Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

امرأة فاتنة بين الأب والابن دفعت رينوار نحو الإخراج السينمائي

شاعر الشاشة الفرنسية يعود من الحرب شاباً ليخوض معركة البقاء بين "نهايات" الرسم وبدايات الفن السابع

مشهد من فيلم "رينوار" لجيل بوردوس (موقع الفيلم)

ملخص

مهما يكن من أمر لن يطول الوقت قبل أن تبدأ أندريه بالتعبير عن رغباتها السينمائية وبوضوح تام، في الأقل أمام جان الذي كان بفضلها أول من أصيب بعدوى السينما في محيطه، وهكذا راحت السينما تظهر لديه كشغف يتملكه هو الآخر ويستبد به، بل يكاد يصبح بالنسبة إليه بديلاً عن شغفه بالفاتنة الشابة.

"في الحقيقة أنه ما كان ليخطر في بالي أن أضع قدمي في عالم السينما لولا إلحاح زوجتي والأمل الذي خامرني في أن أجعل منها نجمة كبيرة من نجوم الفن السابع"، هذا الكلام الذي قاله يوماً واحد من كبار المخرجين السينمائيين، وبدا للوهلة الأولى غير قابل للتصديق، لم يقله مخرج من الدرجة الرابعة أو الخامسة ممن ظلوا يبدون طوال حياتهم طارئين على هذا الفن، بل قاله وبكل بساطة جان رينوار، ذلك الفنان الذي عرف دائماً بشاعر السينما ونظر إليه باعتباره أكبر مبدع في هذا الفن في فرنسا، وواحداً من كبار الكبار في العالم. ولم يكن ثمة من سبب يدعو إلى عدم تصديقه بالنظر إلى أنه في أفلامه الأولى حقق لتلك الزوجة أمنيتها في تبدل بسيط أسبغه عليها محولاً اسمها من أندريه إلى كاثرين هيسلينغ.

 

لكن الواقع يقول لنا إنه أبداً لم يقم بذلك التحويل بغية أن ينسى الناس أن أندريه، وقبل أن تصبح زوجته ونجمة أفلامه، كانت بجمالها الأخاذ وذكائها المعترف به آخر موديل للوحات أبيه وآخر حب في حياة هذا الأخير، الحب الذي عزاه في موت زوجته، وهون عليه تقبل أن ولدين من أولاده جرحا على الجبهة خلال الحرب العالمية الأولى، من بينهما جان نفسه الذي كان حينها (عام 1915) في مقتبل العمر، وجند في الحرب، فلما أصيب عاد للحياة المدنية شاباً لطيفاً رومانسياً يعيش في كنف أبيه، وينظر بكثير من التعاطف و"الود" إلى أندريه من دون أن يجرؤ أول الأمر على الدنو منها، ربما خوفاً من أبيه أو خوفاً عليه. فبيار أوغست رينوار رسام الانطباعية الكبير كان يعيش آخر أيامه ولا يجد العزاء إلا لدى تلك الفاتنة، ولكن الرسام الكبير سيموت عما قريب وسيرثه ابنه الجريح ليجد في الإرث تلك الفاتنة التي لن يلبث أن يتزوجها.

امرأة بين رجلين

هذه الحكاية معروفة منذ زمن بعيد ونجدها في سيرة الأب كما نجدها في مذكرات الابن، وتماماً كما أن أندريه فتنت الذين تعرفوا عليها في لوحات الأب الأخيرة المفعمة بالحيوية والحياة، وعبقت بالجمال والعذوبة على رغم أن بيار أوغست رسم معظمها خلال الحرب، وعلى رغم أحزانه الشخصية، ستفتن جماهير السينما، ولكن تحت اسم كاثرين كما أشرنا، في أفلام جان الأولى، تلك الأفلام التي سيقول عنها هذا الأخير إنها "كانت بالنسبة إليها وإلي هبة من السماء". ولكن ليس فقط في مضمار الفن والفن السينمائي الذي لم تكن له به أية علاقة أصلاً، بل في مضمار الحياة نفسها. فالحقيقة أن كاثرين حين أطلت من خلال أفلام زوجها الشاب جرى استقبالها كما استقبلت كموديل في لوحات حبيبها السابق العجوز، بحيث لم يأبه أحد بواقع أنها إنما كانت حبيبة هذا الأخير، فلم تجابه المسألة كمسألة أخلاقية على الإطلاق، بل على طريقة "من نافل القول"، وكأنه كان من الطبيعي أن "يرث" الابن تلك الثروة الاستثنائية ناهيك عن أن أندريه / كاثرين كانت الدافع الذي حرك جان رينوار ليصبح سينمائياً، وسينمائياً كبيراً بالتحديد. ويبدو أن السينما رأت ولو متأخرة نحو قرن من الزمن بل ثلاثة أعوام فقط، قبل حلول الذكرى المئوية للقاء الأول بين جان وأندريه، أن تحتفل بكل هذه الحكاية من خلال فيلم للمخرج جيل بوردوس عرض في ختام دورة عام 2012 لمهرجان "كان" السينمائي الفرنسي. فذلك اللقاء جرى في صيف عام 2015 حين عاد المجند الشاب جان رينوار ذو الـ21 من عمره، وجرحته في الجبين وشلت حركته تقريباً، شظايا قصف طاول خندقه خلال المعارك مع الألمان.

الجريح والعاشق العجوز

لقد عاد جان يومها من لهيب الحرب وضجيجها والمجازر التي أسفرت عنها، وكما يروي لنا الفيلم، ليعيش في البيت الريفي الكبير في مدينة "كاني سورمير" إذ كان أبوه اشترى المنزل جاعلاً منه داراً للعائلة ألحق بها محترفاً للرسم. وفي تلك الدار التقى أندريه التي كانت رفيقة أبيه وموديله وعزاء أيامه الأخيرة، وهي التي آنست الأب أحزانه المتعددة لكنها آنسته كذلك الحرب التي باتت لسكان المنطقة وسكان البيت مجرد أخبار تأتي من البعيد، فباتت الآن، بعد عودة المجند الجريح، شيئاً لا بد لهم من أن يتذكروه بصورة يومية من خلال مصاب الشاب الذي سرعان ما سيجد بدوره عزاءه في الفردوس المنزلي، ولكن أيضاً من خلال احتكاكه اليومي بأندريه التي كانت مهمتها الرئيسة، غير المعلنة على أية حال، إشعار جميع الموجودين هنا بأن الدنيا بألف خير، وأن الحرب بعيدة جداً، وأنها لا بد أن تنتهي قريباً ويعود السرور والألق للحياة اليومية لجميع الناس. غير أن هذا الوعد سيبدو في تلك المرحلة نوعاً من الأمنية البعيدة التحقق، ولكن هذه المرة من جراء ما لم يكن متوقعاً: من جراء الشغف الذي راح جان يشعره، بل يعيشه تجاه أندريه، ثم ملاحظته أن شغف الفاتنة يكاد ينحصر في فن السينما الذي كان بدأ يفرض حضوره في الحياة اليومية للناس الذين راح اهتمامهم بالحرب يتضاءل مقارنة بذلك الفن الجديد. ومن هنا تحت الضغط الكتوم لرغبات أندريه المسكوت عنها بالنسبة إلى كثر من أهل المكان، ولم تفلت من ملاحظة جان الذي راح، من ناحيته، يستكشف ذلك الشغف السينمائي ويستحوذ عليه فقط من خلال اهتمامه بحبيبة أبيه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وانكشفت الرغبات

مهما يكن من أمر، لن يطول الوقت قبل أن تبدأ أندريه بالتعبير عن رغباتها السينمائية وبوضوح تام، في الأقل أمام جان الذي كان بفضلها أول من أصيب بعدوى السينما في محيطه. وهكذا راحت السينما تظهر لديه كشغف يتملكه هو الآخر ويستبد به، بل يكاد يصبح بالنسبة إليه بديلاً عن شغفه بالفاتنة الشابة. وهنا بما أن الشغفين صارا بالنسبة إلى جان شغفاً واحداً، راحت الصراعات تنمو في داخله ودائماً من حول علاقته المتينة بأبيه. فالابن الشاب لا يمكنه أن يخوض فن السينما وقد راح يتمرس في التعرف إليه أكثر وأكثر، إلا من خلال، ليس فقط وعوده التي أسبغها على أندريه، بل أكثر من هذا، من خلال تحول حياته هو الآخر إلى حياة مبنية على الرغبات السينمائية. لكنه كان يعرف تماماً أن تحقق أمنيته من خلال أندريه ومعها سيشكل، إن لم يكن حرباً مع أبيه وهو أمر غير وارد على الإطلاق، ففي الأقل صدمة لأبيه الذي إن كان يمكنه، وأندريه تستعار بين الحين والآخر من جانب رسامين يتطلعون إلى رسمها، سواء كانوا من رفاق أوغست رينوار أم من فنانين أقل قرباً منه، فإنه يبقى واثقاً هنا أن الأفضلية ستظل له، وتحديداً من الناحية الفنية، وهو الذي يعرف روح أندريه من الداخل ويتقن تقنيات رسم روحها ووجهها وجسدها بأفضل مما قد يفعل أي رسام آخر، فإن كان يمكنه ذلك فإنه يعجز عن خوض المعركة وربحها إن هو خاضها ضمن إطار السينما والتعامل مع أندريه نفسها.

صراع شكسبيري

ومن هنا بالطبع الجانب "الشكسبيري" من ذلك الصراع الذي يتصاعد بين الأب والابن، وبالتالي بين فني الرسم والسينما، وتحديداً من خلال تلك المرأة التي حسمت اختياراتها الأولى ولم يبق أمامها إلا أن تحسم اختيارها النهائي بين أوغست وجان. الأول يمثل ماضيها بل "ماضي الفن" حتى، والثاني يمثل مستقبلها، وبالتالي مستقبل الفن كذلك.

صحيح أن الفيلم لم يكن على عمق يمكنه من أن يصور حقيقة ذلك الصراع، لكنه كان من الاجتهاد بحيث صور تلك الخلفية التي كانت جديرة بأن تظهر يوماً على الشاشة، منتصرة بالتأكيد للفن الذي ينتمي الفيلم إليه، بل إن الفيلم أتى من العذوبة بحيث أتاح للفنان الفرنسي الكبير ميشال بوكيه أن يؤدي دور رينوار الأب، بروعة ذكرت متفرجي الفيلم، بالدور الذي كان الفنان نفسه لعبه في فيلم "سيرة" سابق تناول، تلك المرة، السنوات الأخيرة من حياة الرئيس فرانسوا ميتران، إذ لعب بوكيه نفسه في "متنزه شان دي مارس" دور الرئيس، وهو يحبك بذكاء شديد ألاعيبه السياسية الماكرة للانتقام من بارونات حزبه الذين كانوا في طريقهم لتدمير كل ما كان بناه لذلك الحزب.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة