ملخص
للأطفال تجاربهم الخاصة مع السرطان قبل أن يمضوا قدماً ويحققوا أحلامهم بمزيد من العزم والإصرار... فكيف تبدو الحياة بعد تجربة هذا الداء الخبيث في الطفولة؟
يترك مرض السرطان أثراً لدى كل من يصاب به، إذ يشهد كل من يمر بهذه التجربة تغييراً في شخصيته وحياته، وللأطفال أيضاً تجاربهم الخاصة مع المرض، فإذا كانت تداعياته كبيرة إلى هذا الحد على البالغين، فكيف بالأحرى إذا كان المصاب طفلاً؟ إلا أن تجارب الأطفال مع السرطان تؤكد غير ذلك، فيبدو واضحاً أن هذا التغيير قد لا يكون سلبياً دائماً، إذ إن المرض قد يعطيهم دفعاً ليتابعوا مسيرتهم ويحققوا أحلامهم بمزيد من العزم والشغف.
تجربة صعبة
الألم والعزلة والانقطاع عن التعليم والأصدقاء، كلها تفرض على الأطفال في مرحلتي المرض والعلاج.
مر عارف سكرية بتجربة المرض عندما كان في سن الـ16 سنة، وبفضل الوعي الذي كان يتمتع به في مرحلة المراهقة، اكتشف إصابته بنفسه بوجود الورم. وكان ناضجاً بما يكفي ليتقبل فكرة المرض، ويتحمل بصورة جيدة العلاج الكيماوي وبالأشعة، لكن كأي مريض في هذه السن، الصعوبة الكبرى واجهها بعد مرحلة المرض بسبب العزلة والانقطاع عن التعليم، وبعد عامين من العلاج والمرض وجد نفسه عاجزاً عن التأقلم والانخراط مجدداً في المجتمع، "بعد انتهاء فترة العلاج، واجهت صعوبة حتى في الإمساك بالقلم لأنني انقطعت عن التعليم طوال عامين، لكن باللجوء إلى الاختصاصيين اعتدت مجدداً على الحياة الاجتماعية وعلى التعليم تدريجاً".
ولم تشكل فكرة عودة المرض هاجساً لعارف، كما يحصل عادة، لا بل أراد بكل بساطة أن يتابع حياته من حيث توقفت، كأي شاب في مثل سنه. انضم إلى "نادي الأبطال" الناجين من السرطان في مركز سرطان الأطفال في لبنان لتقديم الدعم لمن يمرون بالتجربة نفسها. كانت هذه خطوة أساس ساعدته على تبادل الخبرات مع رفاقه فيه وعلى الخروج من العزلة التي كان يعيش فيها. تعرف إلى أشخاص باتوا أشقاء له يتواصل معهم يومياً، وتحولت العزلة والانطوائية لديه إلى انفتاح، أما خجله فتحول إلى جرأة واندفاع وقوة، وهي عناصر أعطته دفعاً كبيراً في حياته ليشكل مثالاً لمن يمرون الآن في مثل هذه التجربة، كما ساعده ذلك على تقوية شخصيته بعد أن أصبح ناطقاً باسم المرضى ومشجعاً لهم، وتابع تعليمه بعدها وحاز شهادتين جامعيتين.
التحلي بالقوة
صحيح أن عارف يتذكر تلك المرحلة التي لا تخلو من الصعوبة، لكن في الوقت نفسه يذكر أنه كان يتحلى بقوة فاجأت كثيرين. فلا يشك أن الله زوده بالصبر والإيمان ليتخطى هذه المرحلة الصعبة. كان مدركاً أن ما كتبه الله سيحصل، وها هو اليوم يحمد ربه على مرور هذه التجربة بأقل ضرر ممكن من النواحي كافة. فكان يشهد على حالات أكثر صعوبة بكثير لدى من حوله، حتى إن أهله كانوا في غاية القوة والصلابة فدعموه بصورة كبيرة.
اليوم، ينظر عارف إلى المرض على أنه نعمة لأنه أحدث تغييراً كبيراً في حياته، حتى أنه كشف له مجموعة من الأشخاص السلبيين فتبين له أن المشكلة ليست فيه، بل فيهم، من لحظة انتقاله إلى بيروت لتلقي العلاج في فترة المرض، ومن حينها، تغيرت حياته بالكامل واكتشف كماً هائلاً من الطاقات لديه.
كانت تجربة المرض مصدر قوة أيضاً لآية غرز الدين التي اكتشفت إصابتها باللوكيميا (مرض ابيضاض الدم) عندما كانت في عمر الـ14 سنة إثر ظهور أعراض عديدة منها التعب المستمر. تتذكر أنها كانت مرحلة في غاية الصعوبة عليها، ففي لحظة انقلبت حياتها رأساً على عقب، وعاشت أصعب اللحظات لدى فقدانها أصدقاء كانوا يتلقون العلاج وخسروا المعركة. لكن، على رغم العزلة التامة التي فرضها المرض عليها، كانت الأمور أسهل عليها، ففي ظل جائحة "كوفيد-19" كان التعليم من بعد مفروضاً على الجميع، حتى إنها قدمت الاختبارات الرسمية ونجحت ولم يؤثر فيها المرض بوجود جميع الداعمين من حولها.
وإذا بالطب الذي كان حلماً لها من الطفولة يعود ليراودها بمزيد من العزم. فبعد إصابتها بالسرطان صارت أكثر إصراراً على التخصص في مجال الطب لتساعد كل من يحتاج إليها، كما ساعدها الأطباء في مرحلة المرض. لذلك، تنصح كل مريض يمر بالتجربة نفسها بألا يخشى شيئاً، ويتحلى بالإيمان ليواجه المرض بشجاعة، ويتمسك بالحياة.
وها هي اليوم قد تعافت، وازدادت جرأة وقوة، والتغيير الأساس الذي أحدثه المرض فيها هو حرصها على الاستمتاع بكل لحظة في الحياة، فلم تعد تدقق بالتفاصيل كما كانت تفعل، حتى إن القوة التي تمتعت بها في ظل المرض، جعلتها لا تخشى عودته لأنها كانت قوية وبقيت كذلك، لا تخشى شيئاً.
تحديات
تتحدث اليوم شادن بعد مرور عام على اكتشافها مرضها في عمر الـ17 سنة. وقد تم تشخيص المرض لديها بعد تكرار حالة الإنفلونزا في شهر واحد وارتفاع حرارتها إلى درجات عالية بصورة غير اعتيادية. كما أن الكتلة التي ظهرت في عنقها كبرت إلى حد كبير، ولولا اكتشاف المرض في الوقت المناسب، لشلت يدها بالكامل. لم تكن فترة المرض طويلة، بل اقتصرت على أربعة أشهر من العلاج الكيماوي، إلا أنها لم تكن سهلة أيضاً، لكن على رغم التحديات، كان المرض بالنسبة لشادن مصدر قوة، وزادها حساً بالمسؤولية وقوى شخصيتها. وتشعر اليوم بالفخر لأنها استطاعت أن تتغلب على المرض لتكون قدوة لغيرها ممن يمرون بالتجربة نفسها ليتغلبوا على المرض. لا تنكر أن الخوف قد تملكها إلى حد كبير من عودة المرض بعد التعافي، لكنها اتخذت قراراً ألا يقف المرض في وجهها أبداً لتتابع حياتها بصورة طبيعية وتحقق أحلامها كافة. فكانت تعلم أن تحول فكرة المرض إلى هاجس يجعله عائقاً في طريقها، كما في مرحلة المرض عندما حرمها من رؤية أصدقائها وعائلتها. لذلك، قررت أن تعوض كل ما حرمها منه المرض عبر تمضية أجمل الأوقات مع العائلة والأصدقاء، وممارسة الرياضة. ولم يؤخرها المرض عن الدراسة، بل تابعتها في المستشفى مع أستاذها من بعد، وتخصصت في مجال الترجمة.
اليوم، تؤكد شادن أن المرض كان نعمة لأنه زودها بالقوة وساعدها على اكتشاف نقاط قوتها، ولولا ذلك لما اكتشفت قوة شخصيتها. حتى إن الروح المرحة التي تتمتع بها تعززت أكثر بعد على رغم ما ترافق مع فترة المرض من عزلة وتعب وألم. وتذكر أنها آنذاك اختارت ألا تقابل إلا الأشخاص الإيجابيين وهم مصدر قوة، فلا ترى نظرات الشفقة لديهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وجع الأطفال أكبر
بحسب الاختصاصية في المعالجة النفسية في مركز سرطان الأطفال في لبنان ماريا خويري يختلف أثر السرطان على الطفل بحسب سنه، فبالنسبة للطفل الصغير، تقتصر معرفته بالمرض على وجود إبرة وعلاج من دون التفكير بما هو أبعد من ذلك، وهو لا يرى إلا الوجع والعذاب والغثيان من دون أن يفهم ما يحصل معه، وقد يبكي فقط لأن أمه تبكي أمامه. أما مع طفل في نحو عمر السبع أو الثماني سنوات، فهناك حرص على إخباره بكل ما يحصل معه بحسب سنه "من المهم أن يعرف البروتوكولات العلاجية والتفاصيل في مختلف المراحل بما يتناسب مع سنه. ولدى الأطفال هناك خوف من الوجع، كما يزيد إصراره لمعرفة مزيد من التفاصيل لدى من يتمتع بمزيد من الوعي والنضج. فمن هم أكبر سناً قد يفكرون بالموت والمستقبل والتغيرات الناتجة من المرض، وهذا ما يزيد من معدلات الخوف لديهم. هم يفكرون حتى بتأثير المرض والعلاج على شكلهم، خصوصاً بالنسبة للمراهقين. إذ يطرح المراهق أسئلة عما قد يحصل لاحقاً، ولو تم توضيح الأمور له. هو يفكر بالآثار الجانبية وبمرحلة ما بعد العلاج وتأثيراته. وقد يكون أكثر من يفكر باحتمال عودة المرض ويتخوف منه، عندها لا بد من الحرص على الإجابة عن تساؤلاته من دون كذب".
لكن ما هو أشد وطأة على الطفل في أي عمر كان هو العزلة الاجتماعية، بحسب خويري "فهذا ما يجعله أكثر تعلقاً بأمه التي ترافقه وحدها في كثير من الأحيان، فيما يبتعد عن باقي أفراد العائلة والأصدقاء. ومن الممكن أن تزيد الانطوائية حدة بسبب انخفاض مستويات مناعته، فيحرم عندها من الأنشطة المعتادة في مثل سنه كالمدرسة، واللقاءات مع الأصدقاء، والأنشطة. لذلك، بعد التعافي وانتهاء مرحلة المرض والعلاج، ثمة حاجة إلى إعادة تأهيل الطفل عبر تحفيزه للعودة إلى المدرسة وليستعيد علاقاته الاجتماعية".
وتضيف خويري "ما يمكن ملاحظته أن الأهل يكونون غالباً مصدر القوة أو الضعف للطفل. فإما أن يزودوه بالقوة أو يزيدون ضعفه إذا استسلموا للمرض ولم يحرصوا على التركيز على النواحي الاجتماعية والتعليمية والترفيهية بالحد الأدنى، وفي إطار صحي يناسب مرحلة العلاج. ومن المفترض أن يعود، بعد فترة، كأي طفل آخر إلى أنشطته المعتادة، ولا يمكن إبعاده عن هذا الواقع. لذلك، يجب الحرص على العلاجات النفسية والاجتماعية لتسهيل عملية الدمج بعد انتهاء فترة العلاج. لذلك، للأهل دور أساس في الحرص على الحياة الاجتماعية للطفل على رغم الألم والمرض. وإذا كان الأهل أكثر ميلاً إلى الاكتئاب ينعكس ذلك على الحالة النفسية للطفل. أما بانفتاحهم فيشجعونه على الأنشطة وعلى تسهيل الدمج لاحقاً".
مرحلة صعبة
سواء خلال فترة المرض أو بعده تعد مرحلة صعبة يمر بها الطفل وأهله، خصوصاً في بدايتها لدى الانقطاع عن الجميع خلال أسابيع أحياناً، مع كل ما يرافق ذلك من ألم وتعب. إضافة إلى أفكار الموت والقلق التي قد ترافق المراهق. ومما لا شك فيه أن هاجس عودة المرض ترافق المراهق بصورة خاصة بعد التعافي، لكن بحسب خويري "قد لا يخشى الطفل المرض إذا أصابه مرة، لكن يخشى ذلك بصورة خاصة إذا تكررت التجربة، وهذا ما يحصل أحياناً، فهو يخشى عودة التجربة بما فيها من عزلة وأوجاع سبق أن اختبرها، فتكون أشد وطأة وصعوبة. لذلك تكون عودة المرض صعبة جداً عليه لأنه يستعيد المراحل الصعبة. ومن المرضى من يفقدون الأمل ويغرقون باليأس عندها، وتكون لديهم نقمة على الحياة مع فترة علاج جديدة، بكل ما فيها من تداعيات".
لكن بمجرد مرور مدة خمس سنوات من التعافي، يعود الطفل إلى الحياة الطبيعية، ويزول القلق، ويصبح في بر الأمان لأنه نادراً ما يعود المرض بعدها. يزول القلق ويخف الخوف تدريجاً. أما الشباب المتعافون فيشكلون صورة إيجابية للمرضى في فترة المرض والعلاج، ويكونون خير مثال على القدرة على الانتصار على المرض، هم قدوة لآخرين، وبقدر ما تكون شخصيتهم قوية يكونون مثالاً أفضل، لكن بصورة عامة ينقسم من مروا بالتجربة إلى قسمين، منهم من يتركون الجرح الذي يخلفه العلاج ليذكرهم بأنهم انتصروا على المرض بعد التعافي، ومنهم من يفضلون اللجوء إلى التجميل لإزالته لأنهم لا يريدون أي أثر منه.