ملخص
لا مستقبل للبنان إلا بالدولة المدنية، لكن على المؤمنين بها والعاملين لها أن يمارسوا قول أنطون تشيخوف "المهم في الحياة ألا تقف متفرجاً".
لبنان، فوق مشكلاته المحلية، في ورطة إقليمية لا مخرج منها محلياً مهما كثر الحراك الداخلي وتعددت المساعي، ولا شيء يوحي أن الحراك الخارجي إقليمياً ودولياً وصل إلى مرحلة النجاح في إخراجه مع المنطقة من الورطة.
وهو على رغم أن أكثرية اللبنانيين، في حرب مع إسرائيل يقودها "حزب الله" لإسناد "حماس" في حرب غزة، وهو، خلافاً لهويته وتاريخه ومن دون إلتفات إلى أي موقف رسمي، صار جبهة أمامية ضمن استراتيجية "وحدة الساحات" من خارج الشرعيات في الدول، حيث "محور المقاومة" والارتباط بـ"أجندته" في خدمة مشروع إقليمي إيراني أيديولوجي مسلح.
فالجبهة الجنوبية المفتوحة تحت سقف متحرك اسمه قواعد الاشتباك المكرسة منذ حرب 2006 هي بحسب الخطاب حرب لمساعدة "حماس" في حرب غزة، وللحؤول دون حرب شاملة على لبنان تهدد بها حكومة بنيامين نتنياهو.
وهي كما يقول حسن نصرالله "معركة وجود ومصير، تصنع مصير فلسطين ولبنان والمنطقة على المستوى الاستراتيجي والأمني والقومي"، والمشكلة ليست فقط ربط كل شيء في لبنان بنهاية حرب غزة، وهو ربط ظرفي، بل أيضاً ربط البلد بالصراع الجيوسياسي في الشرق الأوسط وعليه، وهو ربط دائم.
والكل يعرف، وإن كان البعض يتذاكى ويدعي أن ما يقوم به يحمي البلد وسط الدمار في الجنوب اللبناني، أن ما يمنع الحرب الشاملة ليس التقيد بالخطوط الحمراء في التراشق بل القرار الاستراتيجي لدى الولايات المتحدة الداعمة لإسرائيل ولدى إيران الداعمة لـ"حزب الله" بعدم الذهاب إلى حرب شاملة. لكن ما يدور حالياً له مفاعيل حرب كاملة الأوصاف.
وإذا كان التركيز على اقتراح الرئيس الأميركي جو بايدن الذي دعمه قرار في مجلس الأمن عن وقف الحرب في غزة، فإن الأنظار والمخاوف موجهة نحو جبهة لبنان، وهذا ما ظهر في المداولات التي جرت في قمة الدول الصناعية السبع في إيطاليا، وقبل ذلك، في لقاء بايدن والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد الاحتفالات بالذكرى الـ80 لإنزال النورماندي.
وسواء كان هناك شيء غير معلن أو لا، فإن ما هو معلن بالغ التعبير، وموجزه القول بعد لقاء الرئيسين الأميركي والفرنسي "إن حماية استقرار لبنان ونزع التوترات على الخط الأزرق لهما أهمية قصوى للبلدين اللذين يعملان معاً من أجل ذلك، ويدعوان جميع الأطراف إلى ممارسة أكبر قدر من ضبط النفس والمسؤولية في إطار احترام قرار مجلس الأمن 1701 وتنفيذه".
فضلاً عن تأكيد أميركا وفرنسا على "الضرورة الملحة لإنهاء الفراغ الرئاسي المستمر منذ 18 شهراً، وانتخاب رئيس للجمهورية من دون انتظار وتشكيل حكومة وتنفيذ إصلاحات ضرورية لتحقيق استقرار الاقتصاد اللبناني وإرساء أسس التعافي والنمو الاقتصادي الشامل للبلد".
ولم يكتم الرئيسان الأميركي والفرنسي العزم على "زيادة الضغط على إيران من أجل إزالة نشاطاتها التي تزعزع استقرار المنطقة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن هذا الموقف يبقى عاجزاً، لأسباب ذاتية وموضوعية، عن إخراج لبنان من المأزق، فالجمهورية مخطوفة، وتكاد تصبح ضائعة، وسط بحث اللبنانيين و"الخماسية" العربية والدولية عن رئيس، واللعبة الديمقراطية البرلمانية معطلة مع الدستور بقوة "الثنائي الشيعي" المصر على مرشح لا يستطيع انتخابه ولا يريد التخلي عنه.
وفي المقابل طرف آخر لا يستطيع انتخاب مرشحه، والطرفان عاجزان عن التفاهم على مرشح ثالث، وكل منهما يعرف أن انتخاب الرئيس ليس مسألة عدد، فلا رئيس يأتي به طرف واحد يمكن أن يؤلف حكومة ويحكم، ولا رئيس، ولو جاء بالإجماع، يستطيع استعادة الجمهورية المخطوفة، لأن شعار الطرف الخاطف هو "الجمهورية لنا، سواء كان الرئيس لنا أو لسوانا أو للجميع"، والأخطر هو التصرف على أساس أن سلاح المقاومة الإسلامية ضمن "محور المقاومة" الذي تقوده إيران هو الثابت، وأن المتغير هو لبنان.
وتلك هي المسألة، فالنظام مملوء بالنواقص والسلبيات مقابل بعض الإيجابيات التي أبرزها الحرية والعيش المشترك بالمعنى السياسي، لا البيولوجي فقط، والمشاركة التي هي حق للجميع، غير أن الأخطار والصراعات الداخلية والخارجية أسهمت في تعميق العيوب والسلبيات وضرب الإيجابيات.
وما كرّسه "الآباء المؤسسون" عبث به الأبناء والأحفاد، بعضهم ضمن خطة عن سابق تصور وتصميم، وبعضهم الآخر بالأنانيات والصغائر والممارسات الخاطئة، فضلاً عن أن الشكاوى ليست جميعاً من منطلق واحد هو الرغبة في إصلاح النظام نحو الأفضل والحرص على تقديم العلاجات والحلول الضرورية.
وها نحن اليوم في انحدار من الطائفية إلى المذهبية، وإلى ما هو أسوأ من النظام الطائفي، بدل الانقلاب العسكري الصعب، حدث نوع من "الانقلاب الميليشيوي" السهل، وبدلاً من تطبيق اتفاق الطائف للوصول إلى تجاوزه عبر الباب الأمامي الذي فتحه الاتفاق نحو دولة مدنية، أعادنا المؤتمنون على الطائف إلى الخروج من الباب الخلفي نحو الفوضى والأرجحية الطائفية الشيعية مكان الأرجحية الطائفية المارونية التي انتهت.
المناصفة شكلية لأسباب تتخطى الميزان الديموغرافي، والمشاركة السياسية في مجلس الوزراء والتي هي من أهم إنجازات الطائف، أصبحت أسيرة فائض القوة المفترض.
والمشكلة مثلثة في إصلاح النظام من ضمن آلياته الدستورية وبالخلل الحالي في التوازن والوزن، لا مجال له، والطريق إلى الدولة المدنية التي هي الحل الطبيعي والعصري، طويل ومملوء بالحواجز ومسدود من بدايته، والدولة الدينية التي هي الهدف الفعلي للمرتبطين بولاية الفقيه في إيران ومشروعها الإقليمي المتدرج في اليمن والعراق وسوريا ولبنان تبقى مهمة مستحيلة في لبنان بطوائفه المتعددة وتياراته المدنية.
ولا مستقبل للبنان إلا بالدولة المدنية، لكن على المؤمنين بها والعاملين لها أن يمارسوا قول أنطون تشيخوف "المهم في الحياة ألا تقف متفرجاً".