ملخص
ينظم متحف مدينة بون آفن الفرنسية، في سياق سعيه، منذ سنوات، الى إعادة الاعتبار لدور النساء في تاريخ الفن، معرضاً مثيراً بعنوان "نساء في مجموعة نابي"، يطمح إلى كشف وجه آخر لهذه الحركة التشكيلية الفريدة التي جمعت فنانين كباراً.
يبدو فريداً فعلاً، المعرض الذي ينظمه متحف مدينة بون آفن الفرنسية، تحت عنوان "نساء في مجموعة نابي"، عبر سعيه الدائم إلى إعادة الاعتبار لدور النساء في تاريخ الفن. وفي المعرض أعمال لرسامين كبار، مثل بول سيروزيي وموريس دوني وإدوار فيلار وبيار بونار وفيليكس فالوتون وجورج لاكومب، وقد ارتكز هؤلاء في دراستهم على حضور زوجاتهم، عشيقاتهم، أمهاتهم وحمواتهم. نساء نشطن في فلك هذه المجموعة، نادراً كفنانات، وغالباً كموحيات، وقدّمن لأفرادها دائماً دعماً عاطفياً ومعنوياً، وأحياناً مالياً. بالتالي يمثّلن مدخلاً مهماً للتأمل عن كثب في ظروف العمل ومنطق المؤثّرات داخلها.
يتتبّع هذا المعرض إذاً خيط الحميمية في الإبداع التشكيلي لهذه المجموعة مبيّناً أن أفرادها، على رغم ابتكارهم جمالية طلائعية، حافظوا على رؤية تقليدية للعلاقات مع المرأة، كونهم حجبوا دور الموحية والمعاونة والمنفّذة والداعمة لأولئك اللواتي رافقنهم في سعيهم المحموم إلى تجاوز الرسم على المِسنَد chevalet وتفجير الألوان على الجدران أو أي ركيزة أخرى مغرية.
ولأن فهم دور النساء داخل هذه المجموعة يتطلب أولاً التأمل في طريقة تمثيل فنانيها العلاقات التي ربطتهم بهنّ، والتي تختلف كلياً من واحد إلى آخر، نعبر في القسم الأول من المعرض من ولع موريس دوني بحبيبته مارت مورييه، الذي لامس العبادة، إلى الرابط الانصهاري الذي جمع إدوار فيلار بأمه ماري ميشو، مروراً بالعلاقة المضطربة بين أخت هذا الأخير وصديقه الرسام كير كزافيي روسيل. نرى أيضاً في هذا القسم أن هؤلاء الرسامين، انطلاقاً من تجاربهم، جعلوا من العلاقة الزوجية أو العاطفية موضوعاً متعدداً، فصوّروا النساء تارةً كحليفات وموحيات، وطوراً كمنافسات ضاريات.
وفي هذا السياق، نستشفّ اتساقاً في صورية موريس دوني، الذي استقى من علاقته الزوجية الهنيئة مع مارت مونييه رؤى رومنطيقية تتّسم بقدسية، مقابل نزوع إلى إظهار إروسية جسد المرأة العاري في منحوتات أريستيد مايول وجورج لاكومب. نلاحظ أيضاً تأمّلاً ثاقباً في العواطف والحالات النفسية الملازمة لكل علاقة عاطفية في لوحات بول رانسون وفيليكس فالوتون اللذين اختارا تصوير الجوانب الدرامية للحياة الزوجية. لكن حين كانت تلك النساء هنّ اللواتي يقفن خلف عدسة الكاميرا لتصوير رفاق دربهن، تنقلب الرؤية مانحةً إيانا إدراكاً بصرياً آخر. فتحت أنظارهن الحميمة، ينكشف الرجل والحبيب والزوج والأب الذي كان عليه حتماً كل واحد من هؤلاء الفنانين.
تقاليد الزمن
في القسم الثاني من المعرض، نرى أن النساء كنّ يحتللن داخل المجموعة مكاناً محدداً يتماشى مع تقاليد ذلك الزمن. وفي حال وثقنا بمبادئ أفرادها الذين أبعدوا زوجاتهم عن اجتماعاتهم، فإن الحدود كانت واضحة: لا حضور إطلاقاً لهن في قلب المجموعة، بل فقط على هامشها. ولعل أفضل دليل على ذلك هو لوحة "تحية إلى سيزان" التي رسم موريس دوني فيها أحد اجتماعاتهم، ولا نرى فيها أي حضور نسائي، باستثناء زوجته التي تقف على طرف المشهد المرسوم، بوضعية المتأمل فيه من الخارج.
يستحضر المعرض أيضاً مثلاً آخر هو فرانس روسو، التي كانت تستقبل رفاق زوجها الرسام رانسون كل نهار سبت في منزلهما، للإشارة إلى أن ظهور النساء داخل المجموعة كان فقط بصفتهن مضيفات وربّات منزل ووصيات على حياة الأسرة. فخلال وجبات الطعام المرسومة في الداخل أو في الحديقة، نراهن يشرفن على كل تفصيل، وخلال الاجتماعات العائلية المصوّرة في المنزل، يحضرن بنظرات يقظة وحركات حنونة وأجساد منحنية بشكلٍ أمومي على أطفالهن. لكن بخلاف هذا المثال الأنثوي التقليدي، نشطت تلك النساء في الواقع بطريقة تهدف إلى انتزاع احترام لأنفسهن لم ينلنه من رفاق دربهن.
وفعلاً، يتبيّن لنا في القسم الثالث من المعرض كيف أن طريقة تمثيل النساء على يد فناني مجموعة "النابي" كانت دائماً ضمن وضعيات طاعة وامتثال لأعراف زمنهم الاجتماعية. ومن هذا المنطلق، حضرن أيضاً بوصفهن مطرّزات وخياطات بارعات، مثل مارت مورييه التي بجّل زوجها موريس دوني دائماً في لوحاته جمالها ومهارتها في التطريز، وماري ميشو التي مثّلها ابنها أندريه فيلار غالباً أثناء تأديتها مهمات عائلية، تماماً كما فعل روسيل مع ماري، شقيقة فيلار. لكن سواء نشطن في التطريز أو في الخياطة، مثل مارت مورييه ولازارين بودريون (زوجة لاكومب) ولور بونامور (والدة لاكومب)، أو في إنجاز أزياء للمسرح، مثل فرانس رانسون، فإنهن مارسن هذه الحِرَف كوسيلة لقول الذات وتطلعاتها الفنية.
وهذا ما يقودنا إلى موضوع القسم الرابع من المعرض، أي كيف أثار النشاط الحِرَفي لتلك النساء اهتمام أزواجهن وعشاقهن وأبنائهن، وحثّ بعضهم على إنجاز أعمال فنية تزيينية ضخمة، بالتعاون معهن. ومن بين فناني هذه المجموعة الذين اختبروا فنون النسيج، كل واحد على طريقته، نذكر رانسون، رواناي ومايول الذين أدت مساهمتهم اللافتة في هذا الميدان الجمالي إلى اعتبار "الأنبياء" أبرز المدافعين الحداثيين عن الفنون التزيينية وزخرفة الجدران. وفي أعمالهم هذه، التي تحضر نماذج منها في هذا القسم من المعرض، يطغى موضوع المرأة في الحديقة، ممسكة بأغصان شجرة أو حاملة زهرة، الذي يعكس رابطاً عضوياً بين الأنوثة والطبيعة. لكن هذه الرؤية المثالية ينبغي ألا تخفي التقسيم الجنسي للأدوار في هذا النشاط. فبينما اضطلع فنانو المجموعة بابتكار الموضوع وتنفيذه رسماً وتلويناً، عُهِدت إلى نسائهم مهمة نسجه بالخيط والإبرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن الصالونات إلى المحترفات، مروراً بأكاديميات التعليم والمنتجعات، يبيّن القسم الأخير من المعرض ضرورة التوقف عند دلالات هذه الأمكنة لفهم ثورة مجموعة "النابي" على المستوى الفني، والبيئات التي نشط أفرادها داخلها، والموقع الذي احتله كل واحد وواحدة منهم فيها. فداخل تشكيلات تجرأوا فيها على تشويه الأبعاد وبتر الأُطُر والتلاعب بالإضاءات، تبدو الفضاءات الداخلية وتلك الخارجية ودواخل النفوس في لوحاتهم مرتبطة ارتباطاً وثيقاً.
يلفت هذا القسم الانتباه أيضاً إلى التأثير المباشر أو غير المباشر لبعض النساء التي دارت في فلك هذه المجموعة، في مستقبل فنانينها، متوقفاً خصوصاً عند بصمة غابرييل برنهايم على مسيرة فيليكس فالوتون، عند المساعدة القيّمة التي قدّمتها لوسي هيسيل لإدوار فيلار، وعند الدعم الذي وفّرته مارت فينجير وأمها غابرييل لجورج لاكومب. أسماء إن دلّت على شيء، فعلى أن النساء اللواتي يحملهن نشطن في الظل كوسيطات وراعيات، ووضعن شبكات علاقاتهن المهمة ورصيدهن الاجتماعي الكبير لتسليط الضوء لا على أنفسهن، بل على فنانين آخرين، فساهمن بقوة في بناء سمعتهم والترويج لفنهم.