ملخص
غابت الممثلة الفرنسية الكبيرة أنوك إيميه عن 92 سنة عاشت معظمها أمام الكاميرا تؤدي أبرز الأدوار في أفلام فرنسية وإيطالية وعالمية. وتركت إيميه كما سماها الشاعر الكبير جاك بريفير أثراً كبيراً في عالم السينما، ولا ينسى كثير إطلالاتها الفريدة.
تتوالى أخبار رحيل كبار نجوم السينما، فبعد فرنسواز آردي الأسبوع الماضي رحلت قبل أيام سيدة كبيرة من سيدات الشاشة، أنوك إيميه التي غادرتنا عن 92 سنة. ولا يمكن لمن واكب الحركة السينمائية في ستينيات القرن الماضي ألا يكون على اطلاع على بعض من أهم أفلام هذه الممثلة المرموقة والساحرة التي كانت تضع دائماً شيئاً من نفسها في الأدوار التي تجسدها. وأطلت إيميه في أفلام مثل "لولا" لجاك دومي و"الحياة العذبة" و"ثمانية ونصف" لفيديريكو فيلليني، وفي نحو 70 فيلماً آخر أسهمت في صناعة شهرتها الواسعة حول العالم.
وعند رحيلها تذكر كثير دور آن غوتييه الذي لعبته في "رجل وامرأة" لكلود لولوش الذي لا يزال حياً في ذاكرتهم، على رغم مرور أكثر من نصف قرن على عرضه الأول. هذا الفيلم الذي نال "السعفة الذهبية" في مهرجان "كان" عام 1966 جاء في ذروة تألق الموجة الفرنسية الجديدة. وصاحب لولوش كل من إيميه وشريكها في التمثيل جان لوي ترانتينيان في مغامرة فريدة تماهى معها الملايين وصنعت منهما أشهر ثنائي في الستينيات. أما اللحن الساحر الذي وضعه فرانسيس ليه فلا نزال ندندنه إلى اليوم.
ويجمع الفيلم رجلاً وامرأة أرملين يلتقيان وينتهي بهما المطاف بالوقوع في الحب. ولكن من شيء بسيط يستمد لولوش فيلماً عاطفياً فكل السر في الأسلوب والتصوير والأجواء وفي اللونين الأسود والأبيض. ولولوش الذي كان آنذاك في آواخر العشرينيات من عمره شاء أن يروي "قصة حب كما في الحياة لا كما في الأفلام" كما ذكر مراراً، وإضافة إلى "سعفة" مهرجان "كان" نال الفيلم جائزتي "أوسكار" وأسهم في تغيير حياة إيميه (نالت عنه غولدن غلوب أفضل ممثلة) كما أكدت في مقابلة، وأصبحت لها مكانة بارزة في مسيرة لولوش الذي أدارها في تسعة أفلام شاركت فيها أحياناً في إطلالات عابرة.
وفي محاولة لرد الاعتبار إليها في لحظة رحيلها كتب لولوش "غادرتنا أنوك هذا الصباح. غادرت لتنضم إلى جان لوي وبيار وفرانسيس وآخرين وكانت رفيقة دربي وصديقتي منذ الأزل. لقد منحتني كل الفرص وقالت لي نعم عندما رفضني الآخرون يوم كنت مخرجاً شاباً. بفضلها، وبفضلها وحدها، كنت على حافة النجومية وستظل صورتها محفورة إلى الأبد على شاطئ نورماندي (حيث صور "رجل وامرأة"). بعد أن جعلت العالم كله يحلم، إنها ستجعل الملائكة تحلم".
ووقفت إيميه قبالة الكاميرا لنحو ثمانية عقود وهي التي بدأت في سن مبكرة جداً. وأغوت كبار السينمائيين خصوصاً في فرنسا وإيطاليا البلدين اللذين شهدا مجمل نشاطها السينمائي. وتعود بداياتها إلى عام 1947 وقت أن كانت في الخامسة عشرة، فضمها المخرج هنري كاليف الذي اندهش بجمالها الأخاذ إلى فيلمه "البيت تحت البحر"، وكان اختارها بعدما شاهدها في مطعم تتناول العشاء مع أمها.
الوجه المحبوب
وسرعان ما تخلت عن اسمها الحقيقي نيكول فرنسواز لتعتمد أنوك (اسم الشخصية التي تلعبها في "البيت تحت البحر")، قبل أن يضيف إليه الشاعر جاك بريفير "إيميه" (تعني "محبوبة" بالفرنسية)، فالجميع كان يحبها كما أكدت ذات مرة. بريفير نفسه كتب لاحقاً سيناريو فيلم من إخراج أندريه كايات بعنوان "عشاق فيرونا" وفيه وقفت ممثلتنا الصاعدة أمام سيرج ريجياني، قبل أن تلعب في فيلمين لمخرج آخر ذي أهمية وهو ألكسندر أستروك.
وهذه المتحدرة من عائلة درايفوس اليهودية كانت غيرت كنيتها خلال الحرب لتتبنى كنية أمها دوران، خوفاً من ملاحقة النازيين لها. ولهذا السبب أيضاً أرسلها أهلها إلى منطقة شارانت بعيداً من باريس. وبدايات إيميه هي بدايات كلاسيكية في أجواء ما بعد الحرب لكن بقية مسيرة التي كانت تحلم بأن تمتهن الرقص لن تكون كذلك. ولعل ما شرع لها طريق النجاح هو سلسلة اللقاءات التي كانت ستقوم بها. فما بعد الحرب كان زمن الفرص المفتوحة وحالفها الحظ في لقاء كبار مثل بابلو بيكاسو وجان كوكتو وجان جنيه، وزجتها هذه اللقاءات في أوساط المثقفين والفنانين الذين عرفوا كيف يقدرونها. ويروى أن جنيه كتب سيناريو مستوحى منها وكان ينوي تولي إخراجه ولكن عدل عن الأمر، وباع الفكرة إلى المخرج الإنجليزي توني ريتشاردسون ليصبح فيلماً بعنوان "مادموازيل"، وجمعها بنجمة أخرى تدعى جان مورو.
"لا دولتشي فيتا" (1960) لفيلليني أسهم في إخراجها من حدود فرنسا وفرض حضورها في سينما مختلفة عن تلك التي انطلقت بها. ويغادر مارتشيللو (ماستروياني) مسقط رأسه في إيطاليا إلى روما ليصبح كاتباً لكنه يصبح كاتب عمود في صحيفة تابلويد. فيمضي وقته في الأماكن التي يمكنه فيها التقاط السبق الصحافي. وهذا هو باختصار ما يقوله الفيلم الذي نال "سعفة" مهرجان "كان" عام 1960. وتجسد فيه إيميه دور مادالينا زوجة مارتشيللو. ومادالينا شخصية اجتماعية ثرية مشبعة بالملل تجسد الانحطاط والفراغ في المجتمع الراقي الذي ينتقده فيلليني، وتسهم في البحث عن المعنى وسط حياة النخبة في روما الساحرة والفارغة في آن واحد.
وفيلم آخر تحت إدارة فيلليني رفع من شأنها هو "ثمانية ونصف" (1963)، الذي يحملنا إلى استيهامات سينمائي يدعي غويدو (ماستروياني) يهرب من عالم السينما بعد إصابته باكتئاب حاد. وتلعب فيه إيميه مرة أخرى دور زوجة ماستروياني فتمده بحضور واقعي، على خلاف عالم غويدو الفوضوي والسوريالي. ومن خلالها يستكشف الفيلم مواضيع الخلاف الزوجي وعدم الرضا والديناميكيات المعقدة بين حياة الفنان الشخصية والمهنية.
وبعد هذين الفيلمين في إيطاليا مثلت إيميه في عدد من الأعمال لسينمائيين إيطاليين كبار كفيتوريو ديه سيكا وألبرتو لاتوادا وسرجيو كوربوتشي وماركو بيللوكو، وبرناردو برتوللوتشي ودينو ريزي وسرجيو ليوني وغيرهم كثير، مما جعلها نجمة كبيرة خارج حدود بلادها. ويمكن القول إن الستينيات كانت أكثر فترة مثمرة في سيرتها. أما السينما الناطقة بالإنجليزية فكان لها صولات وجولات معها علماً أن أحد أول أدوارها جاء في "السمندر الذهبية" (1950) للمخرج البريطاني رولاند نيم، قبل أن نراها في أفلام بريطانية وأميركية مثل "سدوم وعمورة" لروبرت ألدريتش و"الموعد" لسيدني لوميت و"جوستين" لجورج كوكور و"ملابس جاهزة" لروبرت أولتمان. ويعد فيلم "لولا" لجاك دومي (1961) محطة بارزة في حياتها المهنية، إذ تلعب فيه دور راقصة ملهى تتولى تربية صبي والده غائب منذ سبعة أعوام وتنتظره، وفي النهاية تقع في حب البحارة العابرين. رولان كاسار صديق الطفولة يغرم بها لكنها تفضل انتظار ميشال. وتجربة إيميه مع دومي لن تبقى يتيمة فهما عاودا العمل معاً مع "موديل شوب" الذي صوره المخرج الفرنسي في أميركا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتقول صحيفة "لو موند" عن إيميه "بعد دورها في ’لولا‘ بدت إيميه وكأنها تحمل معها قطعة من لولا في كل أدوارها اللاحقة، نوع من الرشاقة التي سمحت لها بأن تفعل وتلعب كل شيء، من دون أن تمسها الفظاظة أو الرداءة. ولا يعني هذا أنها كانت حريصة على إغراء الشيطان لكن الحقيقة أنها كانت دائماً تلعب دور المرأة الأنيقة، أو أنها جعلت من كل النساء اللاتي جسدتهن أنيقات".
فراغ كبير في سجل إيميه السينمائي في السبعينيات، فهي لم تشارك سوى في بضعة أفلام قليلة وجاء قرارها بالتوقف بعدما تزوجت من الممثل البريطاني ألبرت فيني واستقرت في لندن. والأعوام اللاحقة لم تكن كما هي في الستينيات إذ ظهرت في عدد من الأفلام المتفاوتة القيمة، وكاد رصيدها بدءاً من الثمانينيات يخلو من أية تحفة سينمائية. واستعان بها كلود لولوش مراراً في أفلام عدة، وحاول استعادة تجربة تعاونهما الأول مع "رجل وامرأة، بعد عشرين عاماً" عام 1986، ثم مع "أجمل سنوات الحياة" في 2019، وهو الجزء الثالث من "رجل وامرأة". وبهذا الفيلم اختتمت إيميه مسيرتها وهي على مشارف التسعين.