Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

آمنة ناصر الدين تحمل نسائم الجنوب إلى اللغة الفرنسية

ديوانها "رقصة شجرة التين" فاز بجائزة شاعر كندا وفيه تواجه المنفى بالطفولة والأمومة

شجرة التين بريشة هوغ فوللوب  (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

ديوانها "رقصة شجرة #التين" فاز بجائزة شاعر #كندا وفيه تواجه المنفى بالطفولة والأمومة

اختارت الشاعرة آمنة ناصر الدين، الفرنسية لغة تعبير في ما يشبه الخيار القدري، فهي لبنانية، بل جنوبية من قرية النميرية، لكنها ولدت في فرنسا، ثم انتقلت إلى مونريال، بعد أن عاشت فترة في لبنان، لم تخولها تعلم العربية قراءة وكتابة، لكن ديوانها الصادر بالفرنسية "رقصة شجرة التين" (دار ميمور دانكر أو "ذاكرة الحبر" – مونريال)، والذي فاز بجائزة إميل نيلليغن، وهو أكبر شاعر كندي فرنكوفوني، يفيض بروح لبنانية جنوبية، وتحمل قصائدها أبعاداً غنائية، ريفية ومتوسطية، حتى بدت الشاعرة وكأنها تنقل نسائم أرض الجنوب إلى قلب اللغة الفرنسية. أما العنوان "رقصة شجرة التين" فيسترجع مشاهد من عمق الذاكرة الطفولية للشاعرة، فيها من الحبور الشفيف ما فيها من الأسى البريء. فالذكريات الأولى هنا ارتبطت كثيراً برحيل الأم وجنازتها، على رغم اتكائها أيضاً على فكرة العائلة، المتجلية في صورة الجدة وبناتها وأبنائها، وفي طقوس الريف التي تفيض جمالاً ودهشة.

وفي مفتتح الديوان تقول الشاعرة إن أمها توفيت عام 2017 في قرية النميرية الجنوبية، وإن جنازتها كانت على صورة أمها، أشبه بـ"مسرح عبثي". وتعترف ببراءة تامة، "ضحكت كثيراً قبل أن أغرق بالصمت بالقرب من جدتي"، ثم في جو هذا الحزن، تبحث عن آثار طفولتها، فتكتشف أن شجرة التين التي كانت ترقص حولها مع رفيقاتها الصغيرات، قد قطعت. فلم تعرف أين تذهب، "وفي وسط هذا الحزن الذي عرفته بجسدي، قررت أن أهرب بلا ظل". وتقول، "رحت أكتب لأبني منزلاً. لأخيم فوق كل الآفاق. ولأتوارى بين سماء وأم. مع جدتي التي تحمل ذاكرتنا، في ظل شجرة التين التي تواصل رقصها". وكما يتحدث الألماني هلدرلن حول الإقامة الشعرية على هذه الأرض، تقول الشاعرة، "في الشعر، وجدت إمكان السكن في مكان".

الملاذ الآمن

 

الشعر إذاً هو الملاذ الآمن، هو المنطلق والمآل، هو الذكريات المستعادة، هو الموت والقيامة من الموت، هو الطفولة وأرض الطفولة وأرض الأم والجدة... تقول آمنة، "بماذا يفكر أولئك الذين لا يقرأون الشعر؟"، ثم تقول، "أبحث عن شعر ملؤه الرقة والمرارة/ أرتديه مثل جلد الريح/ لأرافق طفلة عجوزاً في المئة من عمرها/ تتهيأ كي تولد". هنا لا بد من تذكر بودلير الذي قال في ما يشبه تراجيديا الزمن، "لديَّ من الذكريات وكأن عمري ألف عام". المئة والألف يجمتعان ليؤكدا وطأة الذكريات التي تتحول لدى الشاعر والشاعرة إلى حقيقة وكينونة.

كتبت آمنة ناصر الدين قصيدة طويلة قسمتها إلى ثلاث قصائد، أو بالأحرى جعلتها في مداخل ثلاثة: الجدة (أم ماجد)، وفدوى الأم، وأمنة الابنة، لكن الثلاث هنا يبدون كأنهن امرأة واحدة كما تعبر، "كنا الواحدة الأخرى/ الابنة الأم/ الأم الابنة". وتختار صفة "الأم شجاعة" من عنوان مسرحية برتولد بريخت لتلقيها على الجدة والأم. وفي سياق آخر تقول، "إنني ابنة الابنة/ وعليَّ أنا أن أعزي/ عليَّ أنا أن أحمل الأزهار/ أن أحمل السماوات".

ولئن كانت أوصتها أمها بأن تكتب حكايتها فهي تستهلها قائلة، "هكذا تبدأ حكايتي/ جدتي تهيئ الشاي للغريب...". الجدة هي المنطلق، الجدة التي هي "حارسة البلاد"، القادرة على قطف "الظل الذي يتمدد على العتبة". الجدة التي ما برحت تخاف الأعداء "الطامعين بالجنوب"، وفي ظنها أنهم لم ينسحبوا، مع أنهم انسحبوا، وما زالت توصي الحفيدة بعدم الذهاب "أبعد من شجرة التوت"، حيث جحيم الحرب. إنها الجدة الجنوبية بحق، التي تتلمس ورق التبغ، وتنقي العدس، و"تحوش" السماق والزعتر، وتربي النحل، وتتذوق ماء الزهر... وتقلب فنجان القهوة لـ"تبصر" قارئة التفل والبن. الجدة التي ما برحت "تبكي حتى الآن/ الرجل الذي جعلها امرأة في الثالثة عشرة من عمرها/ تسكب دموع حب وعطف... تبكيه كما لو أنها تبكي أباها". فهو حقاً زوجها وأبوها، لكنها تؤدي مع أبنائها دور الأم القوية والصلبة مخاطبة إياهم، "يا أولادي لا ترحلوا/ سنعيش كفافنا/ لا تنسوا أشجار التين"، ثم تسميهم واحداً تلو آخر أو واحدة تلو أخرى: ماجد الذي سميت باسمه "أم ماجد" قائلة، "أنا أم ماجد التي حرمت من اسمها/ لست أماً إلا من خلالك يا ماجد". وتتوالى الأسماء: ربيع، وصال، زاهر، علي، بثينة، محمد، ماجدة، منى، شريفة، فاطمة، فدوى. وفدوى التي هي أم آمنة تصفها بـ"المضحية بنفسها/ امرأة الحكاية وضيفة الشعر". ولا تنسى الحفيدة التي تخاطبها بحرارة، "لا يمكن أن تعيشي وحيدة/ يلزمك رجل ليبني سقفاً/ يلزمك أطفال من أجل الشيخوخة".

 

الباب الثاني من الديوان الذي يحمل اسمه فدوى (الأم) تفتتحه الشاعرة آمنة ناصر الدين افتتاحاً جنائزياً، مستعيدة مشهد الأم، ميتة بالجسد وليس بالروح، فتقول، "رأيت الجسد الميت/ هنا يتوقف الزمن/ الطفلة ترى، ثم فجأة يهرم جلد الميت كما منذ قرون". عادة ما يتوقف الزمن في لحظات الحب القصوى أو الفرح الكبير، لكنه توقف هنا تراجيدياً، في لحظة موت جسد الأم. وفي هذا الانفصال القدري، هذا الصمت الرهيب يهرم "جلد الميت". لقد أفقدها الموت رونق جلدها ورقته بصفته جلد الأم، لكن الطفلة التي هي الشاعرة سرعان ما استعادت طفولتها أمام مشهد موت الأم سائلة، "ماذا يفعلون بالجسد الميت؟"، سؤال طفولي، ولكن مؤلم وغامض ووجودي. وفي الجو الجنائزي تواصل الشاعرة مخاطبة أمها، مستغربة ما يحصل، "رحلت غداة عاشوراء/ رفعت الصلوات/ ولكن لم يلفظ اسمك/ من تراهم هؤلاء الذين يبكون اليوم؟/ أنظر إلى الأسمنت يجف/ والركام غير الصلب/ أختي وأنا نترك الموكب/ مرددتين اسمك". وتواصل وصف المشهد الجنائزي بنظرة فيها من السخرية السوداء، كما فيها من الحزن والألم، "وصلت النائحات/ سألن عن اسم المتوفاة/ أخي وأنا ضحكنا يا أمي/ من هؤلاء النسوة اللاتي لم يشربن قهوتك عند الصباح/ ولم يرين قامتك السابقة؟".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبعد الجنازة والغياب والفراغ الأليم الذي يتركه الموت الفاجع، يلوح بيرق الحداد المضني، "الأسود ثقيل كي أرتديه/ ولكن/ على خلاف العالم/ جعلت نفسي جميلة من أجلك/ وجفناي جعلت لهما ألوان البحر". لا يليق الحداد والثياب السود بامرأة جميلة هي الأم، الأم التي تتحول إلى نجمة أو سماء منجمة، "أمي تنجم/ لا تني تنجم، من غير أن تنظر إلى الوراء". إنها أيضاً الأم التي "تحمل السماء/ بكلتا يديها". وفي ختام فصل الأم "فدوى" التي "لم تتكلم بتاتاً"، والتي "يلفها الصمت"، و"لا تستطيع العيش قرب الكلمات"، والتي كانت لتقول لابنتها، "اجعليني جميلة في حكاياتك"، تخاطبها الابنة قائلة، "سأجعلك قمراً/ سأجعلك امرأة مقدسة/ أنتِ المستلقية على جذع شجرة التين الأخيرة".

المنفى البارد

تفتتح الشاعرة الفصل الذي يحمل اسمها "أمنة" قائلة، "أروض المنفى"، مما يشير إلى أن قضية الاغتراب عن وطنها تمثل حال صراع مع وجود طارئ على كيانها. المنفى شرس ويحتاج إلى الترويض. وقد يكون الشعر واستعادة الماضي وإحياء الطفولة هي العناصر التي يمكن الشاعرة اعتمادها لترويض هذا المنفى، علماً أن الشاعرة ولدت في باريس، وعاشت فترة في لبنان، وتقيم الآن بين باريس ومونريال. ومع أنها رحلت بحسب "قانون الريح" فهي لمست أن الريح خانتها، فهنا "الأزهار لها أسماء لا تلفظ/ هنا لا زعتر برياً عند الصباح"، وحتى "الثلج هنا لا ينتمي إليَّ"، بل هي تسعل ذاكرتها وتضحك "من البرد المجنون". والمقتلعون من جذورهم كما تعبر، "ليس لهم سوى اللاأمكنة"، ولكن لا بد من التذكار الذي هو جوهر الشعر، "كانت لي حديقة تملؤها أزهار الخزامى/ شجيرات الورد والليلك معاً"، لكن الشاعرة تظل تنتظر الريح، "أنتظر الريح/ رقصة شجرة التين/ وثلمة الزمن". كل هذه العناصر تمثل المكان الأول الحاضر دائماً، على رغم البعاد، بل على رغم الإقامة في اللامكان الذي هو المنفى.

وتؤكد الشاعرة أن "لهجة القرية لا نفقدها البتة"، وكذلك "الجذور الفلاحية". وتعترف أن "مونريال بيضاء/ وبيروت تغرف الأحمر حتى اللانهاية/ إنني رحلت لأعود أفضل/ هجرت بلادي، ولن أندم". وبين بياض مونريال وبردها واحمرار بيروت الدموي، لا بد من اختيار هو اللااختيار نفسه، بل هو الحيرة الوجودية نفسها، لكنها لا تخفي حنينها المستعر إلى الشرق والمتوسط، "عندما يساوركم الشك/ اركضوا دوماً صوب الشرق هناك حيث تبيت العصافير/ هناك حيث ولد أبي... اجلسوا تحت أشجار التين/ تأملوا رقصاتها". وفي مقطع معبر من القصيدة تقول بحرقة وشجو، "لا هم من كان على حق/ لم أخن أحداً، لم أخن الجبل/ ولا شجرات الرمان/ ما زلت الفتاة التي تقلب فنجان القهوة/ لتبصر ما سيحصل غداً/ لم أنسَ الرموز/ ولا اليمامة/ ولا حرف الميم/ ميم محمد/ الأب الحامل الرسالة".

تعتمد الشاعرة آمنة ناصر الدين لغة شديدة العذوبة، رقيقة الحواشي، سلسة، ذات بعد غنائي، تملؤها ظلال المكان الأول الذي هو الجنوب وأطياف أشجاره ونسائمه العطرة. وما يفاجئ هو قدرة الشاعرة على نقل الأجواء الريفية الصافية إلى اللغة الفرنسية من غير أن تقع بتاتاً في الأسلوبية العربية، فهي ابنة اللغة الفرنسية مثلما هي ابنة القرية الجنوبية وسليلة الذكريات المحفورة في تربة شجرة التين التي ستظل ترقص في الشعر إلى اللانهاية، "ثمة أبدية/ ثمة أيام لا بد من أن تولد".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة