثالية المثيرة" من دون الاهتمام كثيراً بالأمور الأخرى، لا سيما الاهتمام بالروح الذي يحرك هذا الجسد ويُضفي عليه جمالاً على جمال، إذ ما نفع الجسد من دون روح يحركه ويحييه؟ بل ما نفع العناية بالجسد إذا لم تترافق مع مستويات عالية من الثقافة وخفة الروح؟ أفلا تؤدي هذه العناية الحصرية والمبالغ فيها بالجسد إلى نوع من السطحية والسذاجة؟ ما نفعها إذا لم تترافق مع إنماء للروح وتغذية للعقل بالثقافة والعلوم وتهذيب للنفس بمكارم الأخلاق؟
لنتفق، منذ البداية، على أن ما نحسبه ظاهرةً مجتمعيةً تستحق الاهتمام وتسليط الضوء عليها هو الاهتمام الزائد والمبالغ فيه بالشكل من دون أدنى التفات إلى المضمون. لسنا ضد إجراء عمليات تجميلية تحسن من شكل المرأة وجمالها الخارجي، إذ يبقى جمال المرأة المدخل الأول في قلب الرجل، بل نقف موقفاً سلبياً إلى حد ما من الانهمام الهيستيري بالشكل. فالمرأة ليست شكلاً فحسب، بل مضمون أولاً. ولعل النظر إليها من حيث الشكل فقط تبخيس من قيمتها وتسطيح لنظرة الرجل إليها، بل وانتقاص من كرامتها الإنسانية أيضاً.
تطالب المرأة بأن ينظر إليها الرجل من خلال مضمونها أولاً، لا من خلال جمالها الخارجي وحسب، أي بأن ينظر إليها من خلال جمال روحها وخفة هذا الروح، لا من خلال النظر إلى جسدها ومدى إثارته. لكن، ويا للأسف، فإن غالبية النساء يفعلن عكس ما يطالبن به. فالمرأة التي ترى أن شكلها أولوية الأولويات وتصر على أن هذا الشكل جواز عبورها إلى قلب الرجل، لا يمكن لها أن تطالب الرجل بالاهتمام بجمال روحها أولاً.
هل الرجل المعاصر يهتم فعلاً بجسد المرأة من دون أدنى اهتمام بروحها؟ ما سبق يتضمن نظرةً سطحيةً إلى الرجل، إذ يسلم ضمناً بأن الرجل مجرد آلة راغبة شهوانية ولا يهتم إلا بالمرأة ذات الشكل المثير. لكن هل الرجل كذلك حقاً؟ وماذا نفعل بصفات الأمومة والمودة والثقافة والذكاء واللطافة والذوق والتهذيب وحسن العشرة والصداقة وغير ذلك من الصفات التي يفضلها الرجل في المرأة ويأنس بها، بل ويوليها أهميةً قصوى لا سيما في من يريد أن يبقى معها حتى نهاية العمر؟ وماذا يعني الشكل إذا كان خالياً من الروح والإحساس والخفة؟ ماذا يعني ثدي المرأة للرجل إذا بالغت المرأة في تكبيره من دون أن تضخ فيه مزيداً من الإحساس والانفعال؟
لا شك في أن الجمال الخارجي أول ما يلتفت إليه الرجل، لكن سرعان ما يتلفت عنه عند أول احتكاك جدي مباشر بالمرأة التي يود أن يعيش معها. حتى في السرير، يبقى الانفعال والحيوية والنشاط ورشاقة الروح أهم بكثير من مجرد الشكل. وإلا كيف نفسر خيانة الرجل زوجته الجميلة مع الخادمة الفاقدة عناصر الجمال بالمعنى المتداول؟
في الشخص المثالي
يبحث الإنسان بطبيعته عن الشخص المثالي ليقترن به ويعيش معه ما تبقى من العمر. لكن من هو الشخص المثالي؟ وهل يمكن أن يكون شخصاً يتمتع بمضمون غني من دون شكل لافت؟ أو أن يكون شخصاً ذا شكل لافت ساحر من دون مضمون غني؟
تهتم المرأة بذاتها من أجل أن تشعر بالرضا تجاه ذاتها ومن أجل نيل الحظوة في عيني الرجل. والأمر سيان عند الرجل الذي يهتم بنفسه ويبحث كذلك عن المرأة المثالية. في هذا السياق نتساءل: هل الإنسان المثالي هو الشخص الذي يتمتع بصفات الكمال أم الشخص المناسب؟ هل الزوج المثالي بالنسبة إلى المرأة فارسُ الأحلام الذي يأتي على حصان أبيض ويحوز جميع الصفات الجسدية والروحية؟ أم هو الرجل الذي يناسبُها؟ هل المرأة المثالية بالنسبة إلى الرجل هي المرأة الخارقة الاستثنائية في صفاتها التي لم يخلق الله مثلها؟ أم المرأة التي تناسبه؟ عندما نعي هذه الحقيقة، أي أن المثالي هو المناسب، يدوم الزواج وتدوم العلاقة والمودة بين الشريكين ولا نعود نبحث عن وهم إيجاد الإنسان الكامل لأنه، بكل بساطة، غير موجود. فكلنا معيوبون جسدياً ونفسياً. لذلك ما هو أهم من البحث عن الإنسان الكامل إنما هو البحث عن الإنسان المناسب وإيجاده. علينا إذاً أن لا نبالغ كثيراً في الاهتمام بأجسادنا، وأن نبحث في الآخر المختلف عما يناسبنا. فالحكمة تقول: ابحث عمن يناسبك ولا تبحث عمن هو كامل الأوصاف. وعندما تجد من يناسبك، تراه شخصاً مثالياً.
هل عمليات التجميل تُفقد المرأة فرادتها؟ ما أود أن أشير إليه هو أن المبالغة في اهتمام المرأة بشكلها، لا سيما إذا أهملت روحها، قد تُؤدي إلى نتائج عكسية. فالمودة والرحمة بين الثنائي لا تقوم على عامل واحد فقط. ولعل عامل الشكل أضعفُ العوامل. ثم ما الحكمة من أن تغير المرأة في شكلها حتى تفقد معها فرادتها وما يميزها، أي تفقد السحر الذي تمتاز به فتصبح النساء عندئذ متشابهات إلى حد كبير؟
على النساء أن يجعلن من أنفسهن عزيزات غاليات على قلب الرجل وعقله، لا مجرد منحوتات جميلات لا يصلُحن لسوى الفراش. وعلى الرجل والمرأة أن يهتما بنفسيهما حتى يصلحا للحياة بكل معانيها وتعقيداتها وصعوباتها. وقد قيل بحق: "بإمكان المرأة أن تجذب الرجل بجمال جسدها. لكنها لن تستطيع الاحتفاظ به إلا عبر جمال روحها". هذا ما نود التركيز عليه. يعني ذلك أن المرأة ليست جسداً وحسب، وأن إثارة الرجل، حتى بالمعنى الجنسي، تتطلب جمالاً في روح المرأة أيضاً. لذلك فإن الاهتمام المبالغ فيه بالجسد جهد ضائع ومال مبدد وعمل مقزز أحياناً كثيرة، لا سيما إذا لم يقترن بجمال الروح وتهذيب النفس. فالرجل، وإن التفت بدايةً إلى جمال الجسد، فإن ما يبقى يهمه هو تفاعل الجسد وانفعاليته وجمال الروح.
إن المرأة المعاصرة التي تبالغ في الاهتمام بجسدها، تهين نفسها أولاً، وتقلل من شأن روحها الجميل ثانياً، وتتبنى نظرةً مبتذلةً ومنحطةً عن الرجل ثالثاً، وكأن الرجل لا يهمه إلا تلبية رغباته الجنسية، فلا ينظر إلى المرأة إلا نظرته إلى جسد للمتعة ووسيلة للأنس. وعليه، فالأفضل للمرأة أن تنحت ذاتها وتعتني بروحها الخلاق بدلاً عن أن تكتفي بنحت جسدها.
