Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"لا تعتذر عما فعلت" من محمود درويش إلى عنوان فيلم إنجليزي

مالكولم ماكدويل يقوم بزيارة شديدة الخصوصية لليندسي أندرسون في نوع من التحية لمن أطلقه

ليندسي أندرسون (1923 – 1994) (موقع غيتي)

"لا تعتذر عما فعلت": من المرجح أن تلك العبارة التي تعد اليوم من أشهر العبارات المأثورة التي انطلقت من قصيدة لمحمود درويش لتصب كنوع من التلخيص لمشروعه الشعري والنضالي الطويل، خطرت كثيراً في ذهن الشاعر الفلسطيني الكبير في وقت كان البعض يطالبه بأن "يعتذر" عن قصيدة سنواته الأخيرة الأشهر "عابرون في مكان عابر" باعتبار كلماتها تحمل قدراً ما من العداء للسامية، وربما منهم على وجه الخصوص مواطنه ورفيق نضاله بشكل ما إميل حبيبي الذي كان قد "اعتذر" عنه في مقال نشره باللغة العبرية "يؤكد" فيه أن "درويش لم يكن ليقصد ذلك في قصيدته". طبعاً ليس هذا موضوع زاويتنا هنا، ولكن الموضوع هو مصير تلك المقولة التي صارت مع الوقت قولاً مأثوراً.

وهي صارت كذلك إلى درجة أن السينمائي الأميركي مايك كابلان استخدمها في عام 2007 عنواناً لافتاً لفيلم تسجيلي حققه عن السينمائي الإنجليزي ليندسي أندرسون. وسيقول لاحقاً إن من همس له بالمقولة إنما كان الممثل الإنجليزي بدوره مالكولم ماكدويل الذي كان، ومنذ سنوات، قد جعل من "لا تعتذر عما فعلت" شعاراً له في حياته. أما العنوان الكامل للفيلم الذي جمع كابلان وماكدويل معاً فهو "لا تعتذر عما فعلت: زيارة شخصية لليندسي أندرسون". وهنا لكيلا تبدو الأمور غامضة ومربكة لا بد أننا ندين للقارئ بشرح يضعه على تماس مباشر مع الموضوع الذي لا علاقة له أصلاً بفلسطين ولا بمحمود درويش حتى وإن كان يوحي بذلك منذ العنوان.

 

واحد من مؤسسين كبار

فليندسي أندرسون هو بالتحديد المخرج السينمائي الإنجليزي الذي إن لم يكن مؤسس تيار السينما الحرة الإنجليزي في نهايات سنوات الخمسينيات وبداية الستينيات، فإنه على أية حال واحد من المؤسسين إلى جانب طوني ريتشاردسون وريتشارد ليستير وكارل رايس وغيرهم من السينمائيين الذي أتوا إلى السينما بعدما كانوا على علاقة وثيقة بتيار مسرح الغضب، وسيكون من ورثتهم كين لوتش ومايك لي وستيفن فريز وغيرهم من الذين أسسوا من بعدهم كل تلك الحداثة السينمائية البريطانية التي عرفناها في المراحل التالية.

تكريم فنان استثنائي

ومن هنا لا شك أن إقدام مايك كابلان على تحقيق ذلك الفيلم الذي يستغرق عرضه نحو ساعتين كان نوعاً من التكريم لأندرسون. لكنه كان تكريماً مزدوجاً إذ شاركه في كتابة نص الفيلم نجم تلك المرحلة، الممثل الكبير مالكولم ماكدويل الذي كان أندرسون أول من أعطاه دور البطولة السينمائية وذلك في فيلمه الأشهر "لو أن..." (1968) الذي أوصله في ركاب الفيلم إلى جائزة "السعفة الذهبية" في مهرجان "كان" السينمائي، عام 1969 أي العام نفسه الذي فازت فيه فانيسا رديغريف، زوجة مخرج كبير آخر من مخرجي التيار نفسه، طوني ريتشاردسون، بجائزة التمثيل عن فيلم "إيزادورا دانكن" من إخراج ريتشارد ليستر المعتبر الركن الثالث من أركان سينمائيي ذلك التيار نفسه. ومن هنا لم يكن غريباً من ناحية أن يعد ذلك العام عام الذروة في تاريخ السينما الحرة البريطانية، ومن ناحية ثانية، العام الذي ركز عليه مايك كابلان ومالكولم ماكدويل في السرد المتعلق بفيلم "لا تعتذر عما فعلت".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حضور كبيرة الفنانات المناضلات

بل أكثر من ذلك لا شك أن وجود فانيسا رديغريف في خلفية الحكاية كلها يجعل من الطبيعي القول إن التذكير بمقولة محمود دروش، بعد سنوات من رحيل هذا الأخير، لا يمكن اعتباره صدفة. لا شك أيضاً أنه أمر تعمده ماكدويل الذي كان ولا يزال يصنف في خط التقدم والدفاع عن القضايا العادلة في السينما والمسرح كما في الحياة العامة بعد أن وجد نفسه يدافع عن تلك القضايا على الشاشة (ولنتذكر هنا عدداً من أدواره الكبرى ولا سيما منها دور أليكس ديلارج، "شرير" فيلم "البرتقال الآلي" لستانلي كوبريك).

والمهم هنا هو أن الفكرة ولدت مع بداية الربع الأول للقرن الجديد لدى المخرج والنجم فكتبا نص "لا تعتذر عما فعلت" ليحولاه فيلماً عن صديق كما عن مرحلة وفكرة وتيار سينمائي ولد في عصر ذهبي، وربما كمنت أزمة السويس وفشل العدوان الثلاثي (البريطاني - الفرنسي - الإسرائيلي) على مصر عام 1956 في خلفية ولادته ما يستكمل فكرة لا ريب أنها ستكون في ذهن متفرج الفيلم حين عرضه.

ومع ذلك لا بد أن نعود إلى التأكيد هنا على مهارة ماكدويل في إصراره على سينمائية الفيلم، مستخدماً في نوع من الأداء الذي يملك هو سره، أسلوب حكي يجمع بين حميمية "الحكاية" انطلاقاً من أن ما أراد التعبير عنه، قبل أي شيء آخر، كان الرفقة التي جمعته بأندرسون وتحديداً انطلاقاً من فيلمهما المشترك، "لو أن..."، مستخدماً هذا الأسلوب الهامس تقريباً، باندماج مع فخامة أسلوب مستعارة من أورسون ويلز بصورة مقصودة. ومن المؤكد أن تلك المهارة أسبغت على الفيلم حميمية وتعظيماً كان لا بد لهما أن يعديا المتفرجين معتبرين ماكدويل حكواتياً حقيقياً.

خفايا ويوميات ورسائل

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن ماكدويل في ما راح يرويه خلال ما يقارب ساعتي الفيلم، لم يأت بكل ما حكاه من عنده، وكان في مقدوره أن يفعل ذلك على أية حال، بل اعتمد على مذكرات عدد من أبرز العاملين مع ليندسي أندرسون وفي مقدمتهم المساعد الرئيس له ديفيد شروين، ولكن كذلك على رسائل كان أندرسون يوجهها على شكل مذكرات وتنبيهات بالغة اللطف على رغم قسوتها أحياناً، إلى كبار وصغار العاملين معه، إضافة إلى يوميات مسهبة كان السينمائي يدونها بصورة متواصلة تقريباً. ولعل اللافت فنياً في ذلك كله هو أن مالكولم ماكدويل وصديقه المخرج كابلان توافقا منذ بداية تنفيذهما هذا المشروع على ألا يكون الإطار العام لتقديم ذلك التكريم - التأريخ لليندسي أندرسون على الشاشة بعيداً عما يمكن لماكدويل أن يفعله بأفضل ما يكون. أي يقدم الفيلم بالانطلاق من كونه تكريماً على خشبة مسرحية يقوم خلاله النجم وسط إضاءة مناسبة في غرابتها، بقراءة نصوص ستبدو في نهاية المطاف مرتجلة أكثر منها محضرة سلفاً، مع أنها ليست مرتجلة في نهاية الأمر على أية حال.

والنصوص بقدر ما تقدم صورة متكاملة، وأحياناً مفاجئة لأندرسون، تضعنا على تماس مع عمل ماكدويل نفسه، في "لو أن..." طبعاً، ولكن أيضاً في عمله التالي تحت إدارة أندرسون في أفلام مثل "يا للرجل المحظوظ!" و"ضيافة بريطانية" كممثل رئيس طبعاً، ولكن أيضاً عمله ككاتب، وغالباً في شراكة مع ديفيد شروين أحد المساعدين الدائمين لأندرسون في أفلام مثل "يا للرجل المحظوظ!". ومن هنا اعتبر الفيلم الجديد نوعاً من بورتريه مزدوج لفنانين والعلاقة بينهما، ولكن أيضاً وإلى حد ما، نوعاً من بورتريه جماعي يضم عدداً من نساء من عالم السينما الإنجليزية والأميركية طبعن حياة أندرسون ولكن أيضاً، وكما سيظهر لنا ماكدويل في الفيلم عبر حكايات يرويها هو نفسه ويدخل فيها معلمه في عالم السينما، أي ليندسي أندرسون نفسه بالطبع، طرفاً حتى من دون أن يبدو على هذا الأخير أنه كان طرفاً بالفعل. ومن هؤلاء راشيل روبرتس وجوسلين هربرت وبيت ديفيس، ولكن أيضاً ليليان غيش التي جعلت ماكدويل في حكاياه العاطفية، في نهاية الأمر، يحكي عبارات عابقة بالحنين إلى زمن تلك الفنانة الكبيرة. ولا شك أن هذا كله حول الفيلم إلى نوع من متعة سينمائية نادرة، بل حتى إلى متعة "سينيفيلية" خاصة في القسم الذي خصصه مالكولم ماكدويل في الفيلم للحديث عن تلك العلاقة المميزة التي يروي لنا فيها كيف أن أندرسون أقامها مع سيد أفلام رعاة البقر الأميركية جون فورد خلال السنوات الأخيرة من حياة هذا الأخير، بل أسفرت حتى عن كتاب نادر كتبه السينمائي الإنجليزي عن سلفه الأميركي الكبير يعد عادة من أهم الكتب التي وضعت خارج أميركا عن جون فورد سيد أفلام رعاة البقر والغرب الأميركي.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة