ملخص
لمناسبة مرور 80 عاماً على إنزال الـ"نورماندي" هذا الشهر، نتعرف إلى قصة خوان بويول غارثيا، المعروف بلقب "غاربو"، الجاسوس الاستثنائي في الحرب العالمية الثانية الذي استطاع ببراعة التأثير في مجريات التاريخ.
في أحد أروقة التاريخ المليء بالحروب والتجسس، تبرز شخصية استثنائية هي خوان بويول غارثيا، المشهور باسمه التجسسي "غاربو" الذي أتقن القيام بدورين متناقضين ببراعة استثنائية خلال الحرب العالمية الثانية.
وُلد بويول في مدينة برشلونة لوالده خوان بويول، وهو رجل كاتالوني كان يمتلك مصنعاً للصباغة، ووالدته ميرسيدس غويارو غارثيا من بلدة موتريل الأندلسية في مقاطعة غرناطة. وبويول هو الولد الثالث بين أربعة أطفال، وتم إرساله وهو في السابعة من عمره إلى مدرسة "فالديميا" الداخلية التي يديرها الأخوة ماريست في ماتارو، على بعد 20 ميلاً من برشلونة، وفيها أمضى الأعوام الأربعة التالية.
كان نظام المدرسة يسمح للطلاب بمغادرتها أيام الأحد فقط إذا جاء من يزورهم، لذلك كان والده يقوم بهذه الرحلة الطويلة أسبوعياً لرؤيته.
وتنحدر والدة بويول من عائلة كاثوليكية رومانية متزمتة، وكانت تقوم بطقس المناولة كل يوم، لكن والده كان ميالاً أكثر إلى العلمانية ويتبنى آراء سياسية ليبرالية. في سن الـ13، نُقل إلى مدرسة في برشلونة يديرها صديق والده، الأب موسن جوزيف، وبقي هناك ثلاث سنوات، وقرر بعد مشادة كلامية مع معلمه أنه لم يعُد يريد البقاء في المدرسة وأصبح متدرباً في متجر للأدوات.
عمل بويول في مهن عدة قبل الحرب الأهلية الإسبانية وبعدها مثل دراسة تربية الحيوانات في مدرسة الدواجن الملكية في آرنيس دو مارس وإدارة شركات متنوعة من ضمنها صالة سينما. وتوفي والده بعد أشهر عدة من إطاحة النظام الملكي الإسباني وتأسيس الجمهورية الثانية عام 1931، بينما كان بويول يكمل تعليمه كمربي دواجن. وترك والد بويول عائلته في حال مادية جيدة، إلى أن استولى العمال على مصنع والده في الفترة السابقة للحرب الأهلية الإسبانية.
في أتون الحرب
خلال عام 1931، قضى بويول ستة أشهر في وحدة سلاح الفرسان، التابعة للفوج السابع من المدفعية الخفيفة، فكانت تنتظره تحديات لم تكُن في متناول يديه. ولم يكُن يمتلك الشغف بركوب الخيول، وكان يعتقد بأنه يفتقد الصفات المطلوبة من الولاء والكرم والشرف. وفيما كان يدير مزرعة دواجن في شمال برشلونة عام 1936، اندلعت الحرب الأهلية الإسبانية مع تورط خطيب أخته في مشكلات مع القوات الجمهورية. أما والدته وأخته، فاعتُقلتا تحت اتهامات بمعارضة للثورة، لكنهما نجتا بفضل جهود أحد أقربائهما في اتحاد العمال.
استجاب بويول لاستدعاء الخدمة في الجانب الجمهوري، ومع ذلك كان يعارض بشدة الحكومة الجمهورية بسبب معاملتها لعائلته. بعد مداهمة منزل صديقته أوقف وأجبر على الاختباء لأسابيع عدة قبل أن يتم إطلاق سراحه من قبل مجموعة المقاومة "سوكورو بلانكو" التي ساعدته في تزوير أوراق هوية تدعي أنه معفى من الخدمة العسكرية بسبب كبر سنه.
بعد ذلك، عاد بويول لإدارة المزرعة التي استولت عليها السلطات الجمهورية المحلية، لكن الأمور لم تكُن مزدهرة اقتصادياً. وتعمقت تجربته في معرفة الحكم الشيوعي، مما دفعه للانضمام إلى الجانب القومي بعد فترة قصيرة، فعمل على تثبيت كابلات التلغراف قرب الخطوط الأمامية. واستطاع الفرار خلال معركة إيبرو في سبتمبر (أيلول) من عام 1938، ولكنه واجه الظلم نفسه الذي عاناه في الجانب الجمهوري.
مرت تجربته بين الجانبين بالكراهية والانزعاج، فتشكلت لديه مشاعر عميقة تجاه كل من الفاشية والشيوعية، مع فخره بأنه نجح في خدمة الطرفين من دون أن يطلق رصاصة واحدة لمصلحة أحدهما. بعدما غادر الجيش الوطني التقى زوجته المستقبلية أراسيلي غونزاليس في بورغوس وتزوجا في مدريد، حيث رُزقا بابنهما الوحيد خوان فرناندو.
من أجل الإنسانية
في 1939، خلال الأيام الأولى للحرب العالمية الثانية، قرر بويول أن من واجبه تقديم إسهام "لمصلحة الإنسانية" (ومعارضة نظام فرانكو) من خلال مساعدة بريطانيا التي كانت مع إمبراطوريتها الخصم الوحيد لألمانيا في ذلك الوقت.
اقترب من البريطانيين في البداية ثلاث مرات، إذ ذهب مرتين مباشرة إلى وزارة الحرب في مدريد، ومرة واحدة عبر الاتصال بالسفارة البريطانية في لشبونة. ولم يكُن كل من الاستخبارات العسكرية القسم الخامس MI5 والقسم السادس MI6 على استعداد لتوظيفه. فقرر بويول الاتصال بالألمان بدلاً من ذلك واختلاق شخصية مزيفة لمسؤول حكومي إسباني متعاطف مع الفاشية ويستطيع السفر إلى لندن في مهمة رسمية.
بعد إقناع الألمان بأنه بالفعل وكيل نازي مؤيد، تلقى تعليمات بالسفر إلى بريطانيا لتجنيد شبكة من العملاء. بدلاً من السفر إلى بريطانيا، ذهب إلى لشبونة واشترى دليلاً سياحياً لبريطانيا وجداول زمنية للقطارات ونشرات إخبارية سينمائية، وكتب تقاريره مستعيناً بمعلومات مستخلصة من هذه المصادر.
داخل الاستخبارات الألمانية
من لشبونة، بدأ بويول بإرسال تقارير بصورة منتظمة إلى الألمان، محملة بمعلومات مضللة مستخلصة من مصادر عامة. وعلى رغم أن بعض التقارير كانت تحوي أخطاء واضحة مثل استخدامه لنظام القياس المتري في تقارير عن بريطانيا بدلاً من النظام الإمبراطوري المعتمد فيها (الذي يستعمل الميل والرطل) أو الإشارة إلى عادات شرب غير مألوفة، فإن الألمان لم يكتشفوا خدعته، وكان بويول يمتلك مهارة فذة في خلق قصص وهمية وإدارة شبكة من العملاء الوهميين.
وهكذا نجح في بناء ثقة الألمان على رغم الأخطاء، إذ حمّل شبكة ابتكرها بنفسه من العملاء الوهميين مسؤولية المعلومات المغلوطة، وبفضل هذا الخداع أنفق الألمان أموالاً كثيرة لملاحقة قافلة وهمية من العملاء، مما جعل البريطانيين يقبلونه كعميل مزدوج بعد مقابلات عدة مع جهاز الاستخبارات البريطاني.
نُقلت عائلته إلى بريطانيا وأُعطي بويول الاسم الحركي "غاربو"، وأمضى ومساعده البريطاني الذي عينته الاستخبارات البريطانية توماس هاريس بقية الحرب في توسيع الشبكة الوهمية، وكانا في البداية يتواصلان مع عملائهما الوهميين الألمان عن طريق إرسال الرسائل ولاحقاً عن طريق الرسالة اللاسلكية. وفي النهاية كان الألمان يمولون شبكة مؤلفة من 27 عميلاً تم استخدامها لتضليل الألمان في شأن خطط الحلفاء وتوجيههم بطريقة خاطئة.
نورماندي... العملية الكبرى
تمثل أحد أعظم نجاحات بويول في تضليل الألمان حول موعد ومكان إنزال الحلفاء في نورماندي، وكان بويول الرجل الذي قاد العملية الاستخباراتية المسماة "فورتيتود"، الهجوم الذي شكّل نقطة فارقة في تاريخ الحرب العالمية الثانية. وتعني كلمة "فورتيتود" الثبات والاستقامة، مما تجسد في عمل بويول الذي تمحور حول إقناع الألمان بأن هجوم الحلفاء الرئيس سيكون في باس دو كاليه بدلاً من نورماندي وأن الهجوم على هذه الأخيرة كان تمويهاً فقط.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عمل بويول على بناء شبكة وهمية من الجواسيس والمعلومات الخاطئة التي أغرقت أجهزة الاستخبارات الألمانية في السذاجة، مما سهل للحلفاء الهبوط في نورماندي في السادس من يونيو (حزيران) عام 1944 من دون مواجهة مقاومة شديدة، وكانت هذه العملية الخداعية الجريئة سبباً في تقدم قوات الحلفاء نحو النصر النهائي في أوروبا.
نتيجة لذلك احتفظ الألمان بوحدات دفاعية رئيسة في منطقة باس دي كاليه حتى بعد بدء الإنزال في نورماندي، مما أتاح للحلفاء فرصة لتأسيس رأس جسر (أي نقطة بداية استراتيجية تستخدم لتقديم التعزيزات والدعم للقوات المهاجمة أو المتقدمة) وتقديم تعزيزات بحرية، وكان لهذا التضليل دور حاسم في نجاح عملية الإنزال وفي تغيير مسار الحرب لمصلحة الحلفاء.
نظير خدماته الجليلة، حصل بويول على تكريم من الجانبين البريطاني والألماني، ففي 1944 منحه الألمان وسام "الصليب الحديدي" لجهوده في خدمة الرايخ الثالث. وفي المقابل كرّمه البريطانيون بمنحه وسام الإمبراطورية البريطانية، وهو من أعلى درجات التكريم، فكان أحد القلائل الذين حصلوا على أوسمة من الجانبين المتحاربين خلال الحرب العالمية الثانية.
الحياة بعد الحرب
بعد انتهاء الحرب، اختار بويول أن يعيش بعيداً من الأضواء، فانتقل إلى فنزويلا وافتتح مكتبة صغيرة، ثم استقر في البرازيل لاحقاً. وحصل على هوية جديدة تمكنه من العيش بأمان خارج أوروبا، ووفرت له السلطات البريطانية هوية باسم "إرنستو لوبيز" الذي استخدمه لأعوام عدة ليعيش حياة هادئة بعيداً من عالم التجسس والأحداث الدولية المضطربة.
سمحت تلك الهوية الجديدة لبويول بالاستقرار في أميركا الجنوبية، وتجنب الانتباه إليه والأخطار التي كانت واجهته خلال فترة خدمته كجاسوس في أوروبا أثناء الحرب.
أمضى لوبيز بقية حياته في البرازيل، حيث لم تكُن هويته الحقيقية معروفة إلا لعدد قليل من الأشخاص المقربين منه، وحافظ على سرية هويته لتفادي أي خطر محتمل يمكن أن يهدد حياته وسلامة أسرته حتى رحيله في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1988، ولم تُنشر تفاصيل محددة تشير إلى سبب وفاته، لكن يعتقد بأنه توفي بعد مرض طويل ألم به في أواخر حياته.
وعلى رغم ابتعاده من الأضواء، فإن قصته بدأت تخرج إلى النور تدريجاً، لتصبح واحدة من أكثر حكايات التجسس إثارة وإلهاماً في التاريخ. وبهذا النحو انتهت حياة الرجل الذي عاش حياتين، واحدة كجاسوس مثير في عالم الخيال والتجسس، والأخرى كإنسان يعيش بمقتضى القيم والمبادئ الإنسانية.
ترك بويول بصمة لا تُمحى في تاريخ الحروب والاستخبارات، وكان رجلاً أسهم بجدارة في تغيير مسار الحياة لملايين الأشخاص بجهوده السرية والبارزة.
خوان بويول غارثيا، الرجل الذي خاض غمار الحرب العالمية الثانية بأسلوبه الفريد يبقى رمزاً للشجاعة والذكاء، وفي زمن كانت المعلومات سلاحاً حاسماً استطاع أن يحول الوهم إلى حقيقة وأن يغير مسار التاريخ بحنكته وقدرته على الخداع.