Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إريك فروم يعزز مكانة مدرسة فرانكفورت من دون أن يبدو من كبارها

دفاع صادق عن فرويد على الضد ممن حولوه إلى أسطورة ووقفوا ضده حين عدل أفكاره

إريك فروم (1900 - 1980) (غيتي)

ملخص

من هنا لم يكن "مهمة فرويد" سوى محاولة لإعادة مؤسس التحليل النفسي إلى مكانته العلمية الحقيقية بالنظر إلى أن السنوات الطويلة (نحو نصف قرن) التي انقضت منذ تأسيس فرويد نظرياته في التحليل النفسي امتلأت بالاكتشافات العلمية والأفكار التجديدية بشكل كان من شأنه أن يسمح لفرويد بأن يعيش إعادة نظر متواصلة في عديد من التأكيدات بدلاً من أن يجمد فكره عند زمن سابق كانت له أفكاره.

هل من الممكن وضع تصنيف تراتبي يحدد ما الكتب الأكثر شهرة وانتشاراً بين عشرات الكتب التي صدرت طوال الثلثين الأخيرين من القرن الـ20 منتسبة إلى ذلك التيار الفكري الذي عرف اختصاراً باسم "مدرسة فرانكفورت

بداية وللعثور على جواب هنا لا بد من أن نذكر أن كون كتاب معين واسع الشهرة لا يعني أبداً أنه الكتاب الأفضل، وهو تذكير لا يعني على أية حال أن كتباً معينة لا تكون في مجال ما جامعة بين الشهرة والجودة. ولعل هذا ينطبق في مجالنا هنا على الكتابين أو الكتب الثلاثة التي ستذكر في تلك الإجابة. فمن منظور معين لا شك أن ثمة ما لا يقل عن أربعة كتب يمكن ذكرها، منها اثنان قد يكون عنوانهما في خلفية شهرتهما، وآخران لا شك أن العنوان لعب في كل منهما دوراً، ولكن مع شيء من خصوصية "سلبية". فبالنسبة إلى الكتابين الأولين وهما "الجنس والحضارة" لهربرت ماركوزه، و"الثورة الجنسية" لفيلهلم رايش، يعرف الملمون بشؤون الفلسفة أن شهرة الكتابين قد تتعلق بوجود كلمة جنس في العنوان، لكن كلاً من مؤلفيهما كان من الشهرة لدى ظهورهما معتبراً من أقطاب "مدرسة فرانكفورت" إلى درجة لا تحوجه إلى العنوان كي يشتهر، بل يمكن أن يكون العنوان اشتغل ضده لمعرفة جمهور عريض بمكانة وجدية مؤلفه، أما بالنسبة إلى الكتابين الآخرين، فالأمر يختلف.

 

من الحب إلى الأمل

هذان الكتابان هما "فن الحب" و"مبدأ الأمل"، وهما لمؤلف واحد هو إريك فروم، ولا شك أن اسم المؤلف لم يلعب هنا أي دور في انتشار الكتابين حاله في هذا السياق حال كتاب فرويد "تفسير الأحلام"، بحسب عنوانه الشعبي الذي نشره تبعاً لإقبال ملايين القراء على اقتنائه بصرف النظر عن اسم مؤلفه! وهنا لا بد من الإشارة إلى أن إريك فروم لم يكن إطلاقاً على شهرة زملائه في "مدرسة فرانكفورت"، ولا سيما حين ظهر كل من كتابيه هذين، ومن هنا قُرئا انطلاقاً من موضوعيهما وعنوانيهما بالتالي. وقد يكون في مقدورنا هنا أن نؤكد أن قراء هذين الكتابين لا يعرفون حتى اليوم شيئاً عن المؤلف وكونه في حقيقته واحداً من الجيل الأول بين "الفرانكفورتيين"، هو الذي لعب الدور الأكبر في انفتاح هؤلاء على فكر كارل ماركس، وكذلك على فكر فرويد الذي بقي مخلصاً لفكره وتعاليمه حتى صدور واحد من كتبه الأخيرة وهو "مهمة فرويد" الذي صدم كثراً من الفرويديين انطلاقاً من فهمهم الخاطئ له، إذ اعتبروه، كما سنرى بعد سطور، معادياً لفرويد ناسفاً لعديد من أفكاره، لكنه لم يكن كذلك بالطبع.

والمهم قبل تناول هذا الموضوع ولو بقدر كبير من الإيجاز، أن نشير إلى أن أهمية "فن الحب"، وحتى "مبدأ الأمل"، والكتابين ينطلقان من فرويد بالنسبة إلى أولهما، ومن ماركس بالنسبة إلى الثاني، إنما من منطلقات تصل بين هذين المفكرين وبين "مدرسة فرانكفورت" القائمة على الفكر الاجتماعي النقدي أساساً.

وأهمية الكتابين بالنسبة إلى الجمهور العريض إنما تنبع من شعبية مفهومي الحب والأمل اللذين كانا في ذهن ذلك الجمهور العريض في الزمن الذي صدر فيه الكتابان، سنوات الـ50 من القرن الـ20، ومن هنا شهرتهما، وقد تأرجح فيهما المؤلف بإيجابية مغرية بين موضوعيه.

في غمرة "أخطاء" فرويد

أما بالنسبة إلى "مهمة فرويد" وهو التالي في الشهرة للكتابين الأولين، فقد فهم منذ البداية باعتباره بيدقاً إضافياً في الحرب الضروس التي كانت قد بدأت تشن على سيغموند فرويد، مما جعل العارفين بفكر فروم ومؤلفاته، وكثيراً من المحللين النفسيين وكبار المنظرين في هذا المجال، وهم جميعاً كانوا مطلعين على إنجازات فروم، في التقريب بين فرويد و"مدرسة فرانكفورت"، يعدون الأمر نوعاً من الردة من جانب هذا الفيلسوف يحاول من خلالها ضم صوته إلى أصوات مناوئي فرويد، وهو أمر لم يكن صحيحاً على الإطلاق. ففي حقيقة أمره لم يكن "مهمة فرويد" كتاباً ضد فرويد، بل ضد إيرنست جونز، وضد كل الذين على خطى هذا الأخير، وكان همهم تحويل فرويد إلى أسطورة وكلامه إلى "كلام مقدس لا يمكن مجادلته".

وسيقول لنا فروم في كتابه هذا إن فرويد إنما كان ضحية لأولئك الذين حولوه إلى معبود ولم يرفضوا فقط جملة إعادات النظر التي حاولت تقويم الأمور، بل حتى مساهمات فرويد نفسه في هذا المجال، وهو بالطبع ما كان من كبار "مقترفيه" في نظر إريك فروم، وإيرنست جونز نفسه الذي كان في عام "مهمة فرويد" (1959) قد أصدر السيرة ذات الأجزاء الثلاثة التي كرسها لأستاذه فرويد، وهي سيرة حولت معلم فيينا الكبير إلى أسطورة لا تمس. فهو دائماً محق حين يختلف مع كارل يونغ أو مع ألفرد أدلر. وهو لم يأخذ شيئاً من سابقيه، وهو عصي على أي مناوأة. أما من بين المقربين منه، مثل أوتو رانك وكارل أبراهام وحتى ميلاني كلاين لاحقاً وعشرات غيرهم، فليس ثمة سوى حاسدين له مخطئين في معارضته أو تلامذة له فقدوا عقلهم، وهنا يخص جونز بالحديث ساندور فرينزي وأوتو رانك اللذين "قادهما جنونهما إلى الاختلاف مع فرويد مخطئين في حقه على الدوام"، بحسب تأكيدات جونز!

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

فرويد وأخطاؤه "الوحيدة"

فهل كان فرويد، في رأي جونز على صواب دائماً؟ نعم إلا في حالات معينة منها تراجعه، وقد تقدمت به السن عن عديد من تأكيدات له سابقة، يجيب جونز. وكان ذلك بخاصة حين تراجع فرويد عن أفكار سابقة له تتعلق خصوصاً بعلاقته بأمه، ولكن أيضاً ببعض ما جاء في كتابه المبكر المتضمن "ثلاثة مقالات في النظرية الجنسية"، أو ما يتعلق بعقدة "أوديب" وفي مقابلها "عقدة إليكترا". ولئن كنا نعرف أن خلافاته الأساسية مع يونغ كما مع أدلر كانت من حول هذه المسائل تحديداً، وأن فرويد انتظر السنوات الأخيرة من حياته قبل أن يلتف على تلك الموضوعات برمتها ما كان في إمكانه أن يحسب لمصلحة فرويد كعالم، ها هو إيرنست جونز يخطئه هنا لـ"تراجعه" فيأتي إريك فروم لينظر إلى الأمر من منطلق معاكس تماماً يسبغ على فرويد مزيداً من الاحترام العلمي، ولكن على الضد مما ذهب إليه جونز.

ومن هنا لم يكن "مهمة فرويد" سوى محاولة لإعادة مؤسس التحليل النفسي إلى مكانته العلمية الحقيقية بالنظر إلى أن السنوات الطويلة (نحو نصف قرن) التي انقضت منذ تأسيس فرويد نظرياته في التحليل النفسي امتلأت بالاكتشافات العلمية والأفكار التجديدية بشكل كان من شأنه أن يسمح لفرويد بأن يعيش إعادة نظر متواصلة في عديد من التأكيدات بدلاً من أن يجمد فكره عند زمن سابق كانت له أفكاره.

انتفاضة فروم

وكان ذلك في الحقيقة ما انتفض عليه فروم (1900 - 1980) المولود في فرانكفورت الألمانية ليموت في لوكارنو بسويسرا. لقد انتفض ضد تقديس فرويد بكل جرأة من دون أن يحاول ولو في صفحة من صفحات "مهمة فرويد" أن يحد من قيمة معلمه الفكرية، وهو الذي لم يقبل أبداً أن يوصف بالفيلسوف بل اعتبر نفسه على الدوام عالم تحليل نفسي وعالم اجتماع، ولم يقصر لحظة في إعلان انتمائه إلى فرويدية اعتبرها دائماً في حاجة إلى تطوير متواصل، ولكن ليس فقط من منطلق فرويدي أمين لأفكار المعلم لا لجمودية تلك الأفكار. وهذا التواضع العلمي هو الذي مكن فروم من أن يكتسب لأفكاره تلك، التي منها الأكثر تعبيراً عن هموم الناس في قرن ارتبكت فيه الأمور والأفكار بما فيها، كما أكد بنفسه مرات عديدة، أفكار معلميه الكبيرين اللذين "علمانا معاً أن الفكر الجامد يتحول إلى دوغما سرعان ما تخرج عن الزمن وتطور الأفكار في زمن يستشري تبدل الأفكار وتفسير تلك الأفكار فيه بشكل لا يتوقف".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة