ملخص
يسلط التحقيق الضوء على قيام القوات الروسية بإساءة معاملة آلاف الأطفال الأوكرانيين ونقلهم قسراً إلى مخيمات في روسيا والأراضي الأوكرانية المحتلة من أجل "إعادة التثقيف" عبر تعريضهم للدعاية المؤيدة لروسيا. وعلى رغم الإدانة الدولية والجهود المبذولة لإنقاذهم، بما في ذلك من قبل منظمات مثل "إنقاذ أوكرانيا" لم يتم لم شمل سوى جزء صغير من هؤلاء الأطفال مع أسرهم
لم تفهم أناستازيا موتيتشاك السبب وراء إقدام إيرينا - المسؤولة عن المعسكر الذي كانت توجد فيه في شبه جزيرة القرم التي تحتلها روسيا - على توجيه صفعة مفاجئة إليها على الوجه. فكل ما كانت تعرفه هو أنها تفتقد والدتها وتتوق للعودة إلى منزلها في مدينة خيرسون في أوكرانيا.
مر شهران منذ أن وضعت هذه الفتاة التي كانت تبلغ من العمر آنذاك 15 سنة على متن حافلة، ونقلت من مدينة خيرسون التي كانت تحتلها روسيا حينذاك، في جنوب أوكرانيا، إلى ما وصف بأنه "مخيم عطلات" في مدينة يفباتوريا غرب شبه جزيرة القرم، لمدة كان من المفترض أن تكون أسبوعين. بعدما حذر جنود روس من أن خيرسون غير آمنة للأطفال.
بعد مرور بضعة أيام، استعادت القوات الأوكرانية السيطرة على مدينة خيرسون. لكن بحلول ذلك، وجدت أناستازيا نفسها على بعد 150 ميلاً (241 كيلومتراً) في عمق الأراضي التي كانت تحت الاحتلال الروسي، تقبع في غرفة ذات نوافذ ثبتت عليها قضبان من حديد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أناستازيا ووالدتها اللتان كانتا تعيشان في مناطق تسيطر عليها قوات عسكرية مختلفة، سرعان ما واجهتا صعوبة في التواصل، بسبب قطع خطوط الاتصال بين المدينتين.
بعد فترة وجيزة، ظهرت إيرينا المعلمة السريعة الغضب، التي غالباً ما كانت تحدق في أناستازيا وتوجه شتائم إلى الأطفال الذين لم يتمكن أي منهم من فهم السبب وراء سلوكها.
وفي إحدى أمسيات يناير (كانون الثاني)، بعد عودة أناستازيا من نزهة، سحبتها زميلتها في الغرفة على عجل إلى غرفتهما، منبهة إياها إلى أن إيرينا كانت تبحث عنها. وفي حيرة من أمرها، ألقت أناستازيا بنظرة خاطفة من خلف باب الغرفة لتجد إيرينا في مكان قريب.
وتسترجع أناستازيا تلك اللحظات قائلة: "سارعت إلى الإمساك بي واقتادتني إلى غرفة مجاورة، وبدأت توجه الشتائم إليَّ، وأبلغتني بأنني لن أعود إلى مدينتي على الإطلاق. وقالت إنها سئمت مني، مهددة إياي بأنها ستتصل بالشرطة وتطلب إرسالي إلى جبال الأورال في روسيا [أي بعيداً جداً]، إذا ما كررت فعلتي مرة أخرى، ثم أغلقت باب الغرفة وصفعتني على وجهي". ولا تزال أناستازيا حتى الآن لا تعرف ما الخطأ الذي ارتكبته.
ووفقاً لمسؤولين أوكرانيين، فقد نقل نحو 20 ألف قاصر أوكراني إلى مثل تلك المخيمات أو المعسكرات، منذ انطلاق الغزو الذي شنته روسيا على أوكرانيا عام 2022. وكان ربع الذين احتجزوا من الأيتام أو الأطفال الذين لم يكن لديهم أهل يرعونهم.
