Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مسيرة البشر مع الذبائح والقرابين عبر التاريخ

قاسم مشترك بين الناس يجسد الممارسات الروحية عند مختلف أصحاب العقائد وحضارات العالم القديم

الإنسان القديم، في وقت الحاجة، لجأ لأكل أخيه الإنسان، فاستساغه جداً بل ظنّ أن لحم الإنسان هو قمة أطايب الطعام (أ ف ب)

ملخص

مهما يكن من أمر، فإن فكرة الأضاحي تبعث على القول إن الإنسان مشدوداً إلى قوة خارجة عنه، مؤكداً أنه صدر عنها، ويحلم بالعودة إليها ذات مرة، ويسعى للاتحاد بها عبر وسطاء آخرين، هؤلاء غالباً هم الأضحيات بصورة أو بأخرى.

تستحضر روحانية عيد الأضحى المبارك، وقصة تقدمة نبي الله إسماعيل، حديث الذبائح والتقدمات، ذاك الضارب جذوره في النفس البشرية، منذ بدايات الخلق، فعلى مدار التاريخ البشري المحفوظ، وعلى رغم اختلاف الحضارات والثقافات، إلا أننا نجد قاسماً مشتركاً أعظم للممارسات الروحية المتمثلة في ظاهرة تقديم القرابين، كواحدة من أكثر العادات والتقاليد أثراً وتعقيداً في المسيرة الإنسانية.

نقرأ في الذكر الحكيم في "سورة المائدة" "واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قدم قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر"، والآية تشير إلى قصة هابيل وقابيل، ابني سيدنا آدم، وهما صاحبا أول قربان عرفه التاريخ المكتوب، إذ قدّم هابيل وكان صاحب أغنام وماشية جذعة سمينة، وأما الآخر أي قابيل، فكان صاحب زراعة ويعمل بها فقدم حزمة من الزرع الرديء السيئ واحتفظ لنفسه بالزرع الجيد، فنزلت النار من السماء بأمر الله تعالى فأكلت قربان هابيل دليلاً على قبوله، وتركت قربان قابيل كما هو، وقد كان ذلك من بين الأسباب التي أدت لقيام قابيل بقتل أخيه هابيل .

ولعل أعظم قصص الذبائح والتقدمات في التاريخ الإنساني بوجه عام، قصة النبي إبراهيم، عندما رأى في المنام أنه يذبح ابنه إسماعيل، وقد مضى في طريق الأمر الإلهي بالفعل، غير أن مشيئة الله أنقذت الابن، وتم فداؤه بكبش من السماء.

 

ترتفع الأسئلة ضمن الحديث عن فكرة الذبائح والتقدمات إلى عنان السماء، لا سيما أننا نجدها قائمة عند شعوب لا علاقة لها بالإبراهيمية، ولا تمت بصلة لشعوب الشرق الأوسط، حيث التاريخ الروحي والإنساني القديم، ما يجعلنا نتساءل "لماذا فكّر الإنسان في تقديم الذبيحة أو القربان منذ وقت مبكر؟ وهل الأمر كان محاولة لإرضاء السماء فحسب؟ أو خوفاً وتودداً من الطبيعية، وربما طمعاً في الحصول على البركات العلوية؟

نشأة الذبيحة وماورائيات التقدمة

يبقى الحديث عن الروحي عند أبناء إبراهيم عن الذبيحة والتقدمة واضحاً وضوحاً شديداً، لكن سبر أغوار التاريخ البشري يكشف لنا عن مفارقات أخرى. ذلك أننا نجد الفكرة ذاتها لدى شعوب لا تؤمن بالوحدانية كما بعض الشعوب السامية في بلاد الشرق، ناهيك عن أبناء حضارات أخرى مثل اليونان والرومان والأفارقة والهنود في أميركا الجنوبية.

