ملخص
في العالم أكثر من 7 آلاف لغة وقرابة 200 دولة. وباتت مئات لغات الأقليات الإثنية مهددة بالاندثار بتأثير تزايد نفوذ اللغات الكبرى، والعولمة، وميل الدول إلى دعم لغة أو اثنتين على حساب البقية، فيما يؤدي تداخل البعدين اللغوي والسياسي إلى مفاقمة مشهدية تآكل التنوع اللغوي
وفقاً لأحدث البيانات من "إثنولوغ" Ethnologue، وهي قاعدة بيانات لغوية مستخدمة على نطاق واسع، فإن ما يقارب 190 دولة قومية في العالم تعد موطناً لـ7168 "لغة حية" [يوصف النظام الدولي الحديث بأنه مرتكز على الدولة - الأمة الذي ظهر في أوروبا منذ معاهدة وستفاليا 1648، وانتشر في العالم]. ولهذا التفاوت الشاسع آثار كبيرة، إذ إن معظم الحكومات تدعم فقط لغة رسمية واحدة أو بضع لغات رسمية. تنتمي غالبية هذه اللغات إلى مجتمعات أقدم بكثير وأكثر محلية من الدول القومية نفسها. ويشكل عدم التطابق بين الدول واللغات عاملاً رئيساً في التحول العالمي في الوعي البشري المتمثل في الانحدار المثير للقلق في التنوع اللغوي.
ويعتقد معظم المتخصصين في اللغات، أن نصف اللغات الإنسانية في الأقل باتت مهددة بالانقراض. وفعلياً، لا تسير معظم تلك اللغات المهددة إلا على ألسنة أقل من 10 آلاف شخص. ولا ينطق مئات منها سوى أقل من 10 أشخاص، فيما ينحدر العدد نفسه إلى شخص واحد في مجموعة منها (إن الوضعية قاسية بصورة خاصة بالنسبة إلى لغات الإشارة التي لا يزيد عددها على 157 لغة، بحسب إحصاء "إثنولوغ").
في حين أن لغات مثل العربية والإنجليزية والفرنسية والهندية والماندرين الصينية والإسبانية لديها الملايين من المتحدثين، فإن اللغات الأقل شهرة تختفي بسرعة. وفقاً لأحد التقديرات، فإن 96 في المئة من سكان العالم يتحدثون أربعة في المئة فقط من جميع اللغات، مما يعني أن الأربعة في المئة المتبقية من سكان الكرة الأرضية ينطقون بـ96 في المئة من لغات العالم.
وكما هي الحال مع التنوع البيولوجي، فإن التنوع اللغوي موزع بشكل غير متساو، مع وجود أعلى التركيزات في "مناطق ساخنة" مثل بابوا غينيا الجديدة، وأفريقيا الاستوائية، والأمازون، وجبال الهيمالايا. في هذه المناطق، ساعدت عوامل الجغرافيا واقتصادات الكفاف والبعد من الدول المركزية تاريخياً المجموعات اللغوية الأصغر على البقاء.
واليوم، تظهر نقاط ساخنة جديدة في المدن التي تعد مهاداً للمهاجرين على غرار جاكرتا، ولاغوس ولندن ونيويورك وباريس. وفي تلك المدن، ثمة شعوب آتية من أرجاء العالم كله تتحلق حول بعضها بعضاً في العمل والتعليم والوصول إلى الخدمات وفرص البقاء والذائقة حيال الحياة الحديثة. واليوم، تجسد نيويورك المدينة الأشد تنوعاً في اللغات ليس في العالم الآن وحسب، بل وعبر التاريخ أيضاً. ومع ذلك، فإن بقاء التنوع اللغوي في مراكز التقارب الثقافي هذه ليس مضموناً على الإطلاق.
ويتقلب عدد اللغات بصورة دائمة. في بعض الأحيان، حتى اللغات التي لا ينطق بها سوى أعداد قليلة من المتحدثين استطاعت الحفاظ على بقائها عبر أجيال عدة. لكن المعدل الحالي لفقدان اللغة غير مسبوق. وهذه الظاهرة تتوازى في كثير من الأحيان مع فقدان الكوكب المتسارع للأنواع الحيوانية والنباتية. يمكن القول إن خسارة اللغات بدأت مع انتشار الزراعة منذ آلاف السنين، التي مكنت مجموعات لغوية معينة من زيادة أعدادها، وكسب مناطق جديدة، والهيمنة على المجموعات التي استمرت في عيشها على الصيد والتقاط المحاصيل والترحل، فباتت أقل شأناً، ولكنها استمرت في كونها أشد تنوعاً في ألسنتها. وقد شهدت القرون الأخيرة فتوحات الإمبراطوريات الاستعمارية، والتمدن الفائق، والشبكات المتوسعة باستمرار للرأسمالية، والإملاءات المتأتية من انتشار نظام الدولة - الأمة. وأدت تلك المعطيات كلها إلى تلاشي اللغات. وكذلك ولد انتشار نظم التعليم الرسمي، والأشكال الجديدة من وسائط الإعلام والاتصالات، ظروفاً متصاعدة الصعوبة بالنسبة إلى المجموعات اللغوية الأصغر وقدرتها على الاستمرار في عالم لا يكف عن التبدل.
بصورة دائمة، تظهر اللغات وتتلاشى. ولكن، لا سابقة في التاريخ للنمط الجاري من خسارة اللغات
وفي غالب الأحيان، يستخف المتحدثون باللغات المهيمنة باختفاء اللغات الصغيرة. معتقدين أن العالم قد يكون أفضل إذا تحدث الجميع بنفس اللغة. يتجاهل هذا المنظور حقيقة أن المتحدثين بنفس اللغة ما زالوا ينخرطون في الصراع والعنف. والأهم من ذلك أنه يتجاهل الفوائد العلمية والفنية والإنسانية العميقة للتنوع اللغوي.
في كتابه "عدد لا يحصى من الألسنة، كيف تكشف اللغات الفوارق في طريقة تفكيرنا" A Myriad of Tongues: How Languages Reveal Differences in How We Think يسلط عالم اللغويات الأنثروبولوجي كاليب إيفريت الضوء على ثراء اللغات المهددة بالانقراض في العالم التي ينأى بها عن كونها مجرد لهجات بدائية، مبرزاً ملامحها اللغوية المتفردة واحتوائها على الأدب الشفهي والمعرفة التاريخية والعلمية والميزات اللغوية الفريدة وعجائب أخرى غالباً ما تكون غير قابلة للترجمة.
كما تظهر الأبحاث بشكل متزايد أن الأطفال يستفيدون من التعليم بلغتهم الأم وأن الحفاظ على اللغة الأم يمكن أن يحسن الصحة العقلية والبدنية. إضافة إلى ذلك، فإن الحفاظ على اللغات هو مسألة عدالة، نظراً إلى تاريخ التهجير والاضطهاد والتهميش الذي يواجهه كثير من المتحدثين باللغات المهددة بالانقراض.
ولا يشكل الفناء مصيراً محتماً لأي لغة. ومع الدعم السياسي من الحكومات المحلية أو الوطنية، وتكريس مصادر اقتصادية كافية، تستطيع كل لغة أن تصمد أمام الأخطار والإغراءات وحاجات التواصل التي تتأتى من إملاءات السعي إلى تجانس الهوية الوطنية للدول، إضافة إلى ضغوط العولمة. ومع ذلك، فإن معظم اللغات لا تتلقى مثل هذا الدعم. لذا تحدث انقطاعات في اللغة المتوارثة عبر الأجيال بسبب الضغوط الاقتصادية والسياسية والاجتماعية غير العادية، ومن ثم تتوقف الأجيال الشابة عن التحدث بالطريقة نفسها التي درجت عليها الأجيال الأكبر سناً. ويسري شعور بين المتحدثين بتلك اللغة بأنهم أصبحوا خارج العالم. وغالباً ما يرتبط الوصول إلى الوظائف والمدارس والفرص الأخرى باللغات السائدة مثل الإنجليزية والماندرين والإسبانية... وبالأحرى، أصبح المتحدثون بلغات مثل الكري والناهواتل وتشوانغ يشعرون بالخجل من لغاتهم الأصلية، ومن ثم من هوياتهم.
وتواجه مثل هذه اللغات معركة قاسية من أجل البقاء، ناهيك بتطورها وازدهارها. إن نصف لغات العالم المهددة بالانقراض هي الأقل توثيقاً، مع توفر عدد قليل من الكتب أو التسجيلات، إن وجدت، وغالباً ما لا تزيد على قائمة أساسية من الكلمات. فقط في العقود القليلة الماضية كان هناك جهد جاد ومنظم بين اللغويين (الذين كانوا تاريخياً أبطأ أو تأخروا مقارنة بالمبشرين في جهودهم لدراسة اللغات والحفاظ عليها) لتوثيق اللغات المهددة بالانقراض وتطوير الممارسات والبروتوكولات والأدوات لهذا الغرض.
وفي الوقت نفسه، لم يقف المتحدثون باللغات الصغيرة والمهددة، مكتوفي الأيدي، ولم يركنوا إلى الخمول. إذ شرعت مئات من المجتمعات حول العالم، في بذل الجهد لمحاولة استعادة أو تجديد لغاتهم المهددة، مما أدى إلى إطلاق حركة عالمية جديدة لها آثار سياسية كبيرة.
رموز الزمن
في كتابه "عدد لا يحصى من الألسنة"، يستكشف إيفريت التنوع الهائل للغات العالم، ويصنفها إلى عديد من العائلات اللغوية مثل الأسترونيزية [تشمل منطقة في المحيط الهادئ بين آسيا وأستراليا]، والهندو أوروبية (بما في ذلك الإنجليزية)، والنيجر - كونغولية، بينما يلاحظ أيضاً وجود أكثر من 100 لغة "معزولة" التي لا يوجد برهان موثوق على صلتها بأي لغة معروفة أخرى. وتتقصى العائلات اللغوية تحدرها المشترك من لغة أولية مفترض وجودها عادة قبل آلاف السنين، إلا أن اللغات المتفرعة من ذلك الجذر تطور ملامح وبنيات مستقلة، أو أنها تتبدل عبر الاتصال مع لغات أخرى.
ويعطي إيفريت سردية معقدة عن كيفية شروع البحاثة أخيراً في العمل على إيجاد روابط بين اللغة والفكر ومناح أخرى من التجربة الإنسانية"، عبر الاستناد في نهاية الأمر إلى عينات أكثر تمثيلاً للغات العالم. ومن بين الأشياء التي تفوق حدود الوصف ويوشك العالم على خسارتها مع تضاؤل التنوع اللغوي، تبرز الطرق المرهفة والمحملة بالدلالة في الفوارق بينها، التي تستعملها المجموعات الإنسانية المختلفة في عيش وفهم عوالمها الطبيعية والاجتماعية. إذ يتجاوز أمر اللغات الاقتصار ببساطة على تقديم تصنيفات مختلفة عن المفاهيم والعناصر التي يحتويها العالم، وباعتبار أنها هي نفسها بالنسبة إلى اللغات كلها، فتصير الترجمة جسراً يعبر الفجوة اللغوية باستمرار. ليس الأمر على ذلك النحو، على رغم صحة القول بوجود مشتركات وميول عابرة تخترق اللغات كلها. في المقابل، يجدر التنبه إلى عدم وجود أي لغة نستطيع أن نلقبها بأنها أرضية [تشمل الكرة الأرضية كلها]، وليس ثمة "وجهة نظر آتية من فراغ" في المسألة اللغوية. بالأحرى، أن كل لغة تحمل في طياتها نواة حية عن مكان وزمان تاريخي محددين.
ووفق ما يقترحه إيفريت، تقدم اللغات المختلفة طرقاً مختلفة في الترميز لـ"تجربة الإدراك الإنساني" والتأثر بها. وبفضل عنايته في الصياغة وتشديده على المعطيات التجريبية، ينأى الكاتب بطريقة حاسمة عن التعامل مع إحدى الإشكاليات اللغوية الكلاسيكية المتعلقة بما يعرف بفرضية سابير- وورف التي تذهب، وفق إيفريت، إلى أن "اللغات تمتلك تأثيرات قوية على الأفكار غير اللغوية لدى المتحدثين بها". وبعبارة أخرى، لا يقتصر أمر اللغة على تحدث الناس بها، بل إنها تصوغ وتشكل الطريقة التي يفكرون بها. ولقد استمر النقاش عاصفاً في شأن مدى صحة تلك الفرضية على مدى قرابة قرن من الزمان. وقد مال غير اللغويين إلى ملاحظة نواة من الحس المشترك البديهي في تلك الفرضية، حتى مع مقاومة معظم اللغويين ما رأوا أنه زعم فائق التبسيط ويفتقد بصورة كبيرة إلى ما يمكن وضعه على محك التجربة والاختبار.
بالأحرى، استمر ذلك حتى زمن قريب. ويستند إيفريت إلى عشرات من الدراسات الحديثة التي تشير إلى أن اللغات متباينة بعمق في طرق تعاملها مع الزمان والمكان والعلاقات، إضافة إلى مجموعة أخرى من الانشغالات الإنسانية، وكذلك الحال بالنسبة إلى كيفية تلبثها في العقول والثقافات لزمن يتجاوز لحظة الكلام. وبطريقة أكثر تأملية، يرى إيفريت علاقات جذابة بين الخصائص اللغوية وبيئات طبيعية معينة مع ما يرافقها من أنماط العيش وسبل الحياة. وبكلمات أخرى، ثمة مبالغة مفرطة في القول النمطي القديم الذي يذهب إلى أن شعب الـ"إنويت" لديه 50 كلمة للتعبير عن الثلج (الملاحظة الأصلية أوردها عالم الأنثروبولوجيا فرانتز بواس لم تتضمن سوى أربع كلمات)، لكنها قد تحمل شيئاً ما في ثناياها.
ولنأخذ الزمان مثلاً، زعم العالم اللغوي بنجامين وورف (أحد مؤسسي فرضية سابير-وورف) أن لغة الـ"هوبي" في المنطقة التي تعرف حاضراً باسم أريزونا، ليست لديها كلمات تدل على الزمان، واقترح أن المتحدثين بلغة "هوبي" قد لا يختبرون الزمان بالطريقة نفسها التي تحصل لدى المتحدثين بالإنجليزية مثلاً. وأياً كانت الوقائع (المختلف عليها بشدة) في شأن لغة "هوبي"، إلا أنه من الصحيح بشكل ظاهر أن عدداً من اللغات الكبرى والصغرى، إما تتجاوز على أزمنة الأفعال [في قواعد اللغة] أو أنها تعتمد تقسيماً مختلفاً عن صيغة الحاضر والماضي والمستقبل. ومثلاً، تميز لغة "كاريتيانا" الأمازونية التي أجرى إيفريت بحوثه عليها، بين نوعين من الزمان هما المستقبل أو اللامستقبل، مع ملاحظة أن الفئة الأخيرة تخلط الماضي والحاضر معاً. في المقابل، تمتلك لغة "ياغوا" المنطوقة في الأمازون أيضاً، ثمانية أزمنة للأفعال، تصف خمس منها فترات مختلفة من الماضي. وبغية التحدث جيداً بالـ"ياغوا"، يجب على المرء إجراء تمييزات مرهفة للزمن. ومثلاً، في تلك اللغة، إذا أضيفت لاحقة "سييمآ" إلى الأفعال، فإنها تعني "بين قرابة أسبوع وشهر مضى".
يظهر شيء أشد تعقيداً في المجازات الكثيرة عن الزمان في اللغات المختلفة. وفيما ينظر المتحدثون بالإنجليزية إلى المستقبل باعتباره أمامهم أو قبلهم في الموقع، فإن المتحدثين بلغة "آيمارا" في بوليفيا والبيرو ينظرون إلى المستقبل باعتباره خلفهم، فيما الماضي أمامهم. ويظهر ذلك في تعبير "نايرا مارا" التي تعني حرفياً "السنة التي أستطيع رؤيتها" لكن معناها المجازي هو "السنة الماضية". وتقدم تعبيرات الجسد والوجه التي ترافق الكلام، مؤشراً إلى أن تلك التعابير قد تتسلل الفكر. إذ يشير المتحدثون بالإنجليزية إلى الخلف حينما يناقشون الماضي، فيما يفعل عكس ذلك المتحدثون بلغة "آيمارا".
وتتكاثر مثل تلك الحالات في ما يتعلق بالفضاء واللون وتسمية التصنيفات، بما في ذلك علاقات القربى والنوع الجنسي والشكل. ومثلاً، يستخدم المتحدثون بلغة "برينمو" في بابوا غوايانا الجديدة كلمه "نول" للون الذي يسميه الناطقون بالإنجليزية أخضر وأزرق (بالتأكيد، تمتلك لغات كثيرة مثل ذلك اللون المتخالط). وكذلك يمتلك الناطقون بلغة "برينمو" كلمة "وور" التي تغطي ما يشير إليه المتحدثون بالإنجليزية من ألوان صفراء وخضراء لامعة. وفي تجربة عن قدرة المتحدثين بالإنجليزية والـ"برينمو" تذكر قطع ملونة، وجد أن كل مجموعة أحسنت تذكر القطع المتوافقة بوضوح مع التصنيفات في لغتها في شأن فهم الألوان، بالمقارنة مع القطع التي امتلكت ألواناً ملتبسة. ويجسد ذلك إدراكاً حسياً تصنيفياً يظهر فيه، بحسب إيفريت، أن "الناس يميزون مؤثرات حسية بطريقة أكثر دقة لأن تلك المؤثرات تتوافق مع تصنيفات مفهومية متمايزة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في المقابل، يعترف إيفريت بأن معرفة مدى التأثير الفعلي لتلك الفوارق الخلابة، يشكل "قضية شائكة بشدة". وربما يجادل البعض بأن تأثيرات الفوارق اللغوية هينة نسبياً، وأنها لا تظهر إلا عند تمحيصها في ظروف تجريبية معيارية مشغولة بعناية. ولا يراود أحداً الشك في أن الفوارق في المرادفات تعبر في مستوى ما، عن فوارق في أولويات وطرق الحياة وبيئات الناطقين بها. وبالتأكيد، سيكون للثلج كلمات أكثر في اللغات المنطوقة ضمن المناطق التي توجد الثلوج فيها. في المقابل، فإن قلة من الفوارق التي يفترض أنها "أكثر عمقاً" في القواعد اللغوية، قد جرى شرحها بالفعل عبر متغيرات اجتماعية وثقافية وبيئية. وينطبق ذلك الوصف بوضوح على البعض منها، بما في ذلك مستوى اللطافة في المجتمعات المتسمة بتراكيب اجتماعية واضحة التباين، والمؤشرات إلى الاتجاهات المستندة إلى التضاريس الجغرافية المحلية. في المقابل، يجب ألا ينظر إلى خاصية استخدام صيغة الجمع في الأسماء لدى المتحدثين بالإنجليزية التي تغيب عن الناطقين بلغة "ماندرين"، باعتبارها تفصيلاً اتفاقياً في التاريخ اللغوي لا يملك أي إملاءات غير لغوية. من ناحية أخرى، قد يقتصر أمر الفوارق اللغوية على مجرد كونها كذلك [تفصيل اتفاقي في التاريخ اللغوي]، مع الأخذ في الاعتبار أن عدداً من المزايا اللغوية تشكل أساساً مؤشرات عشوائية ليس لها أي معنى أعمق ثقافياً وإدراكياً. وحاضراً، ليس من أساس للنظر إليها بخلاف كونها مؤشرات عشوائية، لذا يغدو من الخطورة بمكان أن تستخلص منها تعميمات علمية زائفة. ولنتخيل ما تغدو عليه الأمور إن شرع الناس في تصديق أن المتحدثين بلغة "هوبي" ليس لديهم أي إحساس بالزمان، وأن المتحدثين بلغة "ياغوا" يمتلكون الفهم الأكثر تقدماً عنه، فيما يقع المتكلمون بالإنجليزية في منزلة بين تينك المنزلتين. وببساطة، تتسم الممارسات اللغوية الفعلية بأنها على درجة عالية من الديناميكية والتخالط والتجاوب مع الوضعيات ما يحول دون استخلاص تعميمات منها بمثل تلك الطريقة الواردة آنفاً.
وبلطف، يقترح كتاب "عدد لا يحصى من الألسنة، كيف تكشف اللغات الفوارق في طريقة تفكيرنا" أنه من المستطاع العثور على روابط معينة بين اللغة والثقافة والفكر. إن المزارعين الذين يأكلون طعاماً طرياً، مع ما يرافق ذلك من نتوءات علوية وبروز الأسنان العليا في القضمات الكبيرة، يميلون إلى استعمال أصوات تصدر من الشفتين والأسنان على غرار "إف" و"في" يستعمل فيها مزيج من الأسنان الأمامية العلوية والشفة السفلى. في المقابل، يدأب الصيادون وجامعو المحاصيل على ممارسة القضم بملء أفواههم، مما يعني أن أسنانهم الأمامية العلوية والسفلية تغدو مندفعة إلى الأمام، ويتدنى استعمالهم تلك الحروف. وفي الأزمنة الحديثة، أدى الاستخدام التجاري الواسع للأصباغ في مجتمعات "ويرد" WEIRD (الأحرف الأولى بالإنجليزية من عبارة "غربية، متعلمة، صناعية، غنية، ديمقراطية Western, educated, industrialized, rich, and democratic) إلى إثراء مصطلحات الألوان في لغات تلك المجتمعات. وكذلك فإن اعتماد مجتمعات الصيد وجمع المحاصيل على استراتيجيات العيش الكفاف، ربما أدت إلى إثراء لغاتها بـ"المرادفات المتعلقة بالشم"، أكثر من مجتمعات أخرى. ويظهر مثل على ذلك بوجود 15 مصطلحاً مجرداً للروائح المختلفة موثقة في لغة "شابالا" في الإكوادور.
لهجات بلا جيوش
على رغم جاذبيتها الخلابة بالنسبة إلى اللغويين والمتخصصين في علوم الإدراك المعرفي، لا يقتصر أمر لغات مثل "آيمارا" و"برينمو" و"شابالا"، على كونها حزمات من الميزات الإكزوتيكية تنتظر أن تعرض في متحف ما للغات العالم في المستقبل، أو توضع في الأقل ضمن أرشيفات رقمية بات اللغويون يراكمون فيها سجلاتهم عنها. وعلى غرار اللغات كلها، تمثل تلك اللغات رموزاً وتجسيدات عما ينتمي إلى مجموعة، لذا قد يكون كل ملمح فيها، مهما كانت درجة الاعتباطية في حدوثه، محملاً بمعان سياسية. وعلى رغم ذلك، وضمن السياق الخاص لظروفها، تواجه تلك اللغات تحديات مختلفة. وثمة فوارق بين الضغوط التي تعانيها لغة "برينمو" التي يتحدث بها بضع مئات من الأشخاص في قريتين، وبين ما تواجهه لغة "شابالا" التي ينطق بها بضعة آلاف من الناس في منطقة الغابات المطيرة، وكذلك الحال بالنسبة إلى لغة "آيمارا" التي تحوز نحو 3 ملايين متحدث بها منتشرين في بلدان عدة.
وثمة عبارة مشهورة في لغة الـ"يديش" العبرية تنص على أن "اللغة هي لهجة تخاطب مع جيش وأسطول". وقد نطق بتلك العبارة خلال أربعينيات القرن العشرين مدرس في ثانوية عليا بحي برونكس النيويوركي، خلال مقابلة مع العالم اللغوي ماكس فاينرايخ. وتذهب تلك النكتة الماكرة إلى ما هو أبعد من المعطى اللغوي عن الوضوح المتبادل، بمعنى أنها تضع الأصبع على الكيفية التي عملت من خلال بعض "التشكيلات اللغوية" (كي نستعمل مصطلحاً أكثر حيادية ويفضله اللغويون على "اللغة" أو "اللهجة")، على التطور ورفع شأنها فوق اللغات الأخرى.
وبحسب فاينرايخ، لم يسمع ذلك المدرس أبداً بأن لغته الأم لها تاريخ و"قد تستعمل لأجل قضايا عليا" أبعد من أساسيات الحياة اليومية والتواصل الشفوي. [يديش هي لغة عبرية تطورت أساساً ضمن دائرة استعمال اللغة الألمانية].
والآن، أكثر من كل الأوقات الماضية، تولد الأشكال المختلفة من اللامساواة العالمية، نظائر لغوية لها. وبطرق غير مسبوقة، يجري تهميش المتحدثين باللغات المهددة بالترافق مع الاستيلاء على أرضهم أو جعلها غير صالحة للعيش فيها بفعل التغير المناخي. ويدخل أولئك المهمشون إلى المدن واقتصاد المال، مع حلولهم في أسفل التراتبية. وهنالك بضع مئات من اللغات تحظى بوضعية رسمية وبصورة ما من الدعم الحكومي، لكنها تنأى بنفسها عن اللغات المهددة الأخرى عبر انتشار الأمية الألفبائية الجماعية، والمعايير الموحدة، والتعليم الرسمي، والإعلام العام والتقنيات الجديدة.
لقد وجدت دراسة جديدة أن أقل من خمسة في المئة من جميع اللغات "تصعد" باتجاه المدى الرقمي، وتزدهر على شبكة الإنترنت وفي مجموعة من التقنيات الجديدة. وبالنسبة إلى بقية الـ95 في المئة من اللغات الإنسانية، على رغم تطورها في كل ثنية من تفاصيل مستوياتها المعرفية والقواعدية، فإنه يجب دعمها كي تواصل كفاحها من أجل البقاء والاستمرار. وفي معظم الحالات، فإن التأكيد أن لغة ما تملك مستقبلاً يضاف إلى ماضيها، يتطلب حشد الناس والمصادر والضغوط الاجتماعية، أي إنه يوجب خلق حركة للغة.
أثبتت الحركات التي حققت اختراقات كبرى في القرن العشرين، أن أي لغة تستطيع أن تغدو حديثة
ولقد أثبتت الحركات التي حققت اختراقات كبرى في القرن العشرين، أن أي لغة تستطيع أن تغدو حديثة، حتى بمواجهة سعي اللغات المهيمنة إلى مد نفوذها عبر العالم، بل حتى مع افتقادها إلى جيش وأسطول.
وقبل حفنة من الأجيال، بدا أن اللغة الويلزية سائرة حتماً إلى الذوي مع التناقص المستمر في أعداد الشباب المتحدثين بها. ولكن، بفضل جهود نشطاء، ودعم جاء في نهاية المطاف من حكومات محلية ووطنية وحتى قارية على غرار الاتحاد الأوروبي، جرى إحياء تلك اللغة. وبلغ شأوها أنها ترسخت ضمن عدد ثابت من السكان في قلب موطن اللغة الإنجليزية، ويتواصل التزايد في أعداد الناطقين بها.
وفي القرن العشرين، استفادت حركات اللغة في الباسك وكتالونيا، من الثروة الاقتصادية والإدارة الذاتية لتلك المناطق في إسبانيا. وكذلك شدد مناصرو لغتي "ماوري" في نيوزيلندا وهاواي، على أهمية غرسهما في التعليم والمراحل المبكرة من تطور الأطفال كجزء من إنجاح مساعي إحياء اللغتين كلتيهما.
وينظر إلى الجهود الجبارة في برامج إحياء لغة سكان أميركا الأصليين، كنموذج معبر عن اقتدار المجموعات الأقل عدداً في حفر مكان للغات كانت "نائمة"، وفق وصف المتخصصين للغات التي تفتقد متحدثين متمرسين بها، طوال قرن وأكثر.
في ذلك الإطار، كتب المنظر السياسي ويل كيمليككا أنه "يجب في الأقليات الوطنية امتلاك الأدوات نفسها في بناء الأمة، التي تستعملها أمة الأكثرية". ولربما تفكر بلدان عدة في مدى ملاءمة منح إدارة ذاتية لغوياً وثقافياً للأقليات فيها، طالما بقيت السلطة العليا في عواصمها.
لكن، إلى أي مدى قد تصل إليه تلك العملية؟ أشار العالم اللغوي جيرالد روش إلى أن حركات اللغة "تتخذ هيئة قومية في الغالب، إذ تعيد إنتاج منطق شعب واحد، ولغة واحدة، ومنطقة واحدة، في سعيها للإمساك بسلطة دولة لشعبها. لكنها، تقمع لغات الأقليات الأدنى منها في التراتبية، ضمن سياق تلك العملية". وكمثل عن ذلك، يضرب روش مثلاً بالصراع من أجل استقلال التيبت الذي أدى إلى ولادة "حركة اللسان الصافي للآباء" التي تنحو إلى التركيز على اللغة التيبتية المعيارية، مع تجاهل اللغات الأخرى في التيبت ولهجاتها.
واستكمالاً، لا تشكل حركات اللغة شيئاً جديداً، بل كونت جزءاً من معظم الحركات السياسية التي تستند إليها معظم الدول- الأمم. بالأحرى، إن ما يميزها اليوم يتمثل في نظام عالمي لا يفسح لسوى قلة من الدول- الأمم الجديدة، فيما تتصاعد في أرجائه كلها حركات اللغة كاستجابة لضغوط متولدة من الإحساس بالخطر، وعبر قوة المحاكاة والتقليد، وغالباً تحت شعار حقوق الشعوب الأصلية.
واستطراداً، تتجاوب حكومات عدة مع تلك المطالب، في الأقل عبر استجابات شكلية ورمزية تشمل رفع شأن تلك اللغات في الدساتير، على غرار ما يحصل مثلاً في آلاسكا والجزائر. في المقابل، تمتنع هذه الحكومات عن إنفاق سوى النزر اليسير على تلك اللغات، فيما يرجح استمرار تصاعد مطالباتها.
ولن تقاوم كل مجموعة موت لغتها. وليس من المحتم أن تتحول كل حركة لغة إلى حركة سياسية ينبثق منها الصراع الإثني والتقسيم والحرب الأهلية. في المقابل، من كاميرون إلى كتالونيا، وكذلك من هونغ كونغ إلى أوكرانيا، تتمدد سياسات اللغة أكثر من أي وقت مضى. وفي مرحلة ما بعد الاستعمار، شرعت لغات الـ"كريول" في الخروج إلى دائرة الضوء، في منطقة تمتد من بورت مورسباي في بابوا غويانا الجديدة إلى بورت أو برنس في هايتي. [تشهد الكاميرون صراعاً لغوياً مع وجود منطقتين إحداهما تسودها الفرنسية والأخرى الإنجليزية].
وفي جامايكا، ترافق الحراك السياسي الداعي إلى الخروج من منظومة الكومونولث البريطانية مع حراك لغوي يرمي لإعلاء شأن لغة "باتوا" التي وصمت طويلاً بأنها شكل "مكسر" من الإنجليزية.
وفي نفس مماثل، لا ينحصر الجديد في حركات اللغة بتلك اللغات شبه القومية التي يتحدث بها مئات الألوف من الناس. ثمة مئات من المجموعات الصغيرة تماماً، وقد باتت تتعاون مع الاختصاصيين في اللغويات، وتتمرس بالتقنيات الجديدة، وتستلهم آمالها من الحركات الرائدة الكبرى في العالم. إنها لهجات ليس لها جيوش ولا أساطيل، لذا فإنها تحتاج إلى الدعم أكثر من كل شيء.
* روس برلين، مساعد مدير "تحالف اللغات المهددة" ويدرس مادة اللغويات في جامعة كولومبيا، ومؤلف كتاب "مدينة اللغة، الصراع في نيويورك من أجل الحفاظ على اللغات الأم المهددة بالزوال".
مترجم عن فورين أفيرز مايو/ يونيو 2024