وقد حددت الحكومة الأوكرانية وجود أكثر من 70 مخيماً يستخدمها الروس "لإعادة تثقيف" هؤلاء الأطفال قسراً، وتتوزع على دولة بيلاروس المجاورة، ومنطقة شبه جزيرة القرم المحتلة، وحتى في أقصى شرق روسيا، إذ يكون الأطفال أقرب جغرافياً إلى الولايات المتحدة، بنحو ثلاث مرات، منهم إلى وطنهم الأم أوكرانيا.
وكانت قضية إعادة هؤلاء الأطفال المختطفين إلى أوكرانيا، ضمن المحور الأساس للمحادثات في قمة السلام التي عقدت نهاية الأسبوع الماضي في سويسرا بقيادة الرئيس فولوديمير زيلينسكي، والتي لم توجه دعوة إلى روسيا لحضورها.
"سنتعرض للعقاب"
تشير التقارير الصادرة عن "منظمة الأمن والتعاون في أوروبا" Organisation for Security and Co-operation in Europe (OSCE)، إلى أن ما يسمى المخيمات التي يتم اقتياد الأطفال إليها، هي بعيدة البعد كله عن أن تكون منتجعات للعطلات.
ووفقاً لأحد تقارير المنظمة الصادر في مايو (أيار) عام 2023، فإن الأطفال "يجدون أنفسهم في بيئات متأثرة بشدة بالأيديولوجيات المؤيدة لروسيا... وهم يتعرضون لحملة دعائية متعمدة غالباً ما تنطوي على إعادة تثقيف منهجية" [لجهة تغيير معتقداتهم وإعادة تشكيل ثقافتهم]".
عندما وصلت أناستازيا إلى المخيم في يفباتوريا، وضعت في غرفة صغيرة ومشتركة مع عدد من الأطفال الآخرين من مدينتها خيرسون.
وتقول إن رائحة الوسائد كانت كريهة، والصراصير تملأ المكان، ولا سيما في قاعة الطعام، "شعرت وكأنني كنت قابعة في سجن. وعلى رغم أن غرفتنا كانت تحوي شرفة، فإنها كانت محاطة بقضبان".
وتتذكر أناستازيا أنها كانت "تخضع لمراقبة مستمرة" طوال فترة وجودها في المخيم، ولم يكن يسمح لها بالخروج إلا تحت إشراف دقيق من مسؤولي المخيم. وأضافت أن الأطفال كانوا يتعرضون للعقاب في كثير من الأحيان لأسباب لا يفهمونها.
وتضيف: "لقد عوقبنا من دون أن نعطى أي تفسير. لم نفهم في الحقيقة لماذا لم يسمحوا لنا بالمغادرة. وعندما طرحنا عليهم أسئلة، رفضوا الإجابة. وأصروا على أنه لن يتم توفير حافلة لنا للعودة بنا إلى مدينتنا، وقالوا إنه يتعين على والدينا المجيء لاصطحابنا. وظلوا يكررون ذلك مراراً".
وذكر تقرير "منظمة الأمن والتعاون في أوروبا" أن "الاتحاد الروسي لا يتخذ أي خطوات فاعلة لتسهيل عودة الأطفال الأوكرانيين إلى منازلهم"، على رغم التزامه ذلك بموجب "اتفاقية جنيف" في شأن معاملة الأطفال خلال الحروب. وبدلاً من ذلك، أشار التقرير إلى أن روسيا "تفرض عوائق عدة تعرقل جهود الأسر التي تسعى إلى استعادة أطفالها".
مفوض حقوق الإنسان الأوكراني المكلف التفاوض على إعادة الأطفال الأوكرانيين من روسيا دميترو لوبينيتس قال لـ"اندبندنت" إن المسؤولين في موسكو "يبذلون كل ما وسعهم لمنع أولئك الأطفال من العودة إلى ديارهم، وتبلغ أعدادهم عشرات الآلاف".
وقد نفت موسكو مراراً أن تكون قد اختطفت أطفالاً وبررت أفعالها بالادعاء بأنها اتخذت تدابير لحماية الأطفال. إلا أن لوبينيتس رفض النفي الروسي هذا.
وقال لوبينيتس "منذ أن احتلت روسيا شبه جزيرة القرم وأجزاء من منطقتي دونيتسك ولوغانسك في عام 2014، عملت باستمرار على ترحيل قاصرين أوكرانيين، وانتهاك حقوق المدنيين. وقد بذلنا على مدى ثمانية أعوام تقريباً، جهوداً حثيثة لمناقشة إعادة هؤلاء الأطفال. هل حققنا أي نتائج ملموسة؟ الجواب هو: كلا".
واعتبر أن "الطريقة الحقيقية الوحيدة التي يمكننا من خلالها وقف ترحيل أطفال أوكرانيين، تتمثل في تحرير جميع الأراضي الأوكرانية المحتلة. وليس أمامنا أي خيار آخر".
ووفقاً لموقع "أطفال الحرب" Children of War، وهي منصة أنشئت لتقفي أثر الأطفال الأوكرانيين المرحلين، فإن أناستازيا تعد واحدة من 388 طفلاً فقط تم إنقاذهم. وقد عاد نحو اثنين في المئة فقط من القاصرين الذين أخذتهم روسيا، ويعزى ذلك في الأساس إلى تحرير مسقط رأسهم من السيطرة الروسية.
بعد ثلاثة أشهر من تحرير القوات الأوكرانية مدينة خيرسون، تمكنت والدة أناستازيا من التواصل مع منظمة "أنقذوا أوكرانيا" Save Ukraine - وهي مؤسسة لا تتوخى الربح وتعنى بمساعدة الأسر على استعادة أحبائها من خلال تمكين أفرادها من السفر عبر روسيا - وقد سهلت المنظمة إنقاذ أكثر من 60 في المئة من الأطفال الذين جرى تحريرهم حتى الآن.
وبعد رحلة طويلة استغرقت زهاء 15 يوماً، حول خط المواجهة في أوكرانيا، وعبر بولندا وبيلاروس وجنوب غربي روسيا، توصل إلى لم شمل أناستازيا أخيراً مع والدتها، وذلك في فبراير (شباط) عام 2023، بعد أربعة أشهر من اختطافها.
وبعدها بنحو شهر، أصدرت "المحكمة الجنائية الدولية" مذكرتي اعتقال في حق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومفوضة الكرملين لحقوق الطفل ماريا لفوفا-بيلوفا، التي تفاخرت بـ"إنقاذ" قاصر أوكراني، وهو فيليب هولوفينا البالغ من العمر 17 سنة حينها.
وأفاد المدعون العامون لدى "المحكمة الجنائية الدولية" بأن لديهم "أسباباً وجيهة" للاعتقاد أن لفوفا-بيلوفا تتحمل مسؤولية جنائية عن دورها في ترحيل أطفال أوكرانيين إلى روسيا "بصورة مباشرة، بالاشتراك مع آخرين و/ أو من خلال وسطاء". وأكدوا أيضاً أن بوتين يتحمل مسؤولية قيادية. وقد نددت روسيا بمذكرتي الاعتقال قائلة إن دوافعهما سياسية.
الخبيرة القانونية لدى "المركز الإقليمي لحقوق الإنسان" Regional Centre for Human Rights في كييف، كاتيرينا راشيفسكا، التي كانت تقدم المشورة للأمم المتحدة في شأن المعسكرات التي يحتجز فيها أطفال، قالت لـ"اندبندنت" إن عمليات الترحيل القسري تعد "مؤشراً إلى نية روسيا إبادة أمتنا".
وأضافت: "بالنسبة إلينا نحن الأوكرانيين، يشكل هذا تهديداً مباشراً لهويتنا، لأن روسيا تسعى إلى تحويل أطفالنا إلى أعداء لأوكرانيا".
"لماذا لا تذهبين؟"
وقد تحدثت "اندبندنت" مع خمسة أطفال أوكرانيين، كانت أعمارهم ما بين 12 و17 سنة عندما جرى اختطافهم، حول تجاربهم في ما تسمى "معسكرات العطلات".
وجميعهم احتجزوا لمدة أربعة أشهر في الأقل، كما حصل مع أناستازيا، وبقي ثلاثة في الأقل لأكثر من ثمانية أشهر، حتى بعدما أصدرت "المحكمة الجنائية الدولية" مذكرات الاعتقال في مارس (آذار) من العام الماضي. وجرى إنقاذهم جميعاً في نهاية المطاف، من جانب منظمة "أنقذوا أوكرانيا".
وتستذكر ليزا باتسورا الفتاة البالغة من العمر 16 سنة، اللحظة التي دخل فيها أحد المسؤولين الروس إلى صفها الدراسي في "المدرسة المهنية الرقم 27" في مدينة هينيتشيسك الساحلية، قرب شبه جزيرة القرم.
ففي سبتمبر (أيلول) 2022، عندما كانت الفتاة في الـ14 من عمرها، جرى نقلها قسراً من مدينة خيرسون إلى شبه جزيرة القرم على يد السلطات الروسية. وعندما قاومت، هددها مدير المدرسة بحبسها في الطابق السفلي. ولم يتم إنقاذها إلا في مايو من العام التالي، من قبل والدتها أوكسانا هالكينا التي كانت منفصلة عنها.
وتقول ليزا: "أبلغنا المعلم بأن شخصاً ما سيحضر، ثم تم نقلنا إلى غرفة توجد فيها طاولة كبيرة وكراس، لتدخل بعدها تلك المرأة. وقد بادرتنا بالقول إن الوضع في مدينة هينيتشيسك لم يعد آمناً لنا بسبب الحرب، وإننا سنكون أفضل حالاً في روسيا، إذ سنحظى بكثير من المزايا".
وبحسب ليزا فإن المسؤولة الروسية التي كانت برفقة رجال يرتدون زياً رسمياً، عرضت على كل طفل 100 ألف روبل (أي ما يعادل 893 جنيهاً استرلينياً أو 1134 دولاراً أميركياً)، "للانتقال إلى أي مدينة روسية يريدونها"، على حد قول ليزا.
حتى تلك اللحظة، لم تكن ليزا قد تحدثت مع والدتها منذ أكثر من ستة أشهر. فالعلاقة بينهما كانت متوترة، مما اضطر الابنة إلى أن تعيش في إحدى دور الأطفال في مدينة خيرسون، قبل أن تأخذها السلطات الروسية. وقد تم إبلاغ والدتها بموقعها بعد أسبوع من نقلها.
وتقول ليزا في وصف ما أحست به آنذاك: "كانت تراودني بعض الأفكار، إذ سألت نفسي، ماذا لو كانت هذه فرصة عظيمة بالنسبة إليَّ؟ وقد ضغط عليَّ بعض الأطفال الآخرين قائلين: لمَ لا تذهبين؟".
وتشير ليزا إلى أن ستة أو سبعة أطفال من صفها الدراسي قبلوا العرض، إلا أنها من جانبها رفضته. وتوضح السبب قائلة: "في النهاية، توصلت إلى استنتاج بأنني أشعر بارتباط أقوى مع أوكرانيا مقارنة بروسيا، إضافة إلى ذلك، كانت الدعاية الروسية المستمرة مزعجة للغاية".
أحد الذين قبلوا العرض الروسي، ويدعى زوريك إبريان البالغ من العمر 17 سنة، لا يزال في هينيتشيسك. وهو يبعث أحياناً برسائل إلى ليزا للتنديد بتفضيلها أوكرانيا. يشار إلى أن هذا المراهق كان قد أصبح يتيماً قبل نحو عام من الغزو الروسي واسع النطاق لأوكرانيا.
"كل ما أردته هو أن ينتهي ذلك الوضع"
بالنسبة إلى الفتى بوغدان شفيتسوف، فإن الجزء الأسوأ من تجربته كان اضطراره إلى غناء النشيد الوطني الروسي بصورة يومية.
ففي أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2022، عندما كان الطفل في الـ12 من عمره، نقلته السلطات الروسية قسراً من خيرسون إلى شبه جزيرة القرم. وكما أناستازيا، فقد تبلغت والدته أنه ليس من الآمن له البقاء في المدينة. ولم ينقذه إلا في أبريل (نيسان) من العام التالي.
الفتى الصغير نقل إلى المخيم على متن قارب عبر البحر الأسود. ويقول إنه لم يكن خائفاً أثناء الرحلة، لأنها كانت المرة الأولى التي يسافر فيها بقارب.
إلا أنه لدى وصوله إلى مدينة يفباتوريا - وهي الوجهة الأولى لجميع الأطفال الوافدين من خيرسون - تم عزله عن أقرانه، ووضع داخل حافلة توجهت به إلى معسكر قريب. وهناك خضع لروتين صارم، تمحور في مجمله حول الدعاية الروسية.
ويستعيد بوغدان وقائع تلك المرحلة قائلاً: "كانوا يرغموننا على غناء النشيد الوطني صباح كل يوم، مباشرة قبل ممارسة التمارين البدنية". ويضيف أن التربية البدنية كانت تبدأ في الساعة الثامنة والنصف صباحاً، يليها حضور دروس إلزامية في اللغة الروسية، ثم أنشطة في الفنون والحرف اليدوية".
ويتابع: "كان يطلب منا أن نقف في صفين. وكان مقدمو الرعاية يتجولون بيننا للتأكد من أن الجميع يغنون. وفي حال ضبط أحدنا وهو لا ينشد، يقتادونه إلى مدير المعسكر. وهناك، إذا ما أصر على عدم الغناء، يتلقى تهديدات بإرغام والديه على دفع غرامة مالية.
ويقول إنه كان يجهل النشيد الوطني الروسي، لذلك كان يتظاهر بأنه يغنيه من طريق فتح فمه في بعض الأحيان. إلا أنه في النهاية، تمكن من حفظ بعض الكلمات التي كان ينشدها بصورة عشوائية.
ويتابع: "كان الأمر يصبح أكثر إزعاجاً يوماً تلو الآخر. وكل ما أردته هو أن ينتهي ذلك الوضع، لكنني كنت أخشى أن أقول أو أفعل شيئاً من شأنه أن يتسبب بوقوع مشكلة كبرى. فقد رأيت كيف كان يؤخذ الأطفال من داخل المعسكر".
مفوضة الكرملين لحقوق الأطفال ماريا لفوفا-بيلوفا وصفت في مقابلة أجريت معها أخيراً الغناء اليومي للنشيد الوطني الروسي بأنه "جانب بالغ الأهمية لتعزيز الشعور بالهوية والتماهي مع الاتحاد الروسي"، معتبرة أنه "لا حرج في ذلك".
إلا أنها لم تعلق على تأكيدات بوغدان شفيتزوف في ما يتعلق بأن القاصرين كانوا يواجهون تهديدات في حال لم يشاركوا في الإنشاد، كما لم يعلم بوغدان ما إذا كان الأطفال يتعرضون للعقاب بالفعل.
وفي عودة إلى الشابة ليزا التي تقول إنه خلال الشهر الأول الذي أمضته في "مخيم دروجبا" - الذي يعني "الصداقة" باللغة الروسية - وقعت حادثة مزعجة، عندما اكتشف رئيس أمن المعسكر وجود علم أوكرانيا في حقيبة إحدى الفتيات.
وتضيف: "جمعنا المسؤول، وأضرم النار بالعلم أمام أعيننا، ثم قال لنا: انظروا، هذه هي الطريقة التي ستحترق بها بلادكم".
وتذكر ليزا من جانبها أنه كانت تطلق عليهم بصورة منتظمة عبارتا "أوكروبي" Ukropy و"خوخول" Khokhol، وهما من المصطلحات الروسية المهينة التي تهدف إلى وصف الأوكرانيين بأنهم أقل شأناً.
دينيس بيريجني الشاب الذي بلغ من العمر الآن 18 سنة، يؤكد أنه لن ينسى أبداً اليوم الذي نقل فيه إلى شبه جزيرة القرم المحتلة. ويشير إلى أن السلطات الروسية خدعته، ودفعته إلى مغادرة مدينة خيرسون عندما كان في الـ17 من عمره، وقد حصل ذلك في السابع من أكتوبر عام 2022. وكان في حينه يقيم في كلية بعيداً من منزله.
ويوضح ما حصل قائلاً: "لم أكن أرغب في الذهاب، لكن معلمتي أبلغتني بأن والدي وقعا على الأوراق. وقد اكتشفت في وقت لاحق أن تلك كانت كذبة". لم يعد هذا الفتى إلى أهله إلا في يونيو (حزيران) عام 2023.
خلال تلك الأشهر التسعة، كان والده ووالدته وهما من الصم والبكم، واللذان كانا يعتمدان على الرعاية الرئيسة التي يقدمها لهما، مضطرين إلى الاستعانة في ذلك بجيرانهما، وبشقيق دينيس البالغ من العمر 13 سنة فحسب.
ويقول دينيس: "كنت شديد القلق، لأنني لم أكن أعرف ما كان يحدث مع والدي وشقيقي. لم أكن أعرف ما إذا كانوا بخير أم لا".
أصيب دينيس بالإحباط، شأنه شأن بوغدان، بسبب الرتابة التي كانت تخيم على بيئة المخيم. وبما أنه كان أحد أكبر القاصرين الذين تم احتجازهم، لم يسمح له بالمشاركة في الصفوف الدراسية خلال النهار.
ويضيف دينيس: "لم يكن لدينا ما نقوم به في المخيم. لكن لم يكن يسمح لنا بالمغادرة. شعرت في الواقع بأنني داخل سجن".
بعد شهرين، نقلته السلطات الروسية إلى كلية تقنية في كيرتش، البلدة التي تقع على بعد أميال قليلة من البر الرئيس لروسيا، إذ أجبر على متابعة مواد لم يخترها.
ويتذكر اليوم الذي وطئت فيه قدماه الأراضي الأوكرانية المحررة، بذات القدر من الوضوح اليوم الذي أخذ فيه من مدينته خيرسون.
وكان نجح في التواصل مع منظمة "أنقذوا أوكرانيا" بعدما أبلغه أصدقاؤه بأن هذه المؤسسة يمكن أن تساعد في إنقاذه وإعادته إلى موطنه. وقد اصطحبته والدة صديقه سيرهي هو وابنها.
ويقول: "استغرقت عودتنا قرابة خمسة أيام"، واصفاً طريقاً مشابهاً للطريق الذي سلكته والدة أناستازيا لكن في الاتجاه المعاكس.
ويقول: "ربما نمت لمدة ساعتين فقط طوال الرحلة. لقد شعرت بإرهاق شديد عندما وصلنا إلى وجهتنا".
ويؤكد أنه عندما عبر الحدود بالسيارة من بولندا، صرخ قائلاً: "سلافا أوكرايني" Slava Ukraini التي تعني "المجد لأوكرانيا". وقد أصبحت هذه العبارة رمزاً للمقاومة الأوكرانية لروسيا.
ويقول: "شعرت بسعادة غامرة عندما عبرنا، لأنني كنت أعلم بأنني لن أضطر إلى رؤية مزيد من الأعلام الروسية أو غناء النشيد الوطني الروسي. لقد كان في وسعي أن أتنفس الصعداء، والشعور أخيراً بالارتياح".
"فترة من الخوف المستمر"
لكن بالنسبة إلى كسينيا كولدينا ابنة الـ19 سنة، فلم تمثل عودتها من معسكر إعادة التثقيف الروسي نهاية لكابوسها.
فالصحافية الطموحة كانت تقيم في مدينة فوفتشانسك في منطقة خاركيف مع شقيقها الأصغر سيرغي كولدين، في كنف أسرة أوكرانية حاضنة. وكانت هذه البلدة التي تقع على بعد ستة أميال (10 كلم) تقريباً من الحدود الروسية، موطنهما منذ أن فقد والداهما حضانتهما قبل عامين. وفي الآونة الأخيرة، احتلت القوات الروسية المنطقة جزئياً بعد هجوم شنته عبر الحدود، وذلك في مايو من هذه السنة.
وفي أغسطس (آب) عام 2022، بعد نحو ستة أشهر من احتلال روسيا فوفتشانسك في البداية، أرسلتها العائلة الحاضنة لكسينيا عبر الحدود إلى بلدة شيبيكينو في منطقة بيلغورود الروسية. وقد تأثرت تلك الأسرة بالدعاية الروسية التي زعمت بأن الأطفال سيكونون أكثر أماناً هناك. كانت كسينيا في ذلك الوقت، تبلغ من العمر 17 سنة. وقد أرسل شقيقها الأصغر إلى معسكر يقع في بلدة غيليندجيك في منطقة كراسنودار جنوب روسيا، على بعد نحو 620 ميلاً (1000 كلم). وكان عمره 11 سنة فحسب.
وعلى عكس القاصرين الآخرين الذين أجريت معهم المقابلات، لم يأت أحد لاستعادة كسينيا أو شقيقها. وكان أي أمل في عودتهما يعتمد على كسينيا وحدها.
وتتحدث وهي مترددة في وصف تجربتها مقارنة بالآخرين ممن أجريت مقابلات معهم "لقد كانت فترة من الخوف المستمر"، مضيفة "لم يكن لدي أي فكرة عما كان سيحدث في اليوم التالي. كنت أشعر بالضياع".
وتتابع "كنت أخشى أن أبقى عالقة في روسيا إلى أجل غير مسمى. اعتقدت أنني قد أضطر إلى قبول الحصول على جواز سفر روسي".
بعدما بلغت سن الـ18، تمكنت من الهرب بمساعدة أصدقاء لها سهلوا تواصلها مع الخدمات الاجتماعية في منطقة خاركيف. ومن خلالها، تعرفت إلى منظمة "أنقذوا أوكرانيا"، التي قدمت لها المساعدة في العثور على شقيقها، بعدما بقيت منفصلة عنه لمدة تسعة أشهر، ولم يتمكنا من التحدث معاً إلا بصورة متقطعة.
وعندما حاولت إعادة شقيقها سيرغي، واجهت مقاومة ليس فقط من أسرته الحاضنة الجديدة، بل منه أيضاً بحيث كان يمتنع عن الرد على مكالماتها. وعندما وصلت أخيراً لرؤيته، ابتعد فيما كانت تحاول معانقته.
وأفادت كسينيا بأن شقيقها سيرغي بدا مرتبكاً ومتوتراً. وقالت في مقابلة منفصلة مع صحيفة "نيويورك تايمز"، "بدأ يقول ’إن روسيا مكان أفضل له. أريد البقاء‘".
واكتشفت في وقت لاحق أنه كان يقال له بانتظام إن جميع الأوكرانيين هم نازيون و"خوخول"، وهي العبارات المهينة نفسها التي تستخدم في معسكرات شبه جزيرة القرم.
الرئيس التنفيذي لمنظمة "أنقذوا أوكرانيا"، ميكولا كوليبا، قال لـ"اندبندنت": "إن عكس آثار عملية ’التلقين العقائدي‘ يصبح أكثر صعوبة لدى الأفراد الأصغر سناً الذين خضعوا ’لإعادة تثقيف‘".
وفي هذا الإطار، اضطلع مفوض حقوق الأطفال السابق في أوكرانيا - الذي تولى مهامه في الفترة الممتدة ما بين عامي 2014 و2021 - بدور أساس في استعادة الأطفال الذين خطفوا، وأمَّن شخصياً الرعاية والإقامة لكسينيا وسيرغي بعد عودتهما إلى أوكرانيا.
ويقول كوليبا إن "الأطفال الذين يبلغون من العمر 10 سنوات لا يصدقون أنهم تعرضوا للاختطاف، بل يرون أنه تم إنقاذهم".
وأضاف أن "الروس يحورون جميع الحقائق ويغيرون الوقائع، مما أدى إلى غسل أدمغة كثير من الأشخاص، وجعل من الصعب بصورة كبيرة التواصل معهم. الأمر يزداد سوءاً كل يوم".
"إعادتهم مستحيلة"
إن تمكن أناستازيا وليزا وبوغدان ودينيس من سرد قصصهم يعتمد إلى حد كبير على حقيقة أن مدينة خيرسون - مسقط رأس الأطفال الأربعة الأوائل - قد جرى تحريرها.
كما أن آباءهم وأصدقاءهم تمكنوا من التنسيق مع منظمة "أنقذوا أوكرانيا" والتعاون مع أحد الأشخاص لتنظيم عملية استردادهم.
في حالة كسينيا، وهي حالة نادرة، فإن كونها تعيش قرب الحدود الأوكرانية سهل عليها البقاء على اتصال مع الأصدقاء في خاركيف.
لكن هناك أدلة تشير إلى أن أطفالاً كثراً قد نقلوا من المدن الواقعة خلف خط المواجهة الروسي. وتتباهى المفوضة لفوفا-بيلوفا بجهودها في "إنقاذ" أكثر من 740 ألف طفل أوكراني.
مستيسلاف تشيرنوف، وهو أحد آخر الصحافيين الذين غادروا مدينة ماريوبول في جنوب أوكرانيا قبل احتلالها، يحقق بجدية في جرائم الحرب التي وقعت في المنطقة، وكان قد أعرب عن قلقه العميق إزاء اختطاف أطفال من ماريوبول.
يشار إلى أن المدينة كانت على بعد أكثر من 100 ميل (160 كلم) من خط المواجهة الروسي منذ مايو عام 2022، وهناك مدن عدة أخرى في أوكرانيا في وضع مشابه لها.
ويقول كوليبا من دون أن يقدم أدلة، إنه "إذا ما أخذنا في الاعتبار المناطق المحتلة، إلى جانب الأطفال النازحين منذ تاريخ ضم شبه جزيرة القرم وغزو منطقتي دونيتسك ولوغانسك شرق أوكرانيا في عام 2014، فإن العدد الإجمالي للأطفال النازحين الذين شردتهم روسيا قد يصل إلى الملايين".
ويزعم أنه "ربما يكون هناك 5 ملايين أوكراني في روسيا، قد جرى غسل دماغهم".
وهناك أيضاً أولئك الذين لم يحالفهم الحظ حقاً، وهم الأطفال الذين قد لا يتم توثيقهم رسمياً أبداً على أنهم مفقودون، والذين قد لا يدركون أبداً أنه جرى اختطافهم، وقد لا يعرفون أبداً أنهم كانوا - أو ما زالوا - أوكرانيين. وربما لن يعرفوا حتى أسماءهم الحقيقية.
ويتابع قائلاً "هناك سبب لعدم وجود حالات لأطفال عائدين إلى ديارهم ما دون سن السادسة".
ويعزو ذلك إلى "حقيقة عدم إدراكهم بأنهم كانوا قد اختطفوا، أو عدم معرفتهم المنطقة التي أخذوا منها. إنهم ينشؤون معتقدين أنهم كانوا دائماً مواطنين روساً".
وفيما يطغى على وجه كوليبا مزيج من التعابير التي تنم عن الاستسلام ثم الغضب، يختم بالقول: "أعتقد أنه سيكون من المستحيل إعادتهم".
© The Independent