وافترض المؤرخون أن هناك أسباباً مختلفة انطلقت منها فكرة تقديم الأضاحي أو القرابين، فمنهم من ظنّ أنها من ابتكار الإنسان بهدف تكوين علاقة مودة مع الإله أو لإكرامه أو لاسترضائه، أو لمشاركته الطعام للدخول في عهد أوثق معه.

وذهب فريق آخر إلى القول إنها من بقايا العبادات الطوطمة التي تعتقد بوجود روح الإله في حيوان ما، وعند ذبحه يتم تحرير الإله الحبيس، فيما اعتبر البعض الثالث أن الخوف من غضب الطبيعة غير المفهومة هو ما دفع الإنسان للتقرب والتودد من القوى الكونية الغامضة المحيطة به، كي يهدئ من ثورتها التي يدفع ثمنها من استقراره، لا سيما إذا تمثلت في الزلازل أو البراكين والأعاصير والفيضانات. ولعل بعض كبار الأنثروبولوجيين قد قال إن عدم فهم ماهية الوجود وأصل الكون، وكذلك غموض نشأة الإنسان، كلها أمور جعلت البشرية تسلّم بفكرة وجود قوة خارقة غير مرئية أو إله عظيم مجهول، ما شكّل سبباً آخر من أسباب انتشار ممارسات التقرب من الآلهة المختلفين شكلاً وفكراً والمستعصي فهم حقيقة ماهيتهم.

فهل من تعريف محدد لكلمة "قربان" لا سيما أن قصة ذبح إسماعيل عند كثير من الشعوب يطلق عليها "قربان - بيرم"؟

باختصار مفيد، القربان هو كل ما يتقرب به الإنسان من معبوده، وكلمة "قربان" سريانية الأصل "كوربونو"، وهي التقدمة التي يقدمها الإنسان لله أو حين يقدم نفسه قرباناً أي تسليم قلبه ومشاعره ومشيئته، على أن علامة الاستفهام المهمة بدورها في هذه القراءة "هل كانت القرابين والتضحيات واحدة عبر التاريخ البشري، أم أنها تنوعت عبر مسار الوعي البشري؟".

أنواع الذبائح والقرابين المختلفة

في بحث قيّم للباحثة في علم المصريات والشرق الأدنى ميرنا القاضي، نجد إشارة واضحة للعديد من أشكال الذبائح والتقدمات، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

-التقدمات البشرية: إذ كان البشر يذبح بعضهم بعضاً، تقرباً للآلهة، وللتقرب منهم طمعاً في مغنم معين بعينه.

وحديث التقدمات البشرية، نجده واضحاً كل الوضوح عند المؤرخ الأميركي الكبير ويل ديورانت، في موسوعته "قصة الحضارة"، إذ يخبرنا كيف أن الإنسان القديم، في وقت الحاجة، لجأ لأكل أخيه الإنسان، فاستساغه جداً بل ظنّ أن لحم الإنسان هو قمة أطايب الطعام، وظل ذلك التصور لدى القبائل الآكلة لحوم البشر. ولأن القربان في شكله الأبسط هو طعام للآلهة، فربما رأى الإنسان أن أفضل ما يقدمه للإله المعبود من الطعام هو الإنسان نفسه، وهو أعلى مرتبة في الأضاحي أو الأطعمة، وبذلك ظهر مفهوم الأضحية البشرية.

 

هل عرف الشرق هذه الأضاحي؟

هناك مرويات مختلفة عند المصريين القدماء والبابليين، كذلك لدى الأثينيين، وربما الرومان، لكنها في غالبها ليست روايات متماسكة، على العكس من ثبوت فكرة التضحيات البشرية في قبائل سكان أميركا الجنوبية، ومن يعرفون بحضارة "الآزتيك" بنوع خاص.

-القرابين الحيوانية: وتشمل تقديم الحيوانات كقرابين للآلهة، مثل الخراف والأبقار وغيرها، وكانت تحرق بالكامل، وتسمى في اللغة اليونانية "هولوكوست". وقد كان للمضحي أن يستفيد بجزء من الأضحية، والثابت أننا نجد صدى لهذه القرابين في الديانة اليهودية بنوع خاص، وهو ما سنأتي عليه بالتفصيل لاحقاً، وبعض من حضارات الشرق الأخرى.

-القرابين النباتية: هنا وعلى رغم قصة رفض السماء لتقدمة قابيل لأنها كانت من الزرع الرديء، إلا أن حقباً معينة في التاريخ البشري، حفلت بتقديم القربان والأضحيات من نتاج الأرض، وهو فكر سابق على الأديان التوحيدية. وكان الاعتقاد بأن الآلهة هي من تمتلك الأرض والحقول والمزروعات، وأنهم حينما يتقربون منها بذلك، فإنما يؤدون واجباً دينياً يسددون فيه ما عليهم لمالك الأرض وخيراتها. وفي بلاد ما بين النهرين كان الساميون يتقدمون من آلهتهم يومياً بأصناف الأطعمة المختلفة كما الخضروات والفواكه والطحين والعسل، وغيرها.

من أين يمكن للمرء أن يبدأ في سردية الشعوب وعلاقتها بفكرة التضحيات أو الذبائح؟

المصريون بين الأضاحي والبعث

يبقى الحديث عن مصر القديمة، والتي يطلق عليها البعض الفرعونية، حديثاً مليئاً بمساحات الحقيقة والأسطورة معاً، لا سيما في ظل حالة تعدد الآلهة التي عرفها المصريون القدماء، والذين يعدون بالعشرات، وربما بالمئات. فقد كان لكل ولاية ومدينة وقرية صغيرة، ربّ ومعبود، وإن سادت الآمونية والآتونية نسبة إلى الإله آمون، والإلهة آتون، فوق كل الآلهة الأخرى. وعرف المصريون القدماء حديث التقدمات والأضاحي قبل نحو أربعة آلاف عام وأزيد، ويعتبر مدير متحف الآثار في مكتبة الإسكندرية حسين عبد البصير أن الإيمان بالبعث والحياة الأخرى بعد الموت، كان الدافع الأساسي ليقدم الفراعنة ملوكاً وأفراداً، القرابين إلى موتاهم، وقد كانت صيغة تقدمة القرابين تكتب عادة باللغة الهيروغليفية، وتمثل التقرب من الآلهة حتى يمدوا المتوفى بحاجته في العالم الآخر.

وكانت صيغة تقدمة القرابين تبدأ عادة بالسطر التالي: "القربان الذي يعطيه الملك أو الوزير، الإله العظيم، سيد أبيدوس"، ويأتي بعد ذلك ذكر اسم المتوفى الذي يتم تقديم القرابين له، والذي تهفو روحه لتسلم هذه القرابين في عالم الآخرة.

أما الخبير الأثري والمتخصص في علم المصريات أحمد عامر فيرى أن تقديم القرابين وذبح الأضاحي يعتبران وجهين لعملة واحدة تتمثل في فكرة التقرب إلى الإله الواحد، فنجد أن المصريين القدماء أول من عرفوا الأضاحي بالفعل، وذلك كنوع من التقرب للآلهة، وقدموها بأشكال وأنواع متعددة، وكان الهدف هو السعي لنيل رضى السماء، ثم الدعوات لانتشار الرخاء في عموم البلاد. ولعله من نافلة القول إن الكثير من المعابد المصرية القديمة لا تزال تحتفظ بجداريات مرسوم ومنقوش عليها مراحل تحضير الثيران للتضحية، وهي في طريقها للذبح، حتى يتم تقديمها كقرابين للآلهة. وكانت الأضحية في ذلك الوقت تقسم إلى ثلاثة أجزاء، ثلثها لكهنة المعبد بخاصة الفخذ الأيسر، والثلث لأصحابها، وثلث يوزع على الفقراء والمساكين.

والسؤال المثير والمختلف عليه هل عرف المصريون القدماء التضحيات البشرية؟

هناك فريقان، الأول يرى أن هذه فرية لم تعرفها الحضارة المصرية القديمة، والتي كانت تقدس النفس البشرية إلى أبعد حد ومد، وهناك من يقول نعم إنه في بداية التاريخ المصري القديم، كانت تتم التضحية بالبشر، لكن غالباً ما يكونون من اللصوص والمجرمين أو من أسرى الحروب.

وعطفاً على ذلك تبقى هناك مرويات غير مؤكدة، ولا توجد برديات أو نقوش تقطع بصحتها، تقول إنه عندما يموت الملك، يتم قتل خادمه ومساعديه حتى يتمكنوا من موافقته إلى الحياة الأخرى. ولعله من القصص المثيرة والمزيفة حكماً، قصة عروس النيل، أي إلقاء فتاة في النهر الخالد مرة كل عام ليجود بفيضانه، وهو أمر لا يمكن أن يجري من شعوب قدست النهر، وكانت تعتبر تلويثه بالمخلفات جريمة تعاقب عليها الآلهة فما بالنا بالقتل.

من عند المصريين إلى شعوب قديمة أخرى، فإلى أين نذهب؟

 

اليونانيون واسترضاء آلهة الأوليمب

من بين الشعوب العتيقة التي عرفت طريقها إلى الأضاحي والتقدمات، يأتي اليونانيون أولئك الذين امتلأت حياتهم بآلهة متعددة سكنت جبال الأوليمب، وتصارعت في ما بينها، كما شاغلت وشاغبت البشر، والبعض منهم دخل في معارك معها، والبعض الآخر تزوج منها.

وكان اليونانيون القدماء يعبدون العديد من الآلهة، ولكل منها شخصية ومجال متميزان، وتوضح الأساطير اليونانية أصول الآلهة وعلاقاتهم الفردية مع البشر. ويوضح فن اليونان القديم والكلاسيكي العديد من الأحداث الأسطورية، بما في ذلك الفنون الأيقونية الراسخة للصفات التي تحدد هوية كل إله.

وكان العمل الطقسي المركزي في اليونان القديمة هو التضحية بالحيوانات، بخاصة الثيران والماعز والأغنام، وتتم التضحيات داخل الحرم، وعادة ما تذبح أمام المعبد حيث يأكل المشاركون المجتمعون أحشاء الضحية ولحومها. وآمن اليونان بأن الأضاحي تقربهم من الآلهة الذين يسيطرون على العالم الطبيعي ومصير الإنسان، واعتقدوا أنه من خلال تقديم القرابين الإلهية يمكن للأفراد والمجتمعات الحصول على بركاتهم.

ولم تكن التضحيات في اليونان القديمة مجرد ممارسات فردية، ولكنها كانت أيضاً جزءاً مهماً من حياة المجتمع، وغالباً ما كانت المهرجانات والمناسبات المجتمعية الأخرى، تشتمل على تقديم القرابين والتضحيات الإلهية. وقد جمعت هذه الأحداث الناس معاً، وعززت الروابط الاجتماعية، وخلقت شعوراً بالهوية المشتركة بين أفراد المجتمع.

وتنوعت القرابين عند اليونانيين، فلم تكن جميعها قرابين دموية فحسب، فقد كانت هناك أنواع من القرابين تقدم على هيئة الطعام والمشروبات أو أشياء أخرى، مثل الزهور والبخور، أما القرابين الحيوانية، فقد كانت لحومها تقدم للآلهة. وتتنوع الحيوانات التي تمت التضحية بها بحسب تكريم الإله والمناسبة. ولعله من المثير في مسيرة اليونانيين القدماء مع التضحيات، أن هناك تياراً فكرياً لفلاسفة ومفكرين كبار رفضوا فكرة التضحيات الحيوانية .

وعلى سبيل المثال فإن العالم الرياضي اليوناني القدير، فيثاغورس، كان يرى أن قتل الحيوانات لأغراض دينية أمر قاس وغير ضروري، في حين رأى آخرون، مثل الفيلسوف إبيقور، أن التضحيات والقرابين هي ممارسات خرافية ليس لها أي تأثير حقيقي على العالم. والمعروف أنه بالقرب من اليونان شرقاً، كانت هناك حضارة إنسانية أخرى، ضاربة جذورها في القدم، وقد شغلت فكرة الذبائح والأضاحي في عقول أبنائها مكانة متقدمة. ماذا عن ذلك؟

بلاد الرافدين ذبائح للعالم السفلي

لا يقل الوزن التاريخي والأدبي لحضارة ما بين النهرين، وبلاد الرافدين، عن أوزان اليونان والفراعنة، وإن دارت وسارت بين الأطراف الثلاثة صراعات فكرية شكلية عن المتقدم بينها. وشملت بلاد ما بين النهرين حضارات عريقة، سومرية، بابلية، أكادية، أشورية، عربية، وتعددت الأساطير وتشعبت في منطقة بلاد ما بين النهرين، فكان لخلق الكون أسطورة وللآلهة أسطورة، كما كان لتدمير الكون وخرابه أسطورة ثالثة.

ولعل المختلف جداً ما بين هذه الحضارة وغيرها من الحضارات، إيمانها الرئيس بأن خلق الإنسان في الأصل هدفه الرئيس هو خدمة الآلهة وتقديم القرابين لها والدفاع عنها. وتعددت الآلهة هناك بقدر حاجة الإنسان، واعتقد البابليون أن الشمس تمثل الإله "شمش"، والقمر يمثل الإله "سن"، وعطارد الإله "نابو ".

وفي الفكر السومري، نجد أن الآلهة تحتاج إلى جميع ما يحتاج إليه البشر من طعام وشراب، فنرى الإنسان يقدم لها القرابين المختلفة من أغنام وأبقار لكسب الرضا. ومن هنا نكتشف العلاقة الوثيقة بين الإنسان والآلهة والتي تجسدت بشكل واضح من خلال الميثولوجيا السومرية والأكدية والمخلفات الفنية عن طريق الخصائص المتماثلة للإنسان.

 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وكانت للحيوان أهمية كبرى في بلاد الرافدين منذ عصور ما قبل التاريخ، وفي عصر ما قبل بداية الأسرات، كانت الحيوانات قد اتخذت مكانة كبرى وأهمية واسعة، إذ زادت الرمزية واتسعت التحليلات والأساطير المرتبطة بالحيوانات، فأصبح للحيوان دوره الديني الذي انقسم إلى دور سلبي وآخر إيجابي. وأصبح الحيوان في ذلك العصر بمثابة حلقة الوصل التي ربطت ما بين عالم الإنسان وعالم الآلهة، وتوثقت صلة الإنسان بالحيوان وبعالم الآلهة من خلال ما كان يقدم من أضاحي حيوانية، قصدوا بها أحياناً القضاء على الشر، وأحياناً أخرى إرضاء أرواح الموتى وأرواح الآلهة.

فهل كانت الأضاحي عند البابليين وسيلة مؤكدة ما للتعامل مع العالم السفلي بما فيه ومن فيه من أرواح، سواء للآلهة أو للبشر، أخياراً كانوا أو أشراراً؟

يحتاج الجواب إلى قراءة مستقلة قائمة بذاتها، غير أنه باختصار يمكن القطع بأن الإنسان البابلي القديم، كان يسعى لمعرفة إرادة الآلهة، ويخالف ما لا يرغب منها، من خلال أرواح مضادة في العالم السفلي، يصل إليها من خلال أرواح الحيوانات التي يقدمها ذبائح لأرباب ما تحت الأرض، والذين يعملون دائماً على خلاف رغبات آلهة السماء.

وكبقية الحضارات الإنسانية القديمة، في غالب الأمر عرف البابليون أنواعاً من التضحيات البشرية، والذبائح الإنسانية على أبواب معابدهم، لا سيما حال رغبتهم في التواصل مع الأفلاك الخارجية، وهذا شأن مهم وخاص بالحضارة الأكدية بنوع خاص.

فهل كانت الشعوب الأوروبية بعيدة من فكر الأضاحي؟

الرومان... دماء الأضاحي على الهياكل

لا يمكن للمرء أن يغفل قصة الرومان مع الأضاحي والتقدمات، لا سيما في ضوء وجود عدد من الآلهة النافذة التي ارتبط بها تاريخ الإمبراطورية الرومانية، بل ومجدها العسكري عبر نحو خمسة قرون. واحتلت الأضاحي مكانة مركزية في الممارسات الدينية الرومانية، فقد اعتقد الرومان أن تقديم القرابين لآلهتهم أمر بالغ الأهمية للحفاظ على الانسجام بين البشر والآلهة، وكان ينظر إلى فعل التضحية على أنه وسيلة للتواصل مع الإله وطلب النعمة أو الحماية والمغفرة.

وعرفت الحضارة الرومانية أنواعاً مختلفة من الأضاحي المقدمة للآلهة، منها الحيوانية، ومنها النسكية أي تقدمة العبادات كما البخور المرفوع على مذابح الآلهة، مشفوعاً ومصحوباً بالبخور والزهور، وأحياناً الفواكه أو الأشياء الثمينة. ومعظم الأدلة على التضحيات في العالم الروماني تأتي إلينا من النقوش على المذابح التي كانت تعتبر في حد ذاتها ذبائح.

وكانت أسباب تقديم الرومان الأضاحي مختلفة بدورها، مثل التي يتم تقديمها توقعاً لخدمة ما أو للتضحية التي طلبتها الآلهة من خلال وحي أو فأل أو حلم أو أي حدث آخر. ومن هذا القبيل يتم تقديم التضحيات في المناسبات السنوية، مثل ذكرى وفاة أحد الأفراد في الأسرة أو حدث تاريخي، أو يمكن تقديمها كجزء من مهرجان ديني.

ولقد كان الدين الروماني قابلاً للتخصيص إلى حد ما، وبالتالي يمكن أن تختلف أنواع هدايا التضحيات، وقد تتشكل من الكعك والبخور والزيوت والنبيذ والعسل والحليب، وربما الأعشاب أو الزهور المقدسة، هذا عطفاً على الذبائح الحيوانية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هنا ومن جديد يطفو السؤال ذاته: "هل كانت الأضاحي البشرية تقدم في مذابح الرومان؟".

يعتقد أن قتال المصارعة المبكر كان شكلاً من أشكال التضحية، لكن هناك القليل من الأدلة على وجود تضحيات بشرية منتظمة مع مرور الوقت، ولم تمارس إلا في ظروف استثنائية، مثل بعد الكوارث لا سيما التي تخلفها الحروب. على أنه تم حظر التضحيات البشرية في نهاية المطاف، بموجب مرسوم صادر عن مجلس الشيوخ الروماني في عام 97 قبل الميلاد، على رغم أن هذه الممارسة ربما استمرت في بعض الطوائف غير الرومانية لبعض الوقت. ويبدو وقتها أن الدمى أو الأقنعة كان من الممكن أن تحل محل الضحايا البشريين الفعليين في بعض الطقوس.

وسواء حدث ذلك في منتدى عام، أو في أحد المعابد الرئيسية في روما، أو في غرفة خاصة، يبدو من الواضح أن التضحية كانت مركزية في الممارسات الدينية الرومانية.

أضاحي الأميركيتين وحضارة "الآزتيك"

في هذه الجزئية تحديداً، يبدو أن الحديث يمضي في اتجاه مغاير لغالبية فكر الأضاحي في الشعوب والأمم القديمة، وغالب الظن أن حديث الأضاحي البشرية يغلب عليه. فهل كانت تلك التضحيات جزءاً من طقوس حياتية اعتيادية لسكان أميركا الشمالية وأميركا الجنوبية على حد سواء؟

في أميركا الشمالية، انتشر العديد من القبائل التي كانت تأكل لحوم البشر، ومنهم هنود "الجونكيان" في شمال شرقي أميركا الشمالية، و"كواكيوتل" هي الأكثر بينها. واعتقدت هذه القبائل أنه يمكنها السيطرة على الطبيعة من خلال الرقصات التي يتم فيها تقديم أضاحٍ بشرية، وأنه من خلال ذلك، يتم العبور بين عالمين، وينتهي بهم الأمر إلى الحصول على قوة خارقة.

على أن النموذج الأكثر دموية في واقع الأمر في الحضارات كافة التي عرفتها البشرية، إنما وجد عند شعوب وحضارات أميركا الجنوبية، كـ "المايا" و"الإنكا" و"الآزتيك"، الذين مارسوا طقوس التضحيات البشرية بمغالاة واسعة جداً. وكان سكان "الآزتيك" أكثرهم ممارسة لهذه العادة، من حيث العدد، وربما السبب هنا عند بعض المؤرخين مثير جداً، ويمزج بين البشر والآلهة، ولقد كانت شعوب "الآزتيك"، تفتقر إلى البروتين في غذائها اليومي، ومن هنا فإن جزءاً من الضحية البشرية كان يتم أكله من قبل أبناء القبيلة.

وهناك نظرية أخرى تقول إن "الآزتيك" كانوا يستعملون التضحية البشرية كدعاية لهم لإثارة الرعب في نفوس أعدائهم، وإنهم كانوا يبالغون في إعداد الأضحية لأجل بث الخوف في نفوس أعدائهم وإضعاف مقاومتهم في الحروب.

فهل كان أمر التضحيات البشرية في "المايا" و"الآزتيك" حقيقة؟

تقتضي الموضوعية الإشارة إلى أن القصة برمتها غير حقيقية، وأن ما ذكرته الكتب هو تدليس وكذب، روجه المستعمرون الإسبان لتشويه صورة شعوب الهنود الحمر في الأميركيتين، وتبرير المجازر التي قاموا بها بحق هذه الشعوب. وربما تكون هذه النظرية محقة نوعاً ما، حيث إن الإسبان أسهبوا وبالغوا في وصف بربرية شعوب "الآزتيك". غير أن هناك حقيقة مؤكدة تبقى، وهي أن كثيراً من نقوش ورسوم التضحية البشرية مأخوذة من معابد وآثار "الآزتيك" أنفسهم، تقطع بأنهم مارسوا التضحيات البشرية، وبخاصة في وسط القبائل المتوحشة مثل قبيلة "شوار" أو "جيفارا" التي توجد غرب الأمازون في البرازيل.

إضافة إلى ذلك، فإن هناك الكثير من المعابد التي تعود لشعوب "الآزتيك"، وبعضها تم اكتشافه في المكسيك والبرازيل وبيرو، تمتلئ بجماجم، مفصولة عن الأجساد. ومن التشريح الأولي لها، تبدو مفصولة بآلة قطع حادة جداً، ما يؤكد أنه بقايا أضاحٍ إنسانية.

هل يتوقف الحديث عن القرابين والأضاحي عند هذا الحد؟

 بالقطع لا، فهناك قصص ومرويات عن الأضاحي عند المسيحيين واليهود والمسلمين بشكل أكثر دقة، ويتقاطع مع الفكر الفقهي أو اللاهوتي.

وهناك أحاديث عن القرابين عن الصينيين والهنود الآسيويين، وكذلك الأبورجيين، أي أصحاب أستراليا الأصليين، ناهيك عن أحاديث أكثر تخصصاً تجاه فكر القرابين الشيطانية والجماعات التي تقربها وأهدافها ولما تنتشر أخيراً حول العالم من جديد.

مهما يكن من أمر، فإن فكرة الأضاحي تبعث على القول إن الإنسان مشدوداً إلى قوة خارجة عنه، مؤكداً أنه صدر عنها، ويحلم بالعودة إليها ذات مرة، ويسعى للاتحاد بها عبر وسطاء آخرين، هؤلاء غالباً هم الأضحيات بصورة أو بأخرى.

المزيد من تحقيقات ومطولات