Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الفلسفة بوصفها جسر عبور بين ثقافات العالم

الباحثة الفرنسية فرانسواز داستور تسعى إلى تجاوز العوائق الفكرية والثقافية

لوحة للرسام بيكاسو (متحف بيكاسو)

ملخص

تحاول المفكرة والباحثة الفرنسية فرانسواز داستور في كتابها "من أجل فكر بلا حدود: بين الشرق والغرب" سلوك مسار جديد بين الخطابين الفلسفيين الشرقي والغربي، محاولة بأسلوب في غاية الجلاء والعمق تجاوز العوائق الفكرية والثقافية التي يضعها بعضهم أو تلك التي تشكل نوعاً من الهوات والتي قد يعني ترسيمها ببساطة إعلان الحرب بين الشعوب.

تعيد فرانسواز داستور الباحثة والأكاديمية الفرنسية المولودة في مدينة ليون عام 1942 والمتخصصة بفكر هايدغر، في كتابها "من أجل فكر بلا حدود: بين الشرق والغرب" الصادر حديثاً في باريس عن منشورات "ميمسيس"، طرح مسألة المركزية الغربية الأوروبية وإشكالية الحوار مع الآخر بعيداً من منهج الفلسفة المقارنة ووضع الفكر الغربي إزاء الفكر الشرقي. ولعل "إقامة حوار" بين الشرق والغرب هو ما تتطلع إليه نصوصها التي يؤلف مجموعها متن الكتاب، والتي تؤكد كلها ضرورة إزاحة مقولة أن الفكر الغربي هو فكر كوني متفوق، والطعن في المركزية التي يدعيها و"إضفاء الطابع المحلي عليه". ذلك أن الأفكار الأوروبية على عالميتها تنبع أيضاً من تقاليد تاريخية محددة.

هذه الفكرة البديهية هي الرابط المخفي الذي يجب بحسب داستور استعادتها من أجل مقاربة عقلية صحيحة لفكر الآخر وكتاباته. وهي تلاقي فكرة وردت في نصوص هايدغر أكد فيها تنوع طرق الوجود في العالم وعلى ضرورة عدم اختزال بعضها ببعض.

تعالج فرانسواز داستور هذه الموضوعات في كتابها الواقع في خمسة فصول فضلاً عن المدخل والخاتمة.

 يبدأ الفصل الأول من الكتاب بمعالجة موضوع تفكيك الفكر الغربي من موقعه كفكر كوني متفوق ومساءلة المركزية التي يدعيها بغية "تقليم أظافرها"، على حد تعبير أستاذ التاريخ واللغات والحضارات في شرق آسيا في جامعة شيكاغو الأميركية الهندي ديبيش شاكرابارتي، الذي تستعين داستور بكتاباته الداعية إلى فهم جديد للحداثة بوصفها حداثات تتموقع في سياقات مختلفة، مما يعيد النظر في المقولات السائدة ويفكك التمركز الأوروبي، فاتحاً الحداثة على إعادة التشكل الكوني خارج مقولة المركزية الأوروبية.

تاريخ جديد

من هنا كان اهتمام الفصل الأول بموضوع كتابة جديدة لتاريخ العلاقات بين الشرق والغرب ومقولات المركزية الأوروبية وما بعد الكولونيالية. أما الفصل الثاني فقد خصـته الكاتبة بموضوع الشرط الإنساني ومسألة اللاعنف في الهندوسية والجينية والبوذية ومفاهيم الخجل والحياء وضبط النفس والمعاناة والألم والحداد، على النحو الذي تتسم به في نصوص الغرب والشرق. وشكلت مسألة العلاقة مع الآخر محور الفصل الثالث من خلال المكانة التي تموضعه الفلسفة فيها، من حيث كونه غير الذات، أي الآخر المختلف أو الغريب أو العدو، أو ضرورة إخضاعه لمماثلة الذات، ومن خلال تفحص النظام الطبقي الهندي وغيره من النظم التي تطرح هذه المسألة.

أما الفصل الرابع فقد عالجت فيه سؤال اللغة والشعر والحب والمنطق كما تتبدى في نصوص مختارة من التراث الفكري اليوناني القديم والصيني والياباني والهندي والأوروبي الحديث والنظرات التي تتقاطع فيها الفينومينولوجيا والهرمنيوطيقا. وأخيراً تتناول داستور مفهوم الألوهة والملائكة والوساطة في كتابات هذه الحضارات المختلفة معرجة على زرادشت ونيتشه وفكر سيمون ڤايل في علاقتها مع نصوص الهندوسية المقدسة، من دون أن تنسى في تحليلاتها العميقة إبراز تأثير الفكر الهايدغري على عدد كبير من المفكرين غير الغربيين، بدءاً بالفيلسوف الهندي جرافا لال ميهتا (1912-1988).

 على تتالي صفحات هذا الكتاب ومواضيعه المختلفة التي تطرح أسئلة التاريخ والإنسان والإله يتواصل "الحوار الثقافي" بين نصوص الشرق والغرب، وتتداخل المراجع والأسانيد القديمة والحديثة، من هنا وهناك، لتؤلف نسيجاً جديداً جديراً بالاهتمام.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الكتاب إذاً عبارة عن رحلة فلسفية تقوم بها فرانسواز داستور على خطى سيمون ڤايل، التي وجدت عند اندلاع الحرب العالمية الثانية في الحوار الذي دار بين الإله كريشنا والبطل أرجونا كما تبدى في كتاب الهندوسية المقدس "البهاغافاد غيتا"، صدى ملتهباً لتساؤلاتها المتعلقة بالعنف والقتل والالتزام العسكري. وهو أيضاً عبارة عن تجسيد لدعوة موريس ميرلو-بونتي إلى تعلم النظر إلى "ما هو لنا كغريب عنا، والنظر إلى ما هو غريب عنا كما هو لنا". فيه تحاول الكاتبة من داخل الفكر الأوروبي نفسه تفكيك الخطوط الفاصلة بين الشرق والغرب التي تضع الشرقيين والغربيين على جانبي حدود، يحاول كل منهما انطلاقاً من حدوده رؤية الآخر من خلال قيمه ومقولاته، كمحاولة أوروبا جعل عقلانيتها النموذج الوحيد والمقياس الصحيح لكل فكر إنساني. هذا ما أضفى على كتاب فرانسواز داستور هالة من الأهمية.

 فمن خلال تحليلاتها العميقة للنصوص الشرقية والغربية على حد سواء لا تقدم لنا الكاتبة حواراً بين الثقافات وحسب، بل تقدم لنا أيضاً تاريخاً حقيقياً للفكر البشري. ومما لا شك فيه أن هذا الحوار بين الشرق والغرب، الذي أرادته المؤلفة قائماً في نصوص نشأت من لحم الحياة ونجحت في التعامل النقدي معها من منطلق منهجي رصين، لا يعني التقييم الإيجابي أو السلبي وإظهار المحاسن والمساوئ والنقائص في كل من الفكرين، بقدر ما يعني الحفر داخل المتون لإيضاح المعاني والتصورات التي عرفت الكاتبة كيفية استثمار تراكمها المعرفي في حقول الفلسفة والعلوم الإنسانية في الشرق والغرب لفهمها من داخل علاقة جدلية حركت التاريخ المشترك والمختلف للذات والآخر خارج المشروع الكولونيالي والنظرة الدونية لما هو مختلف. وقد عملت هذه المقاربة على تحرير الفكر من أي نزعة مركزية أو نرجسية حضارية تؤدي إلى تقسيم الإنسانية إلى منازل ومراتب، بغرض التأسيس لكيانية إنسانية تفتح فيها الحدود أمام التفاعلات الخلاقة بين الثقافات الشرقية والغربية والقيم الإنسانية المتبادلة في مشترك إنساني جامع.

إن قراءة كتاب فرانسواز داستور "من أجل فكر بلا حدود بين الشرق والغرب" قراءة ممتعة، ستفتح حتماً آفاقاً رحبة تساعد القارئ على فهم واستيعاب التفاعلات بين شرق الأرض وغربها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة