Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إلى أي حد ستمتد تداعيات الحرب في غزة دوليا؟

هناك خلل مزمن في منظومة السلم والأمن التي وضعتها الأمم المتحدة

من الواضح أن حرب غزة هذه من أطول الحروب التي خاضتها إسرائيل في تاريخها القصير (أ ف ب)

ملخص

ربما ما زالت الأسئلة أكثر من الأجوبة في هذه المرحلة، ولكن ما هو مؤكد أن صورة إسرائيل اهتزت دولياً على نحو غير مسبوق وأن لهذا انعكاساته على صورة الولايات المتحدة المنحازة وغير العادلة، والمؤكد أيضاً أن مستقبل المؤسسات القضائية الدولية بخاصة المحكمة الجنائية الدولية على المحك، ولكن ربما يكون الأمر بحاجة لموقف عربي أكثر تماسكاً فضلاً عن أوضاع فلسطينية أفضل كي يصبح من الممكن استثمار هذه التحولات

لا شك في أن النسخة الحالية من الحرب الإسرائيلية في غزة التي لم تحسم بعد على رغم صدور قرار مجلس الأمن الأخير، هي الأكثر عنفاً وتدميراً، ليس فقط في غزة، ولكن أيضاً الأكثر تعبيراً عن مدى تدهور منظومة السلم والأمن الدوليين وكيف أن دولة هي إسرائيل تتصرف وكأنها فوق القانون وقادرة على تحدي كل المنظومة الدولية ومؤسسات القضاء الدولي وبصورة غير مسبوقة من أي طرف آخر بما في ذلك حالات مثل روسيا وربما حتى الدولة الأميركية ذاتها راعية وشريكة إسرائيل لم تبدِ استهانة مماثلة بالمؤسسات الدولية، كما أن هذه الحرب كشفت أيضاً عن تداعيات معقدة في الساحة الإسرائيلية الداخلية نفسها ما زالت تتفاعل ولم تتبلور بعد، ولكن وقفتنا هنا ستركز على التداعيات الدولية المستقبلية.

 

تداعيات الإطار الدولي

من الصحيح أن هناك خللاً مزمناً في منظومة السلم والأمن الدوليين التي وضعتها الأمم المتحدة، ولقد عرضنا له هنا تفصيلاً في بدايات الحرب الأوكرانية، وأبعاده معروفة منذ الحرب الباردة بين الكتلتين، ويدور بصورة كبيرة حول كيفية إدارة حق الاعتراض "الفيتو" في مجلس الأمن كالجهاز الرئيس المنوط به مهمة حفظ السلم والأمن الدوليين، والموضوع إذاً قديم وتعامل معه العالم كثيراً على مدى سبعة عقود خلال مراحل أزمات عدة، واختبره النزاع العربي - الإسرائيلي عشرات المرات والقضية الفلسطينية تحديداً هي إحدى أكبر ضحاياه، ولكن من غير الصحيح مقارنة الحالات السابقة بالوضع الراهن وتعقيداته، وحتى بالمقارنة مع حروب غزة السابقة وما شهدته من تدمير، فمن الواضح أن هذه أطول الحروب التي خاضتها إسرائيل في تاريخها القصير، والأكثر إزهاقاً لأرواح المدنيين الفلسطينيين بخاصة الأطفال والنساء، وعلى رغم أن سجل إسرائيل حافل باستهداف المدارس والمستشفيات في فلسطين وفي حروبها بصورة عامة كذلك، ومن نماذج هذا جريمة مدرسة "بحر البقر" في حرب الاستنزاف مع مصر، إلا أنه لم يكُن للنموذج الحالي من نظير في استهداف كل القطاع الطبي في غزة تقريباً وفي استهداف المدارس ومقار الإيواء وفي استهداف موظفي الإغاثة الدوليين والصحافيين والإعلاميين، وبالمجمل نحن أمام أكبر سجل معاصر لتجاوزات وانتهاكات حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، ومن ثم نحن أيضاً أمام محاولات دولية متكررة لإيقاف الحرب، ومع كل ذلك فشلت قرارات المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية والجمعية العامة للأمم المتحدة ونداءات المسؤولين الدوليين المتكررة لوقف هذه المذابح، وعجزت أمام تعنت إسرائيل والحماية الأميركية الكاملة، ومعها الغربية التي لم تبدأ بالتفكك والانقسام إلا أخيراً.

والحقيقة أن التحدي الذي مثّله إصرار إسرائيل على الحرب حتى الآن، إذ جارى اختبار تأثير قرار مجلس الأمن الأخير ومدى استدامة الالتزامات الناتجة منه، هو في الحقيقة تحدٍّ ضخم لمؤسسات التنظيم الدولي كافة بدءاً من مجلس الأمن وحتى المحاكم الدولية، ولو نظرنا مثلاً إلى رفض السودان زمن عمر البشير لطلب المحكمة الجنائية الدولية إيقاف البشير ومحاسبته، وكانت الخرطوم تدفع بنفي التهم الموجهة إلى حكومتها ورئيسها أو بعدم خضوعها للمحكمة لأنها ليست طرفاً فيها، أما في حالة إسرائيل فهي لم تكتفِ بالردود السابقة بل كانت تصر أكثر على مهاجمة وتحدي المحكمة وتستخدم كل عناصر الهجوم اللفظي ضدها وتهددها برعاية أميركية بالمعاقبة والحساب، وتقوم مجموعة من أصدقائها بتوجيه خطاب لوم وتهديد لمسؤولي المحكمة وإصدار قانون أميركي بمعاقبة القائمين عليها، أي حالة أخرى من تقويض النظام الدولي والمشاركة في المسؤولية مع إسرائيل، فحن إذاً أمام حالة من التجاوزات غير المسبوقة بل حالة من الغطرسة التي ليس لها نظير .

وفي الحروب السابقة التي فشل فيها المجتمع الدولي وعلى رأسها أوكرانيا، لم تضطر المؤسسات الدولية إلى التدخل المستمر دفاعاً عن المدنيين كما نرى الأمر في حالة غزة، فلم يثبت أبداً أن موسكو تستهدف من دون هوادة المستشفيات ومؤسسات الإغاثة المحلية والدولية، فالكارثة الكبرى في الحرب الحالية أن إسرائيل لم تتوقف عن هذه الجرائم طوال الوقت، ولم تتورع حتى عن استهداف عمال إغاثة مرتبطين بالولايات المتحدة ذاتها كما في حالة المطبخ العالمي.

وفي كل النماذج السابقة للصراعات لم يجد الأمين العام الأمم المتحدة نفسه ولا كثيرون من المسؤولين الغربيين في موقف المضطر إلى التحذير المستمر والنداء بالتوقف بلا جدوى، بل تعرّض هو ذاته للإهانة والتوبيخ إذ كيف ينتقد إسرائيل؟. ولعلنا نذكر أنه عندما أثارت تركيا ضجة حول محاولة النظام السوري وحلفائه اجتياح محافظة إدلب حيث لجأت عناصر تنظيمي "القاعدة" و"داعش"، وجدت تركيا دعماً من الإعلام والسياسة الغربية، ولم تستطِع دمشق ولا موسكو الإقدام على هذه المعركة بحجة كثافة المدنيين في المحافظة، وهي حجة أقل من حالة رفح التي وقف العالم على أصابعه وأصدر التصريحات والنداءات بما في ذلك نداءات أميركية كاذبة ولم يردع هذا إسرائيل.

اقرأ المزيد

هل من آثار بعيدة الأجل

ليس جديداً مع كل ذلك أن تدرك الغالبية من الشعب العربي ومن شعوب الجنوب أن هناك معايير مزدوجة في المنظومة الدولية لحفظ السلم الدولي وأن تدرك أن إسرائيل كيان لا يعبأ بالقيم الإنسانية الخاصة بالعدالة والحق، ولكن ربما ما يكون جديداً هو الإدراك المتزايد بهذا من جانب تيارات غربية متسعة وبأشكال غير مسبوقة من الناشطين والتظاهرات التي ما زالت تندلع في كثير من المدن الغربية، وما أثاره كثيرون حول صعود أجيال أميركية جديدة أكثر دراية بحقائق القضية الفلسطينية وضرورة تحقيق حل شامل وعادل لها.

ولكن السؤال يظل قائماً، هل تستطيع آلة الدعاية الإسرائيلية استرجاع كل نقاط الخسائر التي تعرضت لها في هذه الحرب أم لا؟. في التقدير أن هذه الآلة لن تستطيع في الأجل القصير أن تزيل هذه الصورة السلبية المسجلة إلا أذا شهدت الساحة الإسرائيلية تغيرات درامية جادة، لا تبدو في الأفق حالياً، بل تبدو حتى مستبعدة، ومن ثم فالأرجح بقاء هذه الصورة السلبية لبعض الوقت، بل قد تتعمق لدى كثيرين حول العالم.

كما يظل السؤال أيضاً حول قيمة القرارات والشرعية الدولية في المستقبل، وهي لم تتعرض لمستويات تهديد وإحراج مماثلة لكثافة التهديدات التي تمثلها هذه الحرب الإسرائيلية الراهنة.

تعقيدات الساحة الأميركية

ويتحدث كثيرون في المنطقة والعالم حول أن المشهد الذي تريد إسرائيل إطالته هو انتظار نتائج الانتخابات الأميركية، وأن اليمين الإسرائيلي يتوقع أن يكون دونالد ترمب أكثر حدة ودعماً لإسرائيل، وأنه سيتوقف حتى عن الضغوط الكاذبة التي تدعي الإدارة الأميركية الحالية القيام بها من وقت لآخر والتي قد تتبلور تماماً في الفترة القصيرة الحالية مع صدور مشروع القرار الأميركي الأخير، وربما يكون هناك قدر من الصحة في هذه الفرضية، ولكن في الحقيقة أن الساحة الأميركية أصبحت تموج بتعقيدات عدة، وأن هناك اعتبارات كثيرة منها هل ستنجح فرص وقف الحرب هذه وتستثمرها إدارة جو بايدن لمصلحة التجديد وإعادة الأصوات الليبرالية والإسلامية والاحتشاد ضد ترمب؟ وما نتيجة صعود أجيال أميركية أكثر وعياً بالظلم الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني؟ وما هي نتائج الحرب الأوكرانية؟ وهل سيصطدم العالم والولايات المتحدة ذاتها بمواجهات داخلية أميركية عند عدم قبول جانب من الشعب الأميركي نتائج الانتخابات الرئاسية المقبلة؟.

ربما ما زالت الأسئلة أكثر من الأجوبة في هذه المرحلة، ولكن ما هو مؤكد أن صورة إسرائيل اهتزت دولياً على نحو غير مسبوق وأن لهذا انعكاساته على صورة الولايات المتحدة المنحازة وغير العادلة، والمؤكد أيضاً أن مستقبل المؤسسات القضائية الدولية بخاصة المحكمة الجنائية الدولية على المحك، ولكن ربما يكون الأمر بحاجة إلى موقف عربي أكثر تماسكاً، فضلاً عن أوضاع فلسطينية أفضل كي يصبح من الممكن استثمار هذه التحولات، كما سيتوقف كثير من الأمور على إذا كان ما زال هناك عقلاء في هذا العالم لديهم القدرة على إنقاذ ما تبقى من قيم العدالة واحترام القانون حماية لمستقبل هذا العالم.

المزيد من تحلیل