Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

قصيدة النثر السودانية فتحت أبواب التجريب الإبداعي

"التي تشغل بال النجوم" أول مختارات تلقي الضوء على التجارب المتنوعة التي خاضت مغامرة التحديث

مشهد شعري سوداني بريشة محمد أحمد شبرين (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

صدرت حديثاً "أنثولوجيا قصيدة النثر في السودان" التي أعدها الشاعر والكاتب السوداني أنس مصطفى تحت عنوان "التي تشغل بال النجوم"، وهي تجمع شتات قصائد النثر السودانية لعشرات الشعراء والشاعرات منذ أكثر من 60 عاماً. وإضافة إلى قيمة الأنثولوجيا وأهميتها التوثيقية، فإنها تتضمن مقدمة بحثية مثمرة تلقي الضوء على ملامح الشعر السوداني الحديث، والتجارب المتنوعة والوجوه المتعددة التي خاضت مغامرة قصيدة النثر في السودان.

يندر أن تأخذ الأنثولوجيات أو المختارات الشعرية طابعاً حصرياً أو شمولياً، إذ تلتزم عادة بمسماها الذي يعني المختارات الدالة أو المقتطفات التمثيلية المنتقاة للتعبير عن ظاهرة مشتركة أو ثيمة معينة أو موضوع محدد. ولأن قصيدة النثر العربية لا تزال في عمومها حديثة العهد نسبياً، قياساً بالأنساق الشعرية الأخرى الشائعة منذ القدم، فإن صدور أنثولوجيا لقصيدة النثر في بلد عربي قد يوحي على نحو مسبق بأنها ستكون أنثولوجيا إشارية وموجزة وتكتفي ببعض الأسماء القليلة الفاعلة والنزر اليسير من نماذج القصائد النثرية المؤثرة.

ولكن الذي أراده الشاعر والكاتب السوداني أنس مصطفى بإعداده "أنثولوجيا قصيدة النثر في السودان" الصادرة حديثاً بعنوان "التي تشغل بال النجوم"، هو ارتياد المسلك الأصعب، إذ أقدم على فعل بحثي عميق وعمل توثيقي ضخم، أسفر في النهاية عن إثبات عدد كبير من قصائد النثر لـ72 شاعراً وشاعرة من السودان من أجيال مختلفة، في ما يزيد على 550 صفحة.

ولعل صاحب هذه الأنثولوجيا المهمة، التي صمم غلافها الفنان معتز مختار، يضع أمامه هدفاً آخر يتجاوز به صفة الكتاب/ المرآة الذي يعكس الظاهرة، فهو يطمح صراحة إلى الريادة والموسوعية في تقصي وجوه قصيدة النثر السودانية المتنوعة على مدار 60 عاماً أو أكثر، ويشير إلى ذلك بوضوح في مقدمة الأنثولوجيا "يقدم هذا الكتاب مختارات من قصيدة النثر في السودان منذ ستينيات القرن الماضي وحتى الآن، ويمكن النظر إليه كأول أنثولوجيا شعرية اشتغلت حصراً عى قصيدة النثر في كراستها السودانية".

السياق التاريخي

وعلى رغم أن الأنثولوجيا مخصصة بالكامل لقصيدة النثر السودانية منذ إرهاصاتها الأولى حتى اللحظة الراهنة، فإن أنس مصطفى يفتح مقدمته البحثية على السياق التاريخي الذي شهد مراحل تطور الشعر السوداني الحديث بصفة عامة، منذ مطلع القرن الـ20. وقد بدأ هذا الحراك الشعري بظهور الإحيائيين الكلاسيكيين، وعلى رأسهم محمد سعيد العباسي (1881-1963). ثم ظهرت في مرحلة تالية دعوة إلى الشعر الحر غير الملتزم بقيود موسيقية على يد الأمين علي مدني (1900-1926)، وأعقبتها حركة شعر التفعلية بروادها البارزين والأسماء المرموقة من قبيل عبدالله الطيب (1921-2003)، وتاج السر الحسن (1935-2013)، ومحمد الفيتوري (1936-2015)، وغيرهم.

ثم تأتي محطات قصيدة النثر، التي يفرد لها الباحث في مقدمته مجالاً أوسع بطبيعة الحال. ولم يكن لشعراء الستينيات انشغال كبير بقصيدة النثر، التي ظهرت على استحياء في هذا العقد. وتفجرت قصيدة النثر على نحو أوسع في السبعينيات كتغيير جذري في مفهوم الشعر، إذ "حررته من الوزن والقافية، وأسست أفقاً شعرياً شاسعاً ومتجدداً وبالغ التنوع من حيث البناء والإيقاع والثيمات الشعرية وخلق استعارات جديدة".

وظهرت خلال حقبة السبعينيات "جماعة الغجر الشعرية" التي أسسها الشعراء محجوب كبلو وسامي يوسف ومحمد عثمان عبدالنبي وجسدت الحرية الشعرية والانحياز الاجتماعي للمهمشين، وقد "كانت قصيدة النثر خيار الجماعة المفاهيمي والجمالي". وشهدت الحقبة ذاتها انتصارات أخرى لقصيدة النثر، منها صدور كتاب "قصائد برمائية" للشاعر التجاني سعيد عام 1975 كأول كتاب قصيدة نثر سوداني مطبوع. كما رسخت أسماء أخرى قصيدة النثر الوليدة، من قبيل أسامة عبدالرحيم، وعلي المك. وشهدت قصيدة النثر على أيدي هؤلاء جميعاً انزياحاً وتجريباً في هيكل النص الشعري وثيماته وصوره وأخيلته. أما حقبة الثمانينيات، فشهدت "اتساع كتابة قصيدة النثر، وبروزها كتيار ناهض يخرج من خفوت الهامش الشعري إلى متن الكتابة، كتابة بأجنحة تحررت من الأيديولوجي واحتفت بالجمالي وبفردية الشاعر".

التبويب الأبجدي

أما مرحلة قصيدة النثر الحقيقية في السودان فيمكن اعتبارها فترة تسعينيات القرن الماضي والألفية الثالثة. ويبني أنس مصطفى افتراضه هذا على أدلة وشواهد عدة، إذ "كتبت جل نصوص هذه الفترة شعراً نثرياً، وبدت النصوص أكثر مغامرة من حيث المفردة الشعرية، المجاز والثيمات. وبدا هذا الجيل أكثر رغبة في خلق لغة جديدة داخل اللغة، كما أنه الأكثر تبايناً في التجارب الشعرية. ويمكن اعتبار الكتابة العابرة للأجناس الأدبية والتساؤلات الوجودية من الثيمات الغالبة، كما تميزت هذه الكتابات بمجازات لا تنهض على موروث لغوي، بل تخلق تعابير بلا قرائن تراثية، رغبة في الإدهاش والتجاوز". وتميزت قصائد هؤلاء الشعراء الجدد بذاتية الكتابة، فالشاعر يكتب عن ذاته، كتابة يوثق بها تجربته في الحياة، ويعبر بها عن موقفه من العالم.

لقد تحرت المقدمة التنظيرية لـ"أنثولوجيا قصيدة النثر في السودان" المعيار الزمني، للحديث عن أجيال قصيدة النثر المتتالية، وتبيان أدوارهم تجاه هذه القصيدة الجديدة على هذا النحو: الستينيات (النشأة والتأسيس)، السبعينيات (التفجر والترسيخ)، الثمانينيات (التمدد والاتساع)، التسعينيات والألفية الثالثة (التحقق والسيادة)، ولكن الأنثولوجيا ذاتها في تبويبها وفهرستها للشعراء والشاعرات وقصائدهم المدرجة في صفحاتها، لم تلجأ إلى الجيل الزمني أو توقيت كتابة النص الشعري، وإنما توخت التبويب الأبجدي الألفبائي، إذ تبدأ بالشاعر إبراهيم البكري، ويليه أحمد الرمادي، فأحمد النشادر، وهكذا، إلى أن تنتهي بالشاعرة وفاء صالح (الـ71 في الترتيب)، ويليها الشاعر الأخير يوسف الحبوب (الـ72).

ظواهر منفلتة

وعلى رغم ازدحام الأسماء والنصوص في الأنثولوجيا السودانية الكبيرة، فإن انتقاءات النماذج المنشورة تمت بعناية، ولم تأت اعتباطاً أو لمجرد التوثيق المحايد والادعاء بإثبات الجميع من دون إقصاء. وقد روعي في القصائد القليلة التي تمثل كل شاعر وشاعرة أن تكون مختاراته بمثابة بصمته المميزة، التي تترجم هويته الشعرية المستقلة، وتبرز خصوصيته، وملامح تجربته المختلفة عن شعراء قصيدة النثر الآخرين. ويأتي ذلك على اعتبار أن قصيدة النثر هي قصيدة فردية في الأساس، وإن كانت هناك تمظهرات مشتركة تندرج تحت خطوطها العريضة قصيدة النثر السودانية، وقصيدة النثر العربية بصورة عامة، كلون أدبي مختلف عن الأنساق الشعرية السابقة، وهي تلك التمظهرات الهيكلية لقصيدة النثر، التي عرجت مقدمة الأنثولوجيا الشعرية على معظمها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتتجلى في "أنثولوجيا قصيدة النثر في السودان" ظواهر وشواهد كثيرة للتجديد والاختلاف والانفلات لدى الشعراء والشاعرات، الذين فتحوا بنصوصهم الطليعية أبواب التجريب والمغامرات الإبداعية، وذهبوا بالرؤية وباللغة إلى فضاءات التهشيم والتشظي، واقتناص المعاني المخاتلة، واجتثاث الكلمات من قاموسيتها، والتحريض على التحرر من كل الثوابت. يقول أحمد محمد إبراهيم "أيها المسجون فيك، بين جدران اسمك، الذي رماك فيه حكم الآباء والأجداد: كيف الخلاص، من صخب النداءات الخفية؟!".

وقد وقع الاختيار على عبارة شعرية دالة "التي تشغل بال النجوم" لدى أحد هؤلاء الشعراء، لتصير عنواناً للأنثولوجيا الشعرية السودانية كلها. ففي قصيدته "مساء مشغول بالمطر"، يتحدث الشاعر عصام عيسى رجب (1963-) عن تلك القصائد العارية الحبر "التي تشغل بال النجوم" وتنتظر تحت الشجرة، وهي التي اتخذتها الأنثولوجيا مثالاً لقصيدة النثر المتوهجة بذاتها، والمتجردة من زينتها الخارجية، وحليها الاصطناعية.

وتستوعب الأنثولوجيا باصطبار وأناة أحدث تيارات قصيدة النثر من شباب الجيل الحالي، من أمثال حاتم الكناني، وعمر الصادق، ومرام علي، وأحمد الرمادي، ووفاء صالح، الذين وصلوا بالقصيدة إلى مرافئ أكثر قرباً من المتلقي، على رغم كسرها أفق التوقع الاعتيادي.

ويمتلك شعراء هذا الجيل الوعي بطبيعة ما يكتبونه من نصوص مغايرة، ويدركون جيداً تفاصيل التحديات والمعارك التي خاضتها قصيدة النثر عبر عشرات السنوات من تاريخها لتحرر الشعر واللغة في آن، وتكسب صداقة القارئ الذي تشاركه بساطته وحيرته وتشرذمه وتشتته وضياعه. يقول أحمد الرمادي "آه لولا الشعر، لكانت اللغة الآن تتسول"، وتقول مرام علي "أنا أشبهك، لأنني عادية وأنت كذلك، تحب شاي أمك، وتتغطى بثوبها، ثم تستطيع النوم"، وتقول وفاء صالح "الضائعون مثلي أحرار، لا وجهة، لا خريطة، لا حلم للركض خلفه".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة