Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل خسرت الثقافة الفرنسية المعركة أمام الإنجليزية في لبنان؟

الفرنكوفونية في لبنان والعالم تواجه تحديات في ظل نمو متسارع للثقافة الأنغلوفونية خلال السنوات الأخيرة

وزير الاقتصاد والتجارة اللبناني خلال افتتاح مؤتمر "البعثة الثالثة التجارية للفرنكوفونية" عام 2023 (مواقع التواصل الاجتماعي)

كثيراً ما جمعت علاقات ثقافية تاريخية بين لبنان وفرنسا. هي علاقة وطيدة تعود إلى قرون مضت، حتى أصبح للبنان خصوصية بين الدول الفرنكوفونية الـ56 في العالم. وعند تأسيس المنظمة الفرنكوفونية عام 1970 انضم إليها كعضو فاعل، خصوصاً أن الثقافة الفرنسية تشكل جزءاً لا يتجزأ من ثقافة أبنائه وهي ميزة له بين دول المنطقة. وفي عام 2010، في القمة الفرنكوفونية التي عقدت في سويسرا وعين فيها رئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان نائباً لرئيسها، وقع على الميثاق اللغوي الفرنسي الذي أطلقته المنظمة الفرنكوفونية للتشجيع على استخدام اللغة الفرنسية وأصبح لبنان أول دولة توقع عليها دعماً للانفتاح على الفرنكوفونية وقيمها الإنسانية. بموجب هذا الاتفاق التزم لبنان بالتعاون مع المنظمة الدولية الفرنكوفونية لتطوير بيئة فرنكوفونية ملائمة في القطاعين العام والخاص ووضع برامج عمل عدة تهدف إلى التشجيع على استخدام اللغة الفرنسية وتطوير مستوى التعليم.

يلزم هذا التوقيع لبنان بأن تكون اللغة الفرنسية لغة ثانية فيه خصوصاً في الدوائر الرسمية، لكن على رغم أن الثقافة الفرنكوفونية راسخة في المجتمع اللبناني، في السنوات الأخيرة بدا أنه ثمة اتجاه أكبر نحو الأنغلوفونية، خصوصاً بعد أن أصبحت تنتشر بمعدلات كبرى بين الشباب كلغة تواصل بينهم. كما تغلب اللغة الإنجليزية في وسائل التواصل الاجتماعي التي سيطرت على حياة الكل، وهي تطغى أيضاً في السينما وفي مجالات العمل، وفي الحياة اليومية للشباب بصورة عامة. فهل بات وجود الفرنكوفونية مهدداً في لبنان؟

لغة التواصل والشباب

في حياتنا اليومية من الواضح أن اللغة الإنجليزية باتت تسيطر على حياتنا في لبنان وفي معظم دول العالم. ولعبت العولمة دوراً أساسياً في زيادة هيمنة اللغة الإنجليزية حتى باتت اللغة الأكثر انتشاراً في العالم. وقد يكون انتشارها في فئة الشباب الأكثر تهديداً للغة الفرنسية التي كثيراً ما كان وجودها كلغة ثانية بعد العربية ميزة للبنان بين مختلف دول المنطقة. ففي ظل سيطرة وسائل التواصل الاجتماعي أكثر فأكثر على حياة الكل، والشباب بصورة خاصة، من الواضح أن اللغة الإنجليزية أصبحت الأكثر استخداماً في التواصل في الحياة اليومية. يضاف إلى ذلك أنها الأكثر رواجاً في عالم السينما، والموسيقى، وفي التواصل المهني. حتى إننا نشهد تغييراً على مستوى التعليم في لبنان لجهة الاتجاه أكثر فأكثر في القطاع التربوي على التركيز على اللغة الإنجليزية. هذا ما يطرح تساؤلات حول ما إذا كان وجود الفرنكوفونية مهدداً في البلاد في ظل التغيير الحاصل. 

تؤكد المتخصصة في اللغة الفرنسية والمديرة المساعدة في مدرسة "القلبين الأقدسين-سيوفي" سينتيا فنرجي أن الإنجليزية تحتل مكانة أعلى بالفعل بين الشباب مع ازدياد عدد مستخدميها ومجالات استخدامها. فهي الأكثر تداولاً في الحياة اليومية، خصوصاً مع اعتمادها بمعدلات كبرى على وسائل التواصل الاجتماعي وفي التواصل، لكن في نطاق المدرسة، هناك تمسك باللغة الفرنسية بصورة أساسية، ولو غلبت اللغة الإنجليزية في التواصل بين الطلاب. 

