ملخص
كان جورج برنارد شو واحداً ممن وصفهم لينين بـ"الحمقى النافعين" وكان بدوره يتفكه على هذا التوصيف الذي يشاركه فيه ستالين ولا يأبه إن كان هو واحداً من الذين يشملهم.
نوعان من المثقفين الغربيين، وربما غير الغربيين أيضاً كانوا ينالون حظوة لدى سادة الكرملين، لا سيما منذ سنوات حكم لينين للاتحاد السوفياتي باكراً منذ انتصار الثورة البولشفية: النوع الأول يضم "البولشفيين" الحزبيين الغربيين الذين كانوا يؤمنون بالانتصار الكبير للشيوعية معتقدين بصدق أن الشوائب التي تحصل وقد تتراكم، أمر طبيعي الحدوث بالنسبة لكل ثورة، كـ"ضريبة" لا بد من دفعها.
والنوع الأخير هم أولئك الذين قد لا يوافقون على ما تنحدر إليه الثورة وما بات يرافقها من اضطهاد ونفي وسجن وقتل يطاول حتى الثوريين أنفسهم. غير أن الغربيين من هؤلاء ينظرون إلى الأمور من وجهة نظر تبالي بما يحدث في بلاد السوفيات، فما يهمه ينطلق من فكرة "عدو عدوي"، بمعنى أن ما يحدث في المعسكر السوفياتي يخص الاتحاد السوفياتي ولا شأن لنا به طالما أن وجود هذا المعسكر يساعدنا على تحقيق الحلم الاشتراكي في ديارنا".
ويقيناً أن هؤلاء هم الذين كان لينين يعنيهم حين يتحدث متفكهاً عنهم بوصفهم "حمقى نافعون". ولا شك أن أوساط الكرملين كانت تفضل التعامل مع هؤلاء. وبالتالي فإن ستالين الذي ورث فكرة التعامل هذه عن سلفه مشعل الثورة البلشفية، ورث كذلك هذا التفضيل وزاد، ولا سيما في سنوات الثلاثين، أي سنوات محاكمات موسكو الشهيرة التي قضت على بقية ما تبقى من "ثوريين حقيقيين" في مطالبة مساعديه بدعوة المزيد من أولئك الحمقى لزيارته في عرينه.
ولسوف يكون جورج برنارد شو واحداً من هؤلاء، هو الذي كان بدوره يتفكه على توصيف لينين الذي يشاركه فيه ستالين، ولا يأبه إن كان هو واحداً من الذين يشملهم.
لا حاجة لأية استعراضية
بلحيته الكثة وصلعته اللامعة وابتسامته الساخرة، كان منظر ذلك الكاتب الإيرلندي الكبير الغاضب دائماً على بلاد الإنجليز كما نعرف، كان في حد ذاته كافياً لإثارة الذين ينظرون إليه، سواء كانوا يدركون من هو أو يجهلون كل شيء عنه، وهو الكاتب اللاذع الذي كان أدبه مقروءاً من العالم كله في ذلك الحين.
من هنا لم يكن الرجل بحاجة لأي تصرف استعراضي حتى يلفت الأنظار. ومع هذا لم يتوان وهو يجتاز الحدود بين بولندا والاتحاد السوفياتي في القطار، عن إمساك ما كان في حوزته من طعام متبق ورميه من النافذة، ملتفتاً إلى مرافقيه قائلاً لهم: "روحوا إلى الغرب وقولوا له إنني رميت ما بحوزتي من طعام وأنا أدخل الأراضي السوفياتية، لكي أؤكد ألا مجاعة هناك، وأن كل شيء متوافر في هذا البلد الذي يثير إعجابي".
فالحال أن أخبار المجاعة من الاتحاد السوفياتي كانت تشغل أعمدة الصحافة في العالم كله، لكن جورج برنارد شو أصر في ذلك اليوم على أن ذلك كله ليس أكثر من "دعاية بورجوازية ضد بلد الطبقة العاملة الأول، وضد زعيمه ستالين".
إعجاب متبادل
باختصار كان شو معجباً بستالين، حتى قبل أن يصل إلى موسكو. واجتماعه به يوم 29 يوليو (تموز) 1931، خلال زيارته الشهيرة للاتحاد السوفياتي، والتي لن يتورع شو عن تأكيد أنها زادته إعجاباً بذلك الزعيم الذي من أهم ميزاته في رأي الكاتب "الاشتراكي" الكبير أنه لا يتوقف عن إزعاج الإنجليز.
ومن هنا فإن الرجلين، خلال الحديث الذي جرى بينهما في إحدى قاعات الكرملين بديا متفاهمين على طول الخط. فبالنسبة إلى شو لا مجاعة في هذا البلد، ولا قمع ولا اضطهاد لبريء. أما حين سئل عن أعمال السخرة التي يقوم بها ملايين العمال، فكان جوابه: "بالعكس أتمنى أن يفرض نظام السخرة في بريطانيا أيضاً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والسؤال هنا هو: هل كان شو مازحاً أم جاداً؟. في الحقيقة كل الدلائل تشير إلى أنه كان جاداً. ولو كان هذا صحيحاً، لكان على صواب أولئك البريطانيين المثقفين الذين رأوا في مجال تعليقهم على زيارة شو لموسكو وما أدلى به من تصريحات، أن شو جعل من نفسه المثال الصارخ على ما كان لينين يصف به بعض المثقفين الغربيين بأنهم "حمقى نافعون".
ونعرف طبعاً أن المثقفين الذين كان لينين يعنيهم بهذا، هم أولئك الليبراليون الذين كانوا يساندون الثورة البلشفية، ضاربين الصفح عن عيوبها، وها هم الآن يساندون الاتحاد السوفياتي. وكان جورج برنارد شو من بين هؤلاء.
المعركة الرئيسة
الواقع أن ما يمكن قوله اليوم هو أن المعركة الرئيسة بالنسبة إلى شو، كانت المعركة ضد البورجوازية البريطانية، وهو كان يرى أن هذه المعركة تجمعه مع ستالين الذي كان يبدو عليه أنه قادر على مهادنة كل أعدائه، باستثناء تلك البورجوازية.
من هنا حين توجه شو إلى الاتحاد السوفياتي زائراً ليستكشف ذلك البلد -المعجزة، كان ينطلق كما يبدو من مفهوم "عدو عدوي صديقي"، لذلك كان في وسعه أن يغض النظر عن كل ما يراه من عيوب، وأن يؤكد لمن يلتقي به أن هذا البلد يختلف كلياً عن الصورة التي تحاول الصحافة البورجوازية الإنجليزية وغيرها أن تصوره بها.
مهما يكن فإن هناك جانباً آخر في شخصية شو، دفعه لأن يبدي كل ذلك التعاطف "مع أكبر تجربة اشتراكية" تتحقق في العالم حتى ذلك الحين. فهو كان بالفعل اشتراكياً، سبق له أن وضع دراسات عدة عن الماركسية ضمت إلى الكتاب الانجليزي الشهير الذي خاض في المسألة الاقتصادية "دراسات فابية".
من هنا لم يكن غريباً منه أن يبدي كل تلك الحماسة للتجربة السوفياتية، وبخاصة لجوزيف ستالين الذي التقاه في حديث خاص جرى بينهما طوال أكثر من ساعة، تباسط فيه الرجلان. وعند ختامه قال ستالين عن مؤلف "الأسلحة والإنسان" إنه "متعب لكنه مخلص وصادق". فيما قال شو عن ستالين: "إنني شديد الإعجاب بهذا الجيورجي الذي كان بإمكانه أن يكون ابناً غير شرعي لكاردينال أرستقراطي". ويقال إن ستالين أعجبته هذه الملاحظة وظل طوال سنوات يرويها في مجالسه الخاصة.
عندما جرؤت الليدي أستور
غير أن لا ستالين ولا شو رويا كل تلك الأحاديث التي دارت بينهما طوال ساعة ونيف، اختلى الزعيم السوفياتي خلالهما بضيفه الكاتب الإيرلندي، وخاضا كما يبدو شؤوناً وشجوناً كثيرة، ربما ركزا في معظمها على إمكانية أن تمتد "الثورة" لتشمل بلداناً عديدة لا بد من وصولها إليها، وربما منها تلك التي تحتلها بريطانيا العظمى اليوم مثل الهند ومصر.
وهو أمر لا شك أن شو كان هو من فتح حديثه مستبقاً الزعيم السوفياتي، ربما حرصاً منه على مصالح هذه الشعوب أو كنوع من إعلان رغبته في إغاظة الإنجليز. وربما أيضاً كنوع من المسايرة للسيدة التقدمية الإنجليزية، الليدي أستور، التي كانت ترافق الكاتب الكبير في تلك الزيارة، وحضرت المناقشات بينه وبين سيد الكرملين، الذي كانت قد أعلنت قبل لقائهما به أنها سوف تجابهه وتسأله عما آلت إليه الثورة، لا سيما في مجال وعودها التقدمية وحديثها عن حرية الرأي وما شابه ذلك.
ومن المعروف على أية حال أن الليدي أستور، التي كانت من وجوه الحراك التقدمي في بلادها، لم تكن معروفة بأي تعاطف مع ستالين، أو مع التجربة السوفياتية ولا سيما بالنسبة إلى انحراف لينين ومن بعده ستالين بالطبع عن "الوعود الثورية الكبيرة". ومن هنا فإنها إنما قامت بالزيارة لأنها على حد ما قالت قبل ذلك أرادت أن تقول رأيها لستالين "بكل صراحة". وبالفعل ما إن التقته حتى التفتت إليه وسألته: "متى يا سيدي الرئيس ستتوقف عن قتل الناس بنفس الطريقة التي كانت تجري أيام القيصر؟". ويبدو أن ستالين كان يتوقع منها ذلك السؤال، إذ ما إن تفوهت به حتى قال لها مبتسماً: "حين يتحقق السلام في العالم".