Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كاتب بريطاني يطارد اديل هوغو باحثا عن نفسه

 ابنة صاحب "البؤساء" انتهى بها حبها المجنون في المصح

ابنة فيكتور هوغو  (مؤسسة هوغو)

ملخص

سيرة جديدة لابنة الروائي والشاعر الفرنسي فيكتور هوغو، اديل التي أصيبت بالجنون، كتبها البريطاني مارك بوستريدج بعدما جاب أماكن حياتها وطارد أخبارها وقصصها الغريبة.

تشهد السيرة الذاتية ازدهاراً ملاحظاً في الآونة الأخيرة، لا سيما بعد أن استحوذ الفضول على مؤلفيها الذين راحوا يطوفون الأماكن في أثر الشخصية التي شغفتهم، ليروا بأعينهم كيف عاشت وأين سكنت، وصولاً إلى الشرفة التي اتكأت عليها في لحظات الضعف والانهيار.

في كتابه الجديد "سعياً وراء الحب: البحث عن ابنة فيكتور هوغو" يدفع الكاتب مارك بوستريدج بحدود النوع الأدبي إلى آفاق غير مسبوقة، عبر وضعه جزءاً من سيرته الذاتية بالتوازي مع سيرة أديل هوغو، الابنة الصغرى للروائي والشاعر الفرنسي الشهير فيكتور هوغو، صاحب ’البؤساء‘. والحقيقة أن حياة مارك تتقاطع مع بطلته في كثير من الأحداث، مما ينبهنا إلى أن قصص الحاضر مجرد استنساخ لما حدث في الماضي، مع إجراء بعض التعديلات، وفي الوقت نفسه يظلل فضاء السيرة الغيرية بأخرى ذاتية حدثت بعد قرن ونيف، فإذا بزمن يتم إدماغه في زمن آخر ومن تواشجهما تتشكل أرض اللقاء بين الكاتب وشخصيته، أو بمعنى أدق، بين مارك واديل، ضحيتي العشق والغرام.

برز اسم بوستريدج عام 1995، مع صدور كتابه حياة "فيرا بريتن" الذي ترشح لعدد من الجوائز، منها جائزة ويتبريد وجائزة إن سي آر للكتاب. أما سيرة "فلورنس نايتنغيل"‏ ‏ الملقبة بـ"حاملة المصباح"، فنال عنها جائزة إليزابيث لعام 2009، وصنفت كأفضل كتاب لهذا العام، لكن شخصية اديل تختلف كلية عن طبيعة تينك المرأتين القويتين، فهي مجرد فتاة بائسة مثيرة للشفقة، وقعت في حبائل الوهم والخيال، فضلاً عن سجل حياتها المليء بالفجوات، والذكريات المشوشة، بما يمثل تحدياً كبيراً لأي كاتب سيرة.

اديل هي الابنة الوحيدة التي نجت من أسرة هوغو، على رغم ذلك لم يتسن لها أبداً أن تعيش حياتها طبيعيا كبقية الأحياء، إذ قضت شبابها هائمة على وجهها في شوارع المدينة، كما لو أن لعنة تلاحق أفراد تلك العائلة لسبب غامض. كان هوغو تجرأ في شبابه على الزواج من اديل فوشيه، الفتاة التي أحبها أخوه أوجين، وتحت وقع الصدمة اختل عقل أوجين وقضى سنوات في مصح للعلاج. إنه الجنون الذي سترثه اديل أيضاً للسبب نفسه، الذي وقف هوغو عاجزاً حياله، لا سيما بعد موت ابنته الكبرى غرقاً في نهر السين عام 1843، عندما كانت اديل لا تزال في الـ13 من عمرها، إذ شدتها تنانيرها الثقيلة إلى أسفل وهي تحمل في أحشائها جنيناً، ومات زوجها وهو يحاول إنقاذها. في ذلك الوقت كان فيكتور هوغو منشغلاً في أسفاره مع عشيقاته جنوب فرنسا، ولما علم بوفاة ليوبولدين من إحدى الصحف، وقع فريسة الاكتئاب الشديد، إذ كانت الابنة المفضلة بالنسبة إليه وشمس حياته كما وصفها. أضف إلى كوارث عائلة هوغو، انخراط الأم في علاقة مع الناقد سانت بوف، ورد فعل الزوج حيال تلك الخيانة، في جلب عشيقته محلها في المنزل.

الحب وسنينه

نشأت اديل في أجواء شبه ديستوبية، طغى فيها حزن هوغو واعتداده بنفسه على حقوقها كابنة، وطغت شهرته على طموحها ككائن بوسعه أن يختار طريقه في الحياة، ويأمل في مستقبل يتناسب مع ميوله ورغباته. كانت اديل تجلس ساعات إلى طاولة أبيها لتسجيل ما تتفتق عنه عبقريته الإبداعية، وهو جنون جلب عليه الشهرة، لكنه لم يجلب لابنته سوى الحرمان والضياع. وفي أوقات الفراغ بعد أن تنتهي من واجبها المقدس، تعودت العزف على البيانو، عزاؤها الوحيد في هذا العالم، بعد تلك المهمات الكئيبة التي يصر هوغو على حصرها فيها، من دون أن يستوقفه شحوب وجهها وحزنها الدائم. وحين نفي هوغو من فرنسا إلى جزر القنال الإنجليزية جراء معارضته لنظام نابليون الثالث، اضطرت اديل إلى الرحيل معه، وهناك في سانت هيلير التقت ألبرت بينسون، في إحدى جلسات تحضير الأرواح التي كان هوغو مولعاً بها، وكان يسند إليها مهمة تسجيلها. فجأة لمست أصابعها الباردة أصابع بينسون الدافئة، وأحست بساقه يضغط على ساقها أسفل الطاولة.

كان بينسون شاباً خفيفاً، يقضي معظم وقته في سباقات الخيل وصالات القمار، واللهو مع النساء، ولم تكن اديل المتعطشة إلى الحب سوى واحدة من تجاربه العديدة. وما إن فترت مشاعره تجاهها حتى اتخذ طريقه للفرار، لتنقلب حياة العاشقة الجادة إلى مطاردات لا تنتهي. تبعته أولاً إلى لندن، ولكنه رحل مع ثكنته إلى أقاصي كندا، فلم يزدها هجرانه وصده إلا هوساً به، وقررت السفر إلى النصف الثاني من الكرة الأرضية. وهناك عاشت في أحد الفنادق تحت اسم مدام بينسون، ثم انتقلت للعيش مع عائلة سوندرز للتقليل من النفقات. وعلى رغم محاولات عائلة سوندرز مساعدتها، كما شأن كل من قابلها عرضاً، حافظت اديل على صمتها وعزلتها وظلت تقضي ليالي وحدتها الطويلة في تدوين مذكراتها على نحو جنوني.

أكثر من ثماني سنوات قضتها اديل في مطاردة بينسون، وكلما ضاق بها ذرعاً وأبدى نفوراً، راحت تغريه بالمال وتهدده بالانتحار، حتى بلغ بها السعار إلى التآمر لاختطافه وتنويمه مغناطيسياً ليوقع على عقد الزواج.

الوقوع في حب اديل

بمرور الوقت تحولت الفتاة التي وصفها بلزاك بأنها أعظم جمال رآه على الإطلاق، إلى مضغة تلوكها الأفواه، بأسمالها المتسخة الممزقة ونظرتها الشاردة، وتجوالها الدائم في شوارع مدن لا تعرف فيها أحداً ولا يعرفها أحد،  سعياً وراء حبها المفقود، فضلاً عن حديثها الدال على تدهور حالتها العقلية. عند هذه النقطة يفحص بوستريدج بوادر المرض العقلي الناجم عن التجاهل الذي أطلق عليه علماء النفس "متلازمة اديل"، وهو نوع من الهوس المرضي بالحب، يشبه الإدمان، وأهم ما يميزه الشغف المتأجج الذي لا يصادف إشباعاً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في الجانب الآخر تعمدت عائلة هوغو إخفاء الفضيحة لعقود من الزمن، لكن كل شيء تغير بعد الحرب العالمية الثانية حين ظهر عدد من المذكرات التي كتبتها الفتاة المحمومة في ليالي وحدتها القاسية في كل مكان، وألهمت قصتها المأساوية عن الحب اليائس، الكتاب والملحنين وصانعي الأفلام، وعلى رأسهم المخرج الفرنسي فرنسوا تورفو الذي تمكن بمهارة من تصوير بؤسها المتشح بالسواد في فيلم بعنوان "قصة حياة أديل هـ"، (1975) بطولة الممثلة الفاتنة إيزابيل أدجاني.

ويبدو أن، كما طاردت اديل فتاها ليل نهار، طفق كاتب سيرتها بعد عقد ونيف من الزمان يطارد شبحها في كل مكان، من باريس إلى لندن إلى جزر الكاريبي، علاوة على منازل هوغو التي تبين أنها هدمت، فضلاً عن زياراته إلى عدد من المتاحف والأرشيفات، مسجلاً كل ما يصادفه من صور ومشاهد، كما في كتب الرحلات. وعلى رغم أن جهود تروفو أسفرت عن بعض الحقائق، لكن ظل الغموض يكتنف حياة الفتاة بسبب صمتها الطويل ومذكراتها الملغزة، لكن سعي بوستريدج وهوسه بها قاداه إلى كثير من الاكتشافات، منها مثلاً عثوره على رخصة لدى أحفاد بينسون تكشف عن أنه كان ينوي الزواج  من اديل في عام 1861، وأنها لم تكن واهمة حين طاردته ليفي بوعده بعد أن استنزفها مادياً وجسدياً.

وأسفرت رحلة البحث عن عدد من النقاط التي تتطابق مع حياة المؤلف، منها وفاة أخته غير الشقيقة، وسلوك والده المسيء، والحب غير المتبادل، بما في ذلك قصته في أكسفورد وهو في الثلاثينيات من عمره، وكيف دفعه الشغف واليأس إلى مطاردة مماثلة، أفضت به إلى الانهيار العصبي. غير أنه لحسن حظه تماثل للشفاء، على عكس اديل التي انتهى بها المطاف في مصح للأمراض العقلية، إذ قضت ما تبقى من حياتها تعزف على البيانو وترعى النباتات وتسير هائمة في حديقة المصح، من دون أن تنبس ببنت شفة حتى ماتت عام 1915 عن عمر يناهز 84 سنة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة