Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

غينسبورو ورينولدز يرسمان وجوه المجتمع بلغة مشتركة

صديقان لدودان تنافسا بقوة خلال العصر الذهبي لزمن الواقعية الإنجليزية المفرطة

"مسز سيدونز" لتوماس غينسبورو (غيتي)

ملخص

لم تكن ثمة لجنة تحكيم في محكمة فنية هنا يمكنها أن تفصل في الأمر لمصلحة هذا الفنان أو ذاك. بل إن المقارنة لم تنطلق أصلاً من رغبة في حسم التنافس بينهما. كل ما في الأمر أنها – أي المقارنة – إنما فرضت نفسها كضرورة.

على رغم أن فنانة المسرح الإنجليزي التراجيدية الكبيرة سارة سيدونز عاشت قبل زمن من ظهور زميلتها الفرنسية سارة برنار، إذ إن كثراً لم يكن يفوتهم طوال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبدايات القرن الذي يليه أن ينطلقوا في أي حديث عن سارة الفرنسية، من كونها تأتي تالية لسارة الإنجليزية وليس فقط بسبب تشابه الأسماء بينهما بل انطلاقاً من عناصر فنية عديدة لعل أولها أن الفنانتين برعتا في أدوار التراجيديا، ولم تتردد كلتاهما في ارتداء ملابس الذكور لتأدية أدوارهما بكل بساطة ومهارة، ولأن الهوى الشكسبيري كان جامعاً بين الاثنتين، فلم ينته القرن التاسع عشر إلا وقد صار الحديث عن سارة سيدونز لا يكتمل إلا بالإشارة إلى كونها "سارة برنار الإنجليزية"، وكان ذلك بالتأكيد إجحافاً في حق هذه الأخيرة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومهما يكن من أمر فإن القواسم المشتركة بين "السارتين" لم تتوقف هنا، بل شملت أيضاً أن الفنانتين الكبيرتين كانتا - وكل منهما في بلدها وفي زمنها - محط أنظار الرسامين الكبار الذين تقاطروا لرسم بورتريهات لهما، تعد السلف الشرعي للوحات الفوتوغرافية التي صارت تخلد ملامح النجوم الكبار في الأزمان التالية. وما يمكن التوقف عنده هنا في هذا السياق لوحتان تحمل كل منهما توقيع واحد من أساطين الرسم في لندن خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر، أبدع كل واحد منهما وفي الوقت نفسه تقريباً في رسم سارة سيدونز إلى درجة بات معها أي حديث مقارن بين الفنانين لا يستقيم إلا بالإشارة إلى هاتين اللوحتين.

فنانان من العصر الذهبي

والحال أن هذه الإشارة عادت قبل أقل من خمسة أعوام منطلقة من باريس، وذلك لمناسبة المعرض اللافت الذي أقيم في العاصمة الفرنسية وفي متحف لوكسمبورغ تحديداً وسط باريس بعنوان "العصر الذهبي للرسم الإنجليزي". ويومها وعلى رغم أن التمثيل على ذلك العصر تمثل في أكثر من "دزينة" من رسامين إنجليز شغلوا الحياة الثقافية والفنية في إنجلترا المجاورة قبل ما يزيد على قرنين من الزمن وقبل ظهور جون راسكين وتيار ما قبل الرافائيلية، وتحديداً قبل ظهور ويليام تورنر وثورته الحداثية في الفن الإنجليزي، فإن الحديث في المعرض والكتب والكاتالوغات إنما تركز بخاصة على الفنانين الكبيرين غينسبورو (1727 – 1788) ورينولدز (1723 – 1792). وربما بسبب تقاربهما في السن وفي الأسلوب الفني وحتى في المواضيع، ولكن أيضاً من جراء "الصداقة" التي جمعت بينهما وكانت من نوع الصداقة التي تجعلهما في الوقت نفسه متنافسين لدودين، يحاول كل منهما وربما في كل لوحة من لوحاته أن يثبت تفوقه على الآخر. والحقيقة أن هذا البعد في حد ذاته كان كافياً للباحثين كي يغوصوا في عشرات اللوحات التي يبدو أن الفنانين حققاها مستوحيين واحدهما من الآخر، ويدور معظمها حول أفراد من علية القوم وحول الأطفال بل حتى في مجال رسم كل منهما أطفال الآخر، ناهيك بتشابه مدهش بين المناظر الطبيعية والريفية بخاصة التي رسمها كلاهما.

 

 

ملكة التراجيديا

مهما يكن وكما أشرنا كل هذا لم يبد فائق الأهمية بقدر ما فعلت لوحتان من نوع "البورتريه" رسم كل من غينسبورو ورينولدز فيهما نفس تلك السيدة "ملكة التراجيديا" في عامين متقاربين، إلى حد لا يسمح بالحديث عن أية مصادفة أو "نيات حسنة". فهل يمكن القول إن مثل تلك النيات هي ما جعلت السير جوشوا رينولدز يرسم خلال عام 1784 ذلك البورتريه لسارة سيدونز ليلحقه توماس غينسبورو في العام التالي بتحقيق بورتريه للسيدة نفسها؟ قطعاً لا، وذلك حتى وإن كانت لوحة غينسبورو (126 سم ارتفاعاً ونحو 100 سم عرضاً) تصغر لوحة صديقه اللدود (178 ارتفاعاً و146 عرضاً) بصورة لافتة مما لا يمكن تفسيره إلا من منطلق أن الفنانة الكبيرة هي التي أصرت على ذلك المقاس، فلو كان الأمر بيد الرسام لكان جعل لوحته التالية زمنياً للوحة صديقه أكبر لا أصغر حجماً. غير أن هذا أمر لم يتوقف الباحثون عنده مطولاً. ومهما يكن من أمر فمن المؤكد أن هؤلاء توقفوا في المقابل كما اعتادوا أن يفعلوا في كل مناسبة، أمام ما يمكن استخلاصه عبر المقارنة بين اللوحتين من خصائص تسم فن كل من رينولدز وغينسبورو، ولكن دائماً من دون أية تراتبية تفاضلية بين فنانين أثبت كل منهما عظمته الفنية على طريقته لتتوج هاتان اللوحتان، ذلك كله من منظور ميز فن البورتريه الإنجليزي في عصره الذهبي ذاك.

مقارنة عادلة

لقد كانت المقارنة بين اللوحتين سبيلاً على أية حال لتحديد الأبعاد الفنية التي تميز بين الفنانين الكبيرين، وربما انطلاقاً من كون الموديل المشترك بينهما فنانة بدورها لا يمكن لمتطلباتها أن تتعارض مع فهمها العميق والمتواطئ لأساليب الرسامين الكبيرين، وذلك تحديداً بالتناقض مع متطلبات أعيان القوم وأبناء الصفوة الاجتماعية من الذين، لجهلهم الفني عادة، لا يطلبون من اللوحة أكثر من أن تكون تعبيراً عن مكانة اجتماعية ما لا تمت بصلة إلى أي تجديد فني طبعاً. والحقيقة أن خصوصية الموديل وثقافتها الفنية هي التي مكنت الباحثين دائماً من أن يستندوا إلى هاتين اللوحتين للتحكيم العميق في المقارنة بين فني رينولدز وغينسبورو، طالعين دائماً باستنتاجات تكاد تساوي بالعدل والقسطاس بين الفنانين. ومن هنا طرافة تلك الدراسة التي نشرت لمناسبة المعرض في كاتالوغ خاص بالمناسبة أصدرته مجلة "بوزار" الفرنسية المتخصصة، ولا يحمل توقيعاً  مما يعني أنه خلاصة رأي الكاتالوغ بشتى كتابه، ويجعله بالتالي مرجعاً معتمداً وهكذا عبر فقرات بسيطة ومقارنات دقيقة لخصت تلك الدراسة الفوارق والقواسم الجامعة بين فنانين دائماً ما احتار النقاد والمؤرخون في تقييمهما، بل حتى احتار الهواة في تمييز لوحة لواحد منهما عن لوحة للآخر.

تمايزات متكافئة

وفي النهاية يبدو لافتاً التمييز هنا بين الوحدة اللونية التي اكتشف الباحثون هيمنتها لدى رينولدز، مقابل التنوع اللوني الذي وسم لوحة غينسبورو. وفيما كانت المقارنة عادلة بين حيوية ريشة هذا الأخير العاكسة لحضور الموديل في الأتيلييه الذي رسمت فيه لوحتها، بدا التأثر بأسلوب ريمبراندت وكارافاجيو بالنسبة إلى لعبة النور والظل مهيمناً في لوحة رينولدز التي بدا مؤكداً أن ما يقدمه فيها الفنان إنما هو مشهد – من الذاكرة أو من اسكتشات رسمها أول الأمر ميدانياً – لمسرحية تقوم سيدونز بأداء دورها فيها، وها هو رينولدز بعد ذلك يبدو وكأنه يجاري ضخامة حجم لوحته من خلال فخامة الأسلوب ورهافة الجلسة التي صور فيها موديله، ويختلف عنه غينسبورو تماماً في إضفائه روحاً واقعية على موديله من خلال جعل جلستها مستقاة من جلسة تنتمي إلى واقع الحياة اليومية، وهو ما يظهر كذلك وبصورة أكثر وضوحاً من خلال تركيب الجلسة، فإن كان كل من الفنانين قد جعل سارة تنظر في الاتجاه نفسه فقد ميز غينسبورو سارة كما ارتآها بنظرة أليفة مهتمة تنحو إلى التعبير عن قرب بطلته من متفرجي اللوحة، وبالتالي منه هو نفسه وكأنها تخاطبهم في حديث يومي متواصل، بينما صور رينولدز فنانته تنظر إلى البعيد كالحالمة وتحديداً في مشهد مسرحي يتناقض كلياً مع مشهد الحياة اليومية كما يلوح من خلال جلسة سارة سيدونز في لوحة غينسبورو.

الاثنان فائزان

لم تكن ثمة على أية حال لجنة تحكيم في محكمة فنية هنا يمكنها أن تفصل في الأمر لمصلحة هذا الفنان أو ذاك. بل إن المقارنة لم تنطلق أصلاً من رغبة في حسم التنافس بين رينولدز وغينسبورو. كل ما في الأمر أنها – أي المقارنة – إنما فرضت نفسها هنا كضرورة ليس طبعاً للمفاضلة بين فنانين كان كل منهما على أية حال لا يتوانى عن الاعتراف بمكانة زميله، بل لدراسة الكيفية التي يمكن عبرها لفنانين كبيرين أن يميز كل منهما فنه في وقت يكون متمتعاً بكامل حريته التلوينية والأسلوبية ليخوض موضوعه. ويقيناً أن الفنانين معاً قد نجحا في الاختبار ليخرجا من المقارنة متميزين وكل منهما على طريقته بالتأكيد.

المزيد من ثقافة