Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

السينما في طرابلس يحاصرها التطرف والصالات أطلال

منع مهرجان في سياق الاحتفال بعاصمة الشمال اللبناني مدينة ثقافية عربية

سينما كولورداو الشهيرة في طرابلس قبل ان تقفل (المؤسسة السينمائية)

ملخص

منعت جهات متطرفة في طرابلس، عاصمة الشمال اللبناني، إقامة مهرجان سينمائي، بحجة الإساءة إلى القيم الأخلاقية. علماً أن طرابلس اختيرت هذه السنة مدينة للثقافة العربية 2024.

التحريض ضد مهرجان سينمائي والمطالبة بمنعه عبر أصوات المتطرفين في طرابلس اللبنانية، أعادا فتح النقاش حول ما وصلت إليه أحوال هذه المدينة من تراجع رهيب على مستوى الحريات، في ظلّ الفقر والتهميش والإقصاء، وصعود الخطاب الديني المتشدد الذي تعاني منه ثاني أكبر المدن اللبنانية.    

والمفارقة، أن هذه المدينة التي تحارَب فيها الثقافة، اختيرت عاصمة الثقافة العربية لعام 2024، وهو الأمر الذي كان كثر من اللبنانيين يجهلونه، قبل انتشار خبر إلغاء مهرجان كابريوليه السينمائي المتنقل، الذي اعتبرت جهات دينية متشددة في المدينة، أن بعض الأفلام المعروضة فيه يسيء إلى القيم الأخلاقية والعادات والتقاليد التي يؤمن بها المجتمع الطرابلسي، على رغم أن جهاز الرقابة كان أجاز عرضها. واعتبر البعض أن هناك مناكفة سياسية خفية بين هؤلاء المتشددين من جهة ورئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي من جهة أخرى، علماً أن مؤسسة ثقافية تابعة لهذا الأخير هي التي كان من المفترض أن تحتضن هذا الحدث. أصبحت السينما ضحية هذا الصراع على السلطة. وفي النهاية، انتصر المتطرفون في الحرب التي شنوها، ذلك أن الجهة المنظمة أسقطت من حسابها طرابلس خشية التعرض لممارسات غير قانونية، فأقيم الحدث في ثماني مناطق، منها العاصمة بيروت وبعلبك، وأُلغي في طرابلس. 

بعض الذين يتحدّرون من طرابلس يتحدّثون بحسرة وحزن عمّا آلت إليه أحوال مدينتهم من إهمال رسمي وصراع مذهبي وصعود للأصولية الدينية. هذا كله في ظل غياب المشاريع الإنمائية ممّا جعل هذه المدينة واحدة من المدن الأكثر بؤساً في الحوض المتوسط. هناك من يرى أن الحرب في لبنان توقّفت لفترة طويلة، لكنها استمرت في أشكال مختلفة في طرابلس، وها إنها تدفع الثمن جهلاً وتخلفاً. 

شتّان بين ماضي طرابلس وحاضرها. فمن هنا، انطلق في الستينيات، المخرج الراحل جورج نصر الذي شارك بفيلمه "إلى أين؟" في مهرجان "كان" السينمائي، كاتباً الانطلاقة الحقيقية للسينما اللبنانية. أمثاله حاولوا وضع هذه السينما على الخريطة الدولية، لإيصال صوت الريف اللبناني الأصيل إلى منبر دولي، وذلك من خلال قصة أب يهاجر إلى البرازيل. هذه الهجرة التي لطالما كانت خلاصاً فردياً للبنانيين من المجاعات والصراعات الأهلية والأزمات الاقتصادية، شهدت طرابلس موجات متتالية منها، كان آخرها بعد تفجير مرفأ بيروت، عندما انطلقت منها قوارب الموت غير الشرعية حاملةً ناساً يدفعهم اليأس إلى شواطئ أوروبا بحثاً عن حياة أفضل.

ولّى زمن جورج نصر الذي كانت له أحلام كبيرة لم يتحقق أي منها. تحطمت على مذبح الحرب الأهلية والخيبات المتكررة، بعدما دخلت البلاد في أتون العنف والاقتتال الداخلي. طرابلس التي كانت تعج بالصالات، لا بل كانت معروفة بها، راحت تغلقها واحدة تلو الأخرى. وازدادت الأمور سوءاً في الثمانينيات، عندما أحكمت "حركة التوحيد الإسلامي" قبضتها على المدينة بهدف تحويلها إلى إمارة إسلامية. فرض هذا التيار إغلاق الصالات، ونتجت منه حال من التقوقع. كثر من المواطنين اختاروا مغادرة المدينة التي سقطت في يد جماعة دينية تعادي الثقافة والفن. ثم مع دخول الجيش السوري، استسلمت طرابلس مجدداً، قبل أن تُفتتح المجمّعات السينمائية مع دخول البلاد مرحلة السلم التدريجي. في تلك الأثناء، كانت صالات السينما التي صنعت في الماضي مجد طرابلس، قد اختفت تماماً. 

