Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

معركة بودلير للدفاع عن مواطنه الرسام ديلاكروا ورومانطيقيته

صاحب "أزهار الشر" يحقق ثورة في عالم النقد قبل خوضه الشعر ومحاكمته كإباحي

شارل بودلير: حين كان صاحب "أزهار الشر" ناقداً (غيتي)

ملخص

رأى بودلير أنه ليس ثمة من خط يفصل بين ضروب الإبداع سوى الجودة والجدة والتجديد. وكان ذلك هو فعل إيمانه الفني حتى نهايته على أية حال.

للوهلة الأولى يبدو الأمر وكأن الشاعر الفرنسي شارل بودلير، الذي كان سيد الحداثة أواسط القرن الـ19، اكتشف في نفسه منذ بداياته اهتمامات فنية فأضاف النقد الفني إلى ممارساته الإبداعية.

لكن هذه الصورة ستبدو لنا خاطئة تماماً على ضوء تعرفنا أكثر وأكثر إلى حياة الشاعر وكتاباته المبكرة، بل إنها ليست صورة خاطئة وحسب، بل تناقض الواقع تماماً. ذلك بالتحديد لأن بودلير بدأ صحافياً وناقداً فنياً قبل أن يكتشف ملكاته الشعرية ليصبح خلال النصف الثاني من حياته واحداً من كبار الشعراء الفرنسيين في القرن الذي عاش فيه، وذلك حتى بعد أن ترجم نصوصاً للأميركي الرائد إدغار آلن بو الذي اتخذ منه على الدوام مثلاً أعلى له وسار على خطاه في عديد من المجالات التي كان بو رائداً فيها.

ومن ثم فإن علينا دائماً أن نقلب الآية لنصنف بودلير ناقداً فنياً انتقل ذات عام إلى كتابة الشعر فأبدع فيه كما كان قد أبدع قبل ذلك كصحافي وناقد. ولعل ما يمكن التوقف عنده هنا، هو أن بودلير لم يتحقق له القدر الأكبر من الشهرة والمكانة إلا من طريق الشعر وربما خصوصاً من خلال الفضيحة القضائية التي أسبغت مكانة كبرى على ديوانه "أزهار الشر" الذي ظل ممنوعاً من التداول أكثر من قرن من الزمن بفعل حكم قضائي حكم عليه بأنه شعر إباحي يفسد الأخلاق. غير أن ما يهمنا هنا بالتحديد هو جانب بودلير الآخر كناقد فني.

البحث عن زعامة

هذا الجانب يربط شاعرنا بالضرورة ومن أول الأمر وفي الوقت نفسه باثنين كبيرين من أساطين فن الرسم في فرنسا عند أواسط القرن الـ19، هما غوستاف كوربيه زعيم الواقعية من دون منازع، وأوجين ديلاكروا، زعيم الرومانطيقية الذي جعلته كتابات بودلير المبكرة عنه يتفوق في تلك الزعامة حتى على فيكتور هوغو الذي كان كثر يسلمون له بتلك الزعامة في مجالات المسرح والشعر والرواية وصولاً حتى إلى الرسم.

لكن بودلير أنكر على هوغو ذلك، وتحديداً في مجال الرسم كانطلاقة لبقية المجالات، صارخاً: "أبداً! مع احترامنا الشديد للسيد هوغو! ديلاكروا هو الزعيم المطلق في هذا السياق"، بل إن بودلير لم يكتف بذلك الحكم بل انطلق منه موضحاً أن مكانة ديلاكروا مؤكدة بالمطلق، ليس فقط بالنسبة إليه هو وحده كذواقة ينتمي إلى النخبة "بل بالنسبة حتى إلى الجمهور العريض الذي وجد الناقد الشاب نفسه منتمياً إليه طواعية"، لا سيما حين لا نجده متردداً في رجوعه إلى النجاح "الجماهيري الكبير" الذي استقبل به فن ديلاكروا منذ مشاركاته الأولى في  المعارض الباريسية الكبرى.

 

ولا ريب أن هذا ما كان يخطر في بال بودلير وهو، في خاتمة مقال له نشره بصحيفة "البلد" في يونيو (حزيران)  من عام 1855، يطرح على نفسه سؤالاً بسيطاً: ما الذي سيبقى من فن ديلاكروا للأزمان المقبلة؟ وما الذي سيقوله عنه التاريخ، ذلك القاضي الحاسم الذي ربما كانت مهمته الأولى "تصحيح الأخطاء المرتكبة"؟

يجيب بودلير عن سؤاليه هذين قائلاً بشكل قاطع، "إنه لمن السهولة بمكان، وعلى ضوء ما وصل إليه فن ديلاكروا أن نؤكد من دون مراء، أن نجيب أن التاريخ سيجارينا في تأكيدنا أن ما تحقق لديلاكروا إنما هو توليف منسجم ومدهش بين ما وسم فن رمبراندت من حس بالحميمية والسحر العميق، وما طبع فن روبنز ولو بران من تركيب متقن للديكور وملحقاته في كل لوحة، وما تميز به فيرونيزي من تلوين مذهل، لكن الأهم من ذلك هم المزايا الخاصة التي لا تأتي لدى ديلاكروا من أي إرث فني سابق عليه، بل من قوة وجودها في ذاته، بل ربما يمكننا أن نقول إنها لا تنبع إلا من الجزء الأكثر كآبة من الشعور بالشجن الذي ميز هذا القرن الذي نعيش فيه. وهو شيء لا شك أنه فريد في جدته وفي قدرته على جعل ديلاكروا فناناً فريداً من نوعه لا ينتمي إلى أي سابق له ولن يكون له وريث على الأرجح".

ثورة في عالم النقد

يقيناً أن هذا الكلام على رغم ما يطبعه من رنة حماسية، كان له وقع كبير على ضوء المكانة التي بات بودلير يتمتع بها، لا سيما منه الجانب الذي يفيد بأن ديلاكروا إنما هو حلقة متفردة في سلسلة الفنانين الأوروبيين الكبار الذين كانوا علامات أساسية في تاريخ الفن التشكيلي من دون أن يولد أي واحد منهم من سابقين عليه ممهداً لمن سيلحقون به.

ومن هنا، كان بودلير يعزو إلى ديلاكروا تلك المكانة ذاكراً في معرض الحديث عنه، أسماء أولئك الكبار الذي نعرف الفرادة المطلقة لكل واحد منهم، إضافة إلى آخرين من كبار الكبار أيضاً، من الذين لا يتوانى بودلير عن إيراد أسمائهم في مجالات أخرى تناول فيها فن ديلاكروا من موقع ربطه بالرومانطيقية والإصرار على تزعمه لها، مقابل مجالات تحدث فيها عن كوربيه وواقعيته وزعامته لتلك الواقعية مقارناً بينه هو الآخر ونفس أولئك الكبار الذي غالباً ما أشار الشاعر/الناقد إلى واقعية رومانطيقيتهم، ورومانطيقية الواقعية لديهم، وما ذلك إلا للتركيز على تلك الفرادة التي سمح لنفسه بأن يسبغها على كل فنان كبير يريد أن يخرجه عن قيود التصنيفات.

 ولعل هذا ما كان في الإمكان ملاحظته لدى بودلير منذ بدايته كناقد. ويقيناً أن حياة بودلير (1821 – 1867) لم تكن سوى كفاح متواصل في سبيل العيش وإبعاد شبح الفقر عن حياته. وذلك على عكس ما قد توحي به صوره واللوحات التي رسم فيها من كونه أرستقراطياً يعيش في رخاء.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

النقد لأسباب معيشية

في الحقيقة إن بودلير لم يخض الكتابة الصحافية منذ مطلع شبابه إلا بدافع الحاجة المادية، مما يجعلنا نؤكد هنا أن ذلك المبدع الذي يعتبر اليوم واحداً من كبار الشعراء في تاريخ فرنسا، إنما بدأ حياته ساعياً وراء الرزق.

 ومن هنا ما يقوله كاتبو سيرته عادة من أن مقالاته الفنية الأولى وبخاصة حول صالونات الأعوام التي انقضت بين 1845 و1859 إذا كانت قد مكنته من أن يكسب رزقه، حتى من دون أن يقدم أية تنازلات أو مجاملات من تلك التي اعتاد نقاد كثر أن يقدموها لتساعدهم في عيشهم، تمكنت في الوقت نفسه، وربما لتلك الأسباب بالذات أن تكون بقدر الصالونات نفسها، في خلفية الثورة الفنية الكبرى التي نعمت الحياة الفنية الفرنسية في أفيائها خلال تلك المرحلة الانعطافية، التي أوصل فيها بودلير لغة النقد الفني إلى ذرى طورت ما كان قد بدأه عدد من النقاد السابقين عليه لا سيما الأديب ذي النفوذ شانفلوري الذي احتضنه منذ البداية وعرفه بالأوساط الثقافية.

لا فواصل بين ضروب الإبداع

والحال أن تلك الرفقة الطيبة وذلك الوعي الفني والنزاهة الفكرية كانت كلها متضافرة العناصر التي مكنت بودلير من أن يبدع ذلك التصور للفن الجديد الذي لا يلغي ما سبقه وإن كان يمهد من دون أي قدر من الاستتباع للجديد المقبل.

وفي هذا الإطار يمكننا على أية حال أن نموضع اهتمام بودلير بفنانين متناقضين كلياً كديلاكروا وكوربيه على قدم المساواة، بل يمكننا حتى أن نموضع ما استغربه كثر من ضم هذا الشاعر الناقد لفاغنر، الموسيقي الكبير، وغيره من أساطين فنون وآداب أوروبية أخرى، إلى مجمعه الإبداعي غير واجد أية غضاضة في أن يتحول هو نفسه، وعلى ضوء ذلك كله إلى ذلك الشاعر الكبير الذي سيكونه خلال العقود الباقية القليلة من حياته، من دون أن ينسى بالطبع فضل الفن التشكيلي على تكوينه كناقد كبير لهذا الفن.

 ومن هنا نراه يهتم بمانيه الفرنسي ذي التكوين الإسباني اهتمامه بويستلر الإنجليزي وغيرهما ولسان حاله يقول ليس ثمة من خط يفصل بين ضروب الإبداع سوى الجودة والجدة والتجديد. وكان ذلك هو فعل إيمانه الفني حتى نهايته على أية حال.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة