Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المرأة التي حولت إرث فاغنر إلى إمبراطورية صراع مستمر

كوزيما لم تتوان عن السيطرة على مهرجان "بايروت" وأعمال زوجها الكبير واهبة إياها للنازيين

كوزيما الابنة غير الشرعية لفرانز ليست والتي بدأت صباها زوجة للموسيقي فون بيلو (مواقع التواصل)

ملخص

نجحت كوزيما في مشروعها نجاحاً تواصل عقوداً طويلة بعد رحيلها فكانت على الدوام صاحبة الكلمة الفصل حتى إن شبحها بقي مخيماً على العائلة بإرادتها الصلبة حتى عام 2008 أي بعد 70 عاماً من وفاتها حين تمت آخر مصالحة كبيرة بين الورثة تتعلق بإدارة مهرجان "بايروت"، وبالحصول على مردودات أوبرات فاغنر لتقسم بين ورثة كوزيما نفسها خير تقسيم!

هي في الأصل الابنة غير الشرعية لفرانز ليست التي بدأت صباها زوجة للموسيقي فون بيلو بتشجيع من أبيها لمجرد ألا تقع تحت سحر تلميذه الموسيقي الشاب ريتشارد فاغنر. لكنها من ناحيتها وقعت تحت سحر هذا الأخير لينتهي بها الأمر إلى الزواج منه والعيش معه مهيمنة عليه حتى رحيله معتبرة إياه الرجل الوحيد في حياتها، "محافظة على تراثه وذكراه"، بل متلاعبة بتاريخه ومكرسة هذا التاريخ لوضعه في خدمة النازيين. ومهما يكن فإن مهمة كوزيما في هذا المجال كانت أسهل بكثير من مهمة امرأة أخرى سعت إلى التلاعب بتراث عبقري آخر هو عملاق فلسفة هذه المرة: فريدريك نيتشه. وهنا نتحدث بالطبع عن إليزابيث أخت هذا الأخير التي بدورها عاشت من بعد أخيها سنوات طويلة لتتلاعب بتراث الفيلسوف، واهبة إياه لهتلر ونازييه، مما شكل قاسماً مشتركاً مدهشاً بين المرأتين اللتين كان زوج أولاهما وشقيق الأخرى صديقين قبل انفصالهما.

ولكن فيما فعلت إليزابيث ذلك عن قناعة أيديولوجية فإن كوزيما فاغنر فعلته عن انتهازية مركانتيلية. ويقيناً أنه بينما كان من شأن نيتشه أن يرفض كلياً ما فعلته أخته، لم يكن لفاغنر إلا أن يقبل بما أقدمت عليه زوجته كما يمكننا أن نستنتج بعد كل شيء. فلئن كان التعمق في دراسة وقراءة نيتشه يوصلنا إلى تناقضات كبيرة بينه وبين الهتلرية، فمن المؤكد أن الفكرانية التي سيطرت على فن فاغنر فكرانية جرمانية ضيقة الأفق.

 

امرأة من فولاذ

ومع ذلك ليس هذا هو موضوعنا هنا، فالموضوع أوسع بحثاً وتحليلاً كما أن المبدعين الكبيرين رحلا عن عالمنا قبل ظهور النازية نفسها، مما يوقف النقاش بصدد كل منهما عند هذا الحد. وهو نقاش ليس موضوعنا هنا بل موضوعنا هو كوزيما نفسها تلك السيدة التي في وسعنا للحديث عنها أن نستعير عنوان كتاب صدر يوماً عن زوجة سيغموند فرويد هو "تباً! لقد نسينا مدام فرويد من جديد!". فالحقيقة أن من يتتبع حياة وفن فاغنر وما كتب عنهما يمكنه ذات لحظة أن يقف ليصرخ "تباً! لقد نسينا مدام فاغنر من جديد!". وهذا في الأقل حتى صدور سيرة ألمانية ضخمة لها في عام 2007 كتبها أوليفر هيلمز قد يكون من الصعب القول إنها أعادت لها الاعتبار بعد نسيان أو تجاهل طويل، لكنها بالتأكيد أعادتها إلى الواجهة بعد قرن ونصف القرن من ظهورها في واجهة الحياة الموسيقية ابنة للموسيقي الرومنطيقي الكبير فرانز ليست وزوجة لفون بيلو ثم لفاغنر، ولكن بأكثر من هذه وتلك، وريثة لصاحب الأوبرات الأبرز في تاريخ البشرية، ولكن ليست وريثته بالمعنى الإبداعي للكلمة بل تحديداً بالمعنى المادي، وهي التي بين تاريخ رحيل زوجها في عام 1883 وتاريخ رحيلها في عام 1938 كانت مالئة الدنيا وشاغلة الناس في ما صنعته بإرثه، متزعمة عائلته وضابطة للصراعات العنيفة بين أبنائه وأحفاده وكل من كان يمت إليه في حياته بصلة.

حكاية ميلودرامية معقدة

وهنا لا بد من الإشارة قبل أي شيء آخر إلى أن السيرة التي ترجمت إلى عدد كبير من اللغات لم تهتم أكثر مما يجب بالجانب الشخصي من حياة كوزيما على رغم أهمية هذا الجانب وكونه يشكل حكاية شديدة الميلودرامية والتعقيد. ففي النهاية كان هذا الجانب معروفاً ومتداولاً على نطاق واسع، وقد جعل لكوزيما سمعة تراوح ما بين كونها ضحية أبيها الكبير وفريسة تلميذه الموسيقي الأكبر، لتجعل هي من زوجها الأول الشاب فريسة لها. ما يهم السيرة الجديدة إنما هو الجانب الآخر من حياة كوزيما، وبالتحديد حياتها منذ رحل ريتشارد فاغنر الذي كانت تعتبره حبيبها الأول والأخير ومثلها الأعلى وأعظم موسيقي في العالم وفي التاريخ ثم، بخاصة وقبل أي شيء آخر، الدجاجة التي كانت تعرف أنها ستبيض لها ذهباً! وهنا في نهاية الأمر بيت القصيد ومحور هذه السيرة على أية حال، وهذه الحكاية إنما بدأت كما أشرنا مع رحيل فاغنر. فصحيح أن هذا الأخير، وكما صوره لنا السينمائي الإيطالي في فيلمه "لودويغ"، عاش سنواته الأخيرة وسط مجد لم يمنعه من أن يحاول تأمين معيشته كيفما اتفق تحت سلطة كوزيما التي كانت مهتمة، أكثر من أي أمر آخر، بأن تضمن لنفسها وأولادها حياة هنيئة مستفيدة من كل مجد يسبغ على زوجها ومن كل فرصة تتاح لهما للحصول على ما يضمن ذلك المستقبل الذي كان أشد ما يرعبها أن تغوص هي وأولادها و"ريتشارد الحبيب" فيه وهم خالو الوفاض. ومهما يكن من أمر، وكما تقول لنا السيرة تمكن اجتذاب فاغنر لملك بافاريا صديقه وحاميه الأكبر من أن يحقق له ذلك المشروع، مهرجان "بايروت"، الذي أتى متناسباً مع تطلع ريتشارد إلى المجد وتطلع كوزيما إلى الثروة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

جهود تواصلت نصف قرن وأكثر

ومن هنا تركزت حياة كوزيما وجهودها منذ رحيل ريتشارد على المحافظة على المهرجان وإدارته ومحاصرته بصورة لا يتمكن أحد معه من الدنو منه إلا بمعرفتها وتحت سلطتها. فالمهرجان هو إمبراطوريتها الخاصة وحتى لئن كانت ثمة صراعات ستحيطه بالمجازفات والأخطار بصورة متواصلة، فإن هذه الصراعات ستكون داخل العائلة والأبناء ومن بعدهم أحفاد الأبناء مهما اشتدت بينهم الخلافات وتكتلت كل مجموعة منهم لمناطحة مجموعة أخرى. ونعرف أن هذه الصراعات لم تتوقف حتى خلال ما تبقى من سنوات تعيشها كوزيما. وهي عاشت على أية حال نحو 55 عاماً بعد رحيل ريتشارد، وعرفت خلال تلك الحقبة وحتى لحظات عيشها الأخيرة كيف تدير اللعبة وتهيمن بنفسها على كل صغيرة وكبيرة، وتوزع المكاسب المادية والمعنوية بما يناسبها في تراتبية عائلية كانت هي التي تملك سرها، وتضع أبناءها المباشرين في المكانة الأولى وتتحكم بالأمور بيد من فولاذ. ودائماً "باسم الراحل الكبير". وهي لكي تحكم تلك السيطرة كانت تستعين بكل ما يمكنها أن تخترعه حتى من مواقف وتوجهات تعثر عليها أو تخترعها لدى المرحوم وصولاً حتى إلى تكييف فكره مع أي فكرة ترتئيها فئة حاكمة وصولاً طبعاً إلى النازيين الذين حتى من قبل سيطرتهم على الحكم في برلين، وجدوا في فكرانية الموسيقي الكبير ما يساند عداءهم للسامية ونزعتهم الجرمانية وسلطاتهم الديكتاتورية.

حتى الرمق الأخير

وبهذا تمكنت كوزيما، ولو في العقد الأخير من حياتها، ومن دون أن تكون هي نفسها مؤمنة بالفكر النازي، تمكنت من أن تعثر لزوجها الراحل الكبير على ما يساند تحويله إلى نازي، بل اعتبار كثر من النازيين أنه المؤسس الكبير للفكر النازي غير مهتمين بكونه قد مات راحلاً عن عالمنا قبل ولادة هتلر ونازيته بسنوات طويلة. ونعرف أن هذا "الزعم" الذي كان من حظ كوزيما أنه وجد أسساً قوية له ليس فقط في ثنايا إبداعات ريتشارد، بل حتى في سيرته الذاتية المعنونة "حياتي" كما في رسائله من دون أن يكون لها على أية حال أي ترابط مع جوهر فنه. ويعيدنا هذا "الحظ" الذي سير خطى كوزيما في لعبتها إلى "سوء الحظ" الذي لازم إليزابيث نيتشه، إذ لم تجد لا في نزعة أخيها الفلسفية ولا في سيرة حياته ما يساند مزاعم النازيين بأنه كان مثلهم معادياً لأوروبا ومعادياً لليهود ومنافحاً عن النزعة الجرمانية. ومن هنا لئن فشلت إليزابيث نيتشه في مسعاها إلى تحويل أخيها إلى نازي، فلا شك أن كوزيما كانت موفقة أكثر منها بل موفقة حتى في التحكم بأبنائها وحسم صراعاتهم، إلى درجة أنها أجبرت مرة واحداً من أولئك الأبناء (وولفغانغ في عام 1906) على الزواج بفتاة لم يكن يريد الزواج منها، لأنه كان مثلياً ومصراً على مثليته، لمجرد أن حصوله على حصة من الإرث والمداخيل المدهشة كان يقتضي ذلك. وهكذا نجحت كوزيما في مشروعها نجاحاً تواصل عقوداً طويلة بعد رحيلها، فكانت على الدوام صاحبة الكلمة الفصل حتى إن شبحها بقي مخيماً على العائلة بإرادتها الصلبة حتى عام 2008 أي بعد 70 عاماً من وفاتها، حين تمت آخر مصالحة كبيرة بين الورثة تتعلق بإدارة مهرجان "بايروت" من ناحية، وبالحصول على مردودات أوبرات فاغنر وأعماله الأخرى لتقسم بين ورثة كوزيما نفسها خير تقسيم!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة