Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الممثل دونالد ساثرلاند ساهم في صنع مشهد السينما العالمية

رافق أجيالاً من المشاهدين وأدى 150 دوراً وسعى إلى تغيير العالم بالفن

دونالد ساثرلاند في فيلم "كلوت" مع جين فوندا (يوتيوب)

ملخص

رحل الممثل الكندي العالمي الكبير، دونالد ساثرلاند، المعروف في جميع أنحاء العالم، عن 88 عاماً، بعد صراع مع المرض، تاركاً خلفه سلسلة مترابطة من الأدوار والشخصيات التي تحولت لحظة غيابه إلى ذكريات. انخرط في سينمات من جنسيات مختلفة، وذلك منذ السبعينيات: كندية، أميركية، بريطانية، فرنسية، إيطالية. اختصر المسافة بين الأماكن والثقافات والأزمنة.

انطلق الممثل الكندي العالمي دونالد ساثرلاند في مطلع الستينيات وخاطب عبر الزمن أجيالاً من المشاهدين لكنه ظل حاضراً حتى الأعوام الأخيرة، وأسهم إصراره على العمل في أن يذيع صيته عند المشاهدين الشباب من خلال بعض الأفلام الواسعة الانتشار التي شارك فيها مثل "ألعاب الجوع"، الذي جعله يحافظ على نجوميته وحضوره الشعبي المتألق بعد دخوله الثمانينيات من عمره. في حين ظهر كثير من أبناء جيله في الستينيات وذهبوا أدراج الرياح في ما بعد وبقي هو في الصف الأمامي وصولاً إلى منحه جائزة "أوسكار" فخرية عن مجمل أعماله قبل سبعة أعوام، تعويضاً عن كونه لم ينل أي ترشيح لهذه الجائزة المرموقة طوال مسيرته الممتدة. 

وقبل "الدزينة القذرة" (1967) لروبرت ألدريتش لعب ساثرلاند وهو من عائلة جذورها ألمانية وإنجليزية واسكتلندية، عدداً من الأفلام التلفزيونية والسينمائية التي سقطت اليوم طي النسيان. وله أيضاً من تلك الحقبة فيلم إيطالي من نوع الرعب بعنوان "قلعة الأموات الأحياء". وأهمية هذا الفيلم أنه سمح له بالوقوف إلى جانب كريستوفر لي المعروف بدور دراكولا والذي كان نجماً كبيراً في تلك الأيام. لكن فيلم ألدريتش كان حداً فاصلاً في سيرته فهو لم يعطه فرصة تأكيد موهبته فحسب بل أيضاً تحفة سينمائية أصبحت اليوم من الكلاسيكيات. وفيه لعب ساثرلاند شخصية فيرنون بينكلي أحد المدانين الإثني عشر الذين اختيروا خلال الحرب العالمية الثانية للقيام بمهمة خطرة. وبينكلي شخصية ممعنة في الغرابة ومعروفة بحبها لتقليد أحد الجنرالات أثناء التدريب، وهذا من الأشياء التي كشفت طاقته الكوميدية وجاء بلمسة فكاهة إلى فيلم يمتاز بالجدية. وعلى رغم أن بينكلي ليس إحدى الشخصيات الرئيسة في الفيلم فإن أداءه أسهم في إحداث ديناميكية بين أفراد المجموعة. 

وإطلالة ساثرلاند البارزة تحققت مع "ماش"، كوميديا روبرت أولتمان الخاصة جداً التي نالت "السعفة الذهبية" في مهرجان "كان" عام 1970 وهذا فيلم آخر أصبح من الكلاسيكيات وتدور أحداثه خلال حرب كوريا. وتبنى أولتمان الهجاء والسخرية للحديث عن الحرب من خلال هذا العمل الذي يأخذ من مستشفى شيد خصيصاً لمعالجة الجرحى مسرحاً له، ويلعب فيه ساثرلاند دور العقيد الجراح ويعد أحد أدواره الأيقونية الذي أسهم في صعوده كممثل، وشخصيته شخصية ثائر كثيراً ما يصطدم بالسلطات العسكرية.

بيد أن التكريس على أوسع نطاق أتى بعد عام مع "كلوت" لألن ج. باكولا وفيه لعب دور جون كلوت محقق خاص وشرطي سابق. والفيلم "ثريللر" ينطوي على عناصر سينمائية مثل الجريمة والغموض والدراما النفسية، وكلوت شخصية ذات ثبات انفعالي واضح وهو مكلف بالتحقيق في اختفاء صديقه الذي سيقوده إلى بري دانيالز (جاين فوندا) وهي فتاة ليل قد تكون لديها معلومات عن الاختفاء. وأداء ساثرلاند يسهم جدياً في نجاح الفيلم وفتح الطريق أمامه إلى التيمات العميقة والملتبسة.

ثلاثة أفلام خرجت إلى الضوء بين منتصف السبعينيات إلى مطلع الثمانينيات وأسهمت كثيراً في فرضه وهي "القرن العشرون" لبرناردو برتولوتشي و"كازانوفا" لفيديريكو فيلليني و"أناس عاديون" لروبرت ردفورد. وهذه الأفلام تحولت بدورها إلى أعمال كلاسيكية كل منها يختلف عن الآخر جذرياً. ففي رائعة برتولوتشي التي توثق صعود الفاشية في إيطاليا العشرينيات لعب ساثرلاند دور فاشي مقتنع بـ"رسالته" وهو رجل شديد العنف يعامل المعارضين ببطش، وتسهم أفعاله في بلورة أحداث هذا الفيلم الذي يستعرض أيضاً الصراع الطبقي والغليان السياسي في تلك الحقبة، وفي أحد أشهر المشاهد نراه يسحق قطاً على سبيل العبرة كي يظهر المصير الذي سيناله كل الشيوعيين، وفي لقاء مع الجمهور خلال مشاركته في مهرجان "لوميير" في ليون قبل خمسة أعوام روى أن شخصيته في الفيلم كانت تصرح بأن الشيء الوحيد الذي ينبغي أن يخافه هو الخوف نفسه، لكن أرباب استديوهات "يونايتد أرتيستس" طلبوا حذف هذه الجزئية بعدما ربطوها بخطاب لفرانكلين روزفلت.

وثاني الأفلام في السبعينيات التي طبعت مسيرته هو "كازانوفا" بحسب رؤية فيلليني الفانتازية لشخصية جياكومو كازانوفا المغامر والكاتب وزير النساء الذي عاش في البندقية خلال القرن الثامن عشر، والفيلم عن المغامرات العاطفية لهذا الرجل عبر أوروبا وصولاً إلى شيخوخته، وجسد الممثل دوره بحس ميلانكولي بالغ مع تركيز على وحدته ولا جدوى الحياة التي يعيشها. هذا كله في زمن تميز بالانحطاط على المستوى الأخلاقي. 

والتقى ساثرلاند بفيلليني عندما كان يصور "أليكس في بلاد العجائب" لبول مازورسكي وكان يومذاك في روما برفقة جاين فوندا ومن ثاني لقاء عرض عليه المعلم الإيطالي دور كازانوفا، وكان الممثل اشترى في تلك الأثناء ثمانية كتب عن المغامر طالعها كلها وفي ندوة ليون روى اللقاء بينهما "علمت منه أنه يريد العودة إلى ميلانو فاقترحت عليه أن أقله بسيارتي وعندما صعد فيها راح يرمي كل الكتب واحداً واحداً من الشباك فقلت "أوكي". هكذا نشأت علاقتنا ثم أمضينا نهاية عطلة أسبوع رائع في ميلانو وشعرت بأنني عشيقته (ضحك). وأتذكر أننا دخلنا لمشاهدة "الإكزورسيست" معاً لكننا خرجنا من منتصف الفيلم لنذهب إلى الـ"سكالا" وعندما وصلنا فتحت كل أبواب المسرح أمام فيلليني".

"أناس عاديون" لردفورد هو ثالث الأفلام المهمة في مسيرته خلال تلك الفترة وهو عن الخسارة والفقد اللذين تواجههما عائلة نتعرف عليها من خلال شخصية الأب التي يلعبها ساثرلاند بتفان وإتقان شديدين، وهو يحرص على صون أسرته ولم شمل أفرادها في ظل المأساة التي تضربها. وأعطاه ردفورد في أول أفلامه كمخرج دور رجل متفهم يتعامل مع التروما بطول أناة. لكن وعلى رغم أهمية الفيلم فإن قلب ساثرلاند يميل إلى فيلمي برتولوتشي وفيلليني. 

وخلال الحديث عن مسيرة ساثرلاند لا يمكن صرف النظر أيضاً عن "غزو خاطفي الجثث" (1978) لفيليب كوفمان، وهو فيلم خيال علمي يلعب فيه دور مفتش صحة في سان فرانسيسكو ويلاحظ تغييرات في سلوك المحيطين به فيكون صارماً في حماية الآخرين، خصوصاً بعد أن يعي أن البشرية تواجه خطراً غير مسبوق. أما في "موسم جاف أبيض" (1989) للمخرجة المارتينيكية أوزهان بالسي فيضطلع ساثرلاند بدور شخص يجد نفسه في خضم الصراع ضد الفصل العنصري بعدما كان لأعوام طويلة لا يعي خطره، ويخضع بعد ذلك إلى تحول كبير خصوصاً بعد أن يكون شاهداً على الظلم الذي يعانيه السود.

وبدءاً من عام 2012 تورط ساثرلاند في سلسلة "ألعاب الجوع" التي تجري أحداثها في شمال أميركا ما بعد القيامة، إذ لعب دور الزعيم السياسي والطاغية لمدينة تدعى بانيم موظفاً الجوع أداة سيطرة على السكان. وعندما قرأ ساثرلاند النسخة الأولى للسيناريو وافق على الفور معتقداً أن فيلماً كهذا قد يكون مدخلاً لحض الناس على التغيير، لكنه اعترف لاحقاً بأن "هذا لم يحصل". 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولا يمكن تناول معظم الأفلام التي ظهر فيها اسم ساثرلاند لكثرتها وتشعبها فهو حاضر في المشهد السينمائي لأكثر من نصف عمر هذا الفن. وعلى مستوى الشكل كان عملاقاً يدنو من المترين وصاحب وجه فريد يوحي بالرقة والقسوة والثقة وأحياناً في آن واحد. ابتسامته لا تقاوم وفي عينيه لمسة شر مما دفع بالسينمائيين إلى كتابة الحيرة على جبينه. 

وله نحو 150 دوراً وكاد لا يترك شخصية لم يتقمصها وفي آخر إطلالة له بدا متعباً يائساً يردد بلا توقف "انظروا ماذا يحدث في أميركا والعالم"، مع ذلك الشعور العارم بالفشل الذي عند بعض أبناء جيله. الفشل في تغيير العالم إلى مكان أفضل من خلال فنهم ونضالهم وتقدميتهم ففي نظره أن كل إنجازات جيله صادرها عالم المال والأعمال للمتاجرة بها.

اقرأ المزيد

المزيد من سينما