من أجلها أم من أجل الرجل؟
تبقى المرأة مجرد كائن من الكائنات ما لم يدخل الرجل حياتها. لا تكون امرأةً، أو بالأحرى لا تصير امرأةً إلا بفعل الرجل وعلى يديه، بل ولا تكون امرأةً إلا من أجله. إذاً، علينا أن ننظر إلى الطبيعة المزدوجة للمرأة، بوصفها كائناً يتمتع بالكرامة ويحيا في مجتمع يريد أن يثبت حضوره فيه، فيكون الاهتمام بالشكل والثقة بالنفس من أدوات هذا الحضور الرئيسة، وبوصفها أنثى تتطلع إلى الاستحواذ على قلب الرجل والعيش معه عيش امرأة. لذلك لا معنى للحديث عن المرأة في غياب الرجل، إذ تبقى المرأة عندئذ مجرد كائن لم يصر بعدُ امرأة. والأمر سيان بالنسبة إلى الرجل، فلا معنى للحديث عن الرجل والرجولة إلا بوجود المرأة وفي أحضانها وباعتراف متجدد منها برجولة الرجل. إذاً، أن نتزين لأنفسنا ونهتم بذواتنا للرضا عنها وإثبات حضورنا في المجتمع، أمر حسن وضروري ومرغوب فيه، لكنه من طبيعة الكائن الذي هو نحن. ذلك بأننا، بدايةً، كائنات حية يحسُن أن نهتم بأنفسنا من أجل البقاء والعيش معاً في المجتمع. أما أن نهتم بأنفسنا من أجل الآخر المختلف، فهذا من طبيعة الرجولة والأنوثة.
ومن ثم، فإن اهتمام المرأة بنفسها من أجل الرجل يعود إلى طبيعتها بما هي امرأة، وليس إلى طبيعتها بما هي كائن أو مجرد أنثى. وإن اهتمام الرجل بنفسه من أجل المرأة يعود إلى طبيعته بما هو رجل، وليس إلى طبيعته بما هو كائن أو مجرد ذكر. وعليه، فإن اهتمام المرأة بجمالها وبذكائها أيضاً من أجل لفت انتباه الرجل لهو دليل واضح على ما تتمتع به من صحة نفسية سوية. فالمرأة ذاتُ بنية أنطولوجية وجودانية تكوينية يؤلف الرجل جزءاً أساسياً ورئيساً منها. والرجل في المقابل ذو بنية أنطولوجية وجودانية تؤلف المرأة جزءاً أساسياً منها. لذلك لا مشكلة عند الطرفين في الاهتمام من أجل الآخر المختلف. وهذا دليل على صحة نفسية سليمة للرجل والمرأة على حد سواء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نتيجةُ القول أن اهتمام المرأة بشكلها من أجل الرجل، لكن من دون الاهتمام بذكائها وعقلها وروحها، ربما لا يفعل فعله لدى الرجل، إذ إن كثيراً من الرجال يثيرهم ذكاء المرأة أكثر من جسدها أو بالتساوي مع جسدها. كما أن ذكاء الرجل وعقله ونجاحه ومنطقه في الكلام من العوامل التي تثير المرأة حتى بالمعنى الجنسي كما هي حال جسد الرجل. وهناك دراسات تؤكد أن كتابات الرجل العقلانية والفكرية تثير المرأة جنسياً. كما أن عقل المرأة يزيدها جمالاً على جمال، وإثارةً على إثارة. فالانجذاب إلى الشكل قد يكون المرحلة الأولى! تعقبُها مرحلة الاهتمام بالعقل والذكاء. لذلك على المرأة أن تتمتع بذكاء خاص حتى تُحسن الاهتمام بشكلها وروحها.
وعليه، تبقى المرأة جزءاً رئيساً من لوحة الرجل الحياتية. وينطبق الكلام أكثر على الرجل بالنسبة إلى المرأة. هذا ما علينا أن نربي عليه أولادنا حتى تبقى الحضارة ولا تنحل انحلالاً لا رجعة عنه. علينا أن ندربهم على الاهتمام بأنفسهم من أجل ذواتهم، لكن أيضاً من أجل الآخر المختلف. وعلى المرأة خصوصاً أن تُتقن لعبة الظهور والاختفاء، فن الاعتلان والاحتجاب، وإلا صارت شيئاً عادياً أو صارت كائناً مملاً، في حين أن بإمكانها أن تبقى كائناً مُدهشاً على الدوام.
خلاصة الكلام أن الإنسان قادر، حتى في ظل الرأسمالية المتوحشة والتحولات الكبار العميقة التي يشهدها العالم المعاصر، أن يعتني بنفسه وأن ينحت ذاته. بذلك يستطيع أن يقاوم أكثر وأن يزيد من المساحة الجمالية والفنية في حياته، وأن يفرح بما يعمله وينجزه.