ذكريات مبهمة

الصالات التي كانت بين السبعينيات والثمانينيات الواجهة الحضارية لعاصمة الشمال، تحولت أمام أعين روادها القدامى إلى بؤر ذكريات يتحسّر عليها البعض، من دون أي رغبة حتى في الحديث عن الموضوع. يعلم هؤلاء أنهم لن يغيروا شيئاً إذا تحدّثوا أو لا، فيفضّلون الاحتفاظ بالأثر الطيب الذي في ذاكرتهم والذي يعود إلى ما يُعرف بـ"الزمن الجميل" في أدبيات الثقافة العربية.

كل زعيم طائفي أو "قائد محور" استحوذ على حيز مكاني في المدينة، يحرسه أزلامه من بقايا الميليشيات. لافتات تحمل صورهم منتشرة في كل مكان. لا تخلو ساحة أو زقاق من هذا التلوث البصري الذي جعل المدينة تبدو مشوهة وقبيحة ومتخلفة. أما الصالات التي تُعتبر في العالم الأول، فسحة لتلقي كل ما هو مستجد ومثير، فإندثرت وما عادت هناك نافذة يطل منها أهل طرابلس على حيوات الآخرين وعلى ثقافات بديلة. أُزيلت ملصقات الأفلام الملونة التي تبعث على الحلم، لتحل مكانها صور لمرجعيات سياسية تستثمر في الجهل كي تواصل هيمنتها على الناس واحتكار تمثيلها. صحيح أن بعض السياسيين يرعون نشاطات ثقافية، شكلية في معظمها، ولكن لا يمكن إلا أن تأتي في إطار ما يتماشى مع تطلعاتهم الضيقة وأجندتهم ومبدئهم الزبائني. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أنشئ في طرابلس أيام العز ما لا يقل عن 30 صالة سينما وُزعت بحسب الاختصاص: أفلام عربية، هندية، كاراتيه، الخ. بعض الأحياء من مثل باب التبانة المنطقة التي ارتبط اسمها في السنوات الأخيرة بالاحتراب الأهلي، وُجدت فيها ثلاث صالات. يروي إلياس خلاط، مدير مهرجان طرابلس السينمائي، الذي يقاوم باللحم الحي لتستمر التظاهرة السينمائية التي أسسها: "كانت الصالات هي المكان الذي يتواعد فيه الأصدقاء من جمعة لجمعة. لم تكن الهواتف ظهرت بعد، وكانت الحرب في ذروتها. فلو امتنع الصديق عن المجيء مثلاً، بسبب عائق ما، كان الاتصال ينقطع بين الإثنين، إلى أن يلتقيا مجدداً في السينما". يتذكّر خلاط أن أول فيلم شاهده في حياته ("صوت الموسيقى")، كان في "كولورادو"، وهي صالة فتحت أبوابها قبل الحرب، بطرازها المعماري الـ"آر ديكو" وتصميمها الذي يفصل المشاهدين بين منطقتي الأوركسترا والبلكون.

على عكس بيروت التي قضت على سينماتها القديمة، بقيت سينمات طرابلس وتهالكت، ذابت على مرأى من روادها القدامى، كأنما أرادت أن تظل شاهدة على زمن أفضل لا يشبه زمننا الحالي بشيء، إلى أن توقّف بها الزمن بين الماضي والحاضر. عندما زرتُ سينما "كولورادو" الطرابلسية (1000 كرسي)، المغلقة منذ التسعينيات، بالكاد تجرأتُ أن أدخل إليها. فهي أصبحت أشبه بملعب للفئران. سينمات عدّة لا تزال جدرانها منتصبة، لكنها ما هي سوى مظهر مخادع، وكأنها تنتظر مستثمراً يشتريها لتحويلها إلى مشاريع تجارية لا تقيم أي اعتبار لمكان الثقافة والفن والترفيه في حياة المواطن. في حين أن أعداء الثقافة يعيشون أزهى عصورهم وينتظرون أي فرصة للانقضاض عليها كالذئاب الجائعة على فريستهم.

اقرأ المزيد

المزيد من سينما