وتضيف، "في مجتمعنا لا تزال اللغة الفرنسية مسيطرة ويميل المجتمع اللبناني نحو الثقافة الفرنسية بصورة عامة في التواصل بمختلف الوسائل. وهذا ما يمكن ملاحظته في التواصل بالبريد الإلكتروني، وفي التواصل بين الأطباء مثلاً، وفي مجتمعات معينة". في الوقت نفسه لا يواجه طلاب المدرسة الفرنكوفونية صعوبة مع اللغة الإنجليزية. فهم يتلقونها من صفوف الابتدائية ما يخولهم التوجه إلى جامعات أميركية النظام من دون مشكلة، فلا يختارون الفرنسية حصراً في التعليم الجامعي. وتشير فنرجي إلى أن التوجه نحو الجامعات الفرنسية هو بنسبة 60 في المئة بين الطلاب، ونحو الجامعات الأميركية بنسبة 40 في المئة. هذا، وعلى رغم أن المدرسة تسعى إلى تعزيز التعليم باللغة الإنجليزية من صفوف صغرى، لا يزيد عدد الطلاب الذين يتوجهون إلى جامعات أميركية. كما يتوجهون بصورة أساسية إلى دول أوروبية للتعليم. وبعد أن تبين أن الطلاب يميلون أكثر فأكثر نحو اللغة الإنجليزية ويحبون تعلمها، بدأ التعليم في صفوف صغرى لتعزيز إمكاناتهم، بما أن الأغاني والتواصل عبر وسائل التواصل، والأفلام كلها بالإنجليزية وهي أكثر رواجاً حالياً. مع الإشارة إلى أنه بصورة عامة، من يتعلم اللغة الفرنسية أولاً، يسهل عليه تعلم اللغة الإنجليزية لاحقاً، لكن العكس ليس صحيحاً، فيواجه من يتعلم الإنجليزية أولاً صعوبات في اللفظ، ولا يكون بالمستوى نفسه. 

 

بصورة عامة تبين أنه من المهم أن يكتسب الطلاب 3 لغات في الوقت نفسه، وهذا ما يدخل في صلب استراتيجية الـAEFE لمزيد من الرفاهية في التعليم. بحسب فنرجي، هي ميزة مهمة في مجتمعنا كما بات معروفاً، وأهميتها لا تقتصر على المسيرة الأكاديمية فحسب، لكن يبدو لافتاً إلى أن الطلاب في مرحلة معينة باتوا يخجلون من التحدث باللغة الفرنسية. فمن المهم الحفاظ على هذه اللغة بعد المراهقة وإزالة فكرة أن الفرنسية ليست لغة الشباب. يجب التركيز على أن هذا ليس عيباً لو تحدث شاب بالفرنسية كما يعتقد البعض. كما يجب الحرص على الحفاظ على اللغة الفرنسية في تربية الأطفال. هذا، إضافة إلى حرص المدارس الفرنكوفونية عامة على المشاركة في أنشطة السفارة والمجتمع الفرنسي للحفاظ على الثقافة الفرنكوفونية في المجتمع اللبناني، بما أن الأطفال يتعاملون اليوم بصورة أساسية مع اللغة الإنجليزية في الحياة اليومية. فالمطلوب الحرص بشتى الطرق على الحفاظ على الثقافة الفرنسية لديهم. يساعد الانفتاح أكثر فأكثر على هذه الثقافة في صونها.

مئات آلاف الطلاب في المدارس الفرنكوفونية

المكانة المميزة للغة الفرنسية في لبنان تعود إلى العلاقة الوطيدة والاستثنائية التي تربط بين لبنان وفرنسا منذ زمن بعيد. أما نموها فيرتبط إلى حد بعيد بالنظام التربوي في لبنان لاعتباره يتميز بكونه يعتمد على ازدواجية اللغات، فيقوم على اللغة الإنجليزية مع العربية أو الفرنسية مع العربية في المدارس. أما اللغة الفرنسية فهي معتمدة في التعليم بصورة أساسية وتدخل في إطار النظام التربوي بشكل طبيعي. حتى إنها أصبحت في بعض الأحيان بالنسبة لكثيرين اللغة الأم، وهذ ميزة خاصة بلبنان بين مختلف دول المنطقة. 

في حديثها إلى "اندبندنت عربية" تعود مديرة المركز الفرنسي في لبنان ومستشارة التعاون والعمل الثقافي سابين سيورتينو في التاريخ لتذكر تأسيس مدرسة القديس يوسف في عينطورة عام 1834، فكانت المدرسة الفرنكوفونية الأولى في لبنان، كما أنشئت جامعة القديس يوسف عام 1975. واليوم يتلقى نصف طلاب لبنان تقريباً، أي ما يعادل 500 ألف طالب، تعليمهم في مدارس فرنكوفونية، ويعد رقماً ضخماً لا يمكن الاستخفاف به. لذلك، تستمر اللغة الفرنسية كعنصر أساس في تركيبة الهوية اللبنانية. وتتساءل سيورتينو "ألا يشكل انتخاب الكاتب اللبناني الشهير أمين معلوف الحائز جائزة غونكور عام 2023، أميناً العام للأكاديمية الفرنسية خير دليل على العلاقة الوطيدة التي تربط بين لبنان وفرنسا؟ حتى إن قرار المنظمة الدولية للفرنكوفونية بافتتاح مركز إقليمي لها في بيروت عام 1993، ليس إلا تأكيداً الوجود البارز للفرنكوفونية في لبنان".

في الأزمة تهديد للثقافة الفرنكوفونية

مما لا شك فيه أنه ثمة تحد في تسهيل عملية الوصول إلى الثقافة الفرنكوفونية والحفاظ عليها. فبطبيعة الحال، على رغم كل المحاولات لحفظ الفرنكوفونية في لبنان والعالم، تواجه تحديات في ظل واقع العولمة واختراقها لفئات الشباب عبر وسائل التواصل الاجتماعي. فلا ينكر أحد واقع أن الثقافة الأنغلوفونية في نمو متسارع في السنوات الأخيرة في لبنان. وهي ظاهرة ملحوظة بين الشباب وليست محصورة في لبنان فحسب، بل في دول عديدة في العالم. هذا ما لا تعتبره سيورتينو واقعاً حتمياً لا مفر منه. فاللغات ليست في منافسة، بل تكمل بعضها. كما تشكل كل لغة محكية وسيلة مختلفة لخوض تجارب الحياة، فتفتح آفاقاً جديدة يمكن استكشافها.

في المقابل منذ بداية الأزمة في لبنان أصبح الحفاظ على الثقافة الفرنكوفونية في غاية الصعوبة نتيجة ارتفاع معدلات الفقر في المجتمع اللبناني وإقفال مؤسسات تربوية عديدة في البلاد بسبب ضعف الإمكانات المادية. انطلاقاً من ذلك، حرصت السفارة الفرنسية والمركز الفرنسي في لبنان منذ أسابيع عدة على إطلاق مشروع بعنوان (Bibli’oh) حرصاً على نشر الثقافة الفرنكوفونية على نطاق أوسع، بالتعاون مع ثلاث مكتبات كبرى في لبنان. يتيح هذا المشروع إعادة إصدار مجموعة من 200 ألف عمل أدبي فرنسي محلياً بأسعار مخفضة بالتعاون مع دور نشر فرنسية، لجعلها في متناول للجميع. وهي من الكتب الخاصة بالشباب لتسهيل وصول الشباب اللبناني إلى الأدب الفرنسي. وفي مواكبة لتطورات العصر، تم إغناء هذه الأعمال بمحتوى رقمي مع بودكاست، وكتب مسموعة، ومقابلات مع المؤلفين الفرنسيين، لتزويد المطالعة باللغة الفرنسية بمذاق خاص من سن مبكرة.

ينطق أكثر من 320 مليون شخص حول العالم في مختلف القارات باللغة الفرنسية، إذ تعد اللغة الخامسة بعد اللغة المندرينية والإنجليزية والإسبانية والعربية. بالتالي تعدها سيورتينو لغة "العولمة "بامتياز. كما أن إتقان اللغة الفرنسية هو خيار واعد للمستقبل لاعتباره يفتح آفاقاً جديدة في المجال المهني، وهو عنصر أساس للدمج في العالم الوظيفي. 

أما الفرنكوفونية فهي عبارة عن مبادئ وقيم وثقافة تحفز على التواصل، إضافة إلى كونها فن للعيش. كما أنها مصدر للإبداع. 

تقول سيورتينو "هذا التنوع والغنى هو تحديداً ما نحرص على الحفاظ عليه بشتى الطرق، من خلال أنشطة عديدة كتلك التي ينظمها المركز الفرنسي في العالم وفي لبنان. فيجب ألا تحصر اللغة الفرنسية في ذاكرة الأجيال بقواعد اللغة الصعبة والمعقدة، بل المطلوب أن نحييها بطرق عملية ومنطقية من خلال الرياضة والموسيقى والسينما والأدب والعروض الحية. وكافة البرامج التي نقدمها هي مجانية على كافة الأراضي اللبنانية ما يجعلها متاحة لجميع اللبنانيين. في كل الحالات، نعود ونؤكد أن مستقبل الفرنكوفونية في لبنان والعالم يرتبط بتعدد اللغات والثقافات بصورة يجعل من كل فرد مواطناً من العالم، ليكون جسراً بين الثقافات المتعددة. لذلك، يشكل التعاون مع الجامعات والمدارس على الأرض جزءاً أساسياً من أنشطة المركز الفرنسي، مع مرافقة لمجموعة المدارس الرسمية والخاصة التي تتبع المنهج الفرنسي وتلك التي تتبع المنهج اللبناني، لتعزيز مستوى اللغة لدى الطلاب وإمكاناتهم وتطوير قدرات الأساتذة في هذا المجال، ومع تحول في الوسائل التربوية لمواكبة التطور الحاصل في عالم اليوم بهدف زيادة جاذبية المؤسسات التربوية التابعة له. فحالياً، ثمة تحدٍ كبير يواجه قطاع التربية ألا وهو الحفاظ على جودة التعليم ومستوى الأساتذة، بما أن كثراً منهم اختاروا مغادرة البلاد في ظل الأزمة". 

ولعل تشجيع المدارس والجامعات الأنغلوفونية المنهج على تعزيز التعليم باللغة الفرنسية لديها، من الاستراتيجيات الأساس التي تساعد على الحفاظ على الثقافة الفرنكوفونية. هي استراتيجية تعليم أساس اليوم للغات الثلاث